وثائقي

النقابيون يودعون المناضل محمد الهادي العفيف

الشعب نيوز/ متابعات - ودع النقابيون وجموع  من العمال والموظفين والمواطنين بعد عصر اليوم الثلاثاء 10جانفي 2023 المأسوف عليه الاخ محمد الهادي العفيف مناضل قطاع التعليم الاساسي وجهة نابل بوجه خاص واحد أيقونات النضال النقابي في صفوف الاتحاد العام التونسي للشغل. توفي الراحل العزيز فجر الاثنين 9 جانفي بعد صراع طويل مع المريض حيث قاوم آلامه وأوجاعه غير مبال بوقعها على جسده الذي انهكته الادوية ليستمر في نضاله اليومي من اجل الدفاع عن الشغالين ورفع راية الاتحاد عالية خفاقة.

اعداد غفيرة من المودعين

فقد تحول النقابيون باعداد غفيرة الى مقبرة الزهراء الكائنة على طريق الهوارية بمدينة حمام الاغزاز حيث حرصوا على توديع الرجل بما يليق به من اجماع وتقدير ومحبة. الاخ نورالدين الطبوبي الامين العام للاتحاد الذي كان مرفوقا بعدد من الاخوة اعضاء المكتب التنفيذي والهيئة الادارية - وطنيا وجهويا ومحليا - شارك في مراسم التوديع والقى بالمناسبة كلمة مؤثرة استعرض فيها خصال الفقيد ومناقبه وتضحيته الجسيمة من اجل الدفاع عن العمال وعن الاتحاد. قال الاخ نورالدين الطبوبي:

ممزقون بين الحزن لغيابك والاعتزاز بارتفاعك

محمّد الهادي العفيف، رفيقا وأخا حبيبا مناضلا لا يفقد البوصلة، نقف في حضرتك أيّها الرفيق لنودّعك على أمل لقاء أبدي لا ينقطع،

في هذه اللحظة المَهيبة نحن متمزّقون بين أن نحزن لغيابك أم نعتزّ بارتفاعك، لا قدّيسا، بل مناضلا شامخا طاهرا نظيفا عفيفا.. نعزّي أنفسنا وأهلك ورفاقك أم نعزّي وطنا حملتَ تفاصيله بين أضلعك المتعبة دوما وعبَّأتَ رئتيْك المحطّمتيْن بنقي هوائه..

نودّعك وتودّعك نابل بأكملها بعد أن ودّعت منذ أيّام رفيقيك حامد حسني كاتب عام الفرع الجامعي للفلاحة ومن قبله أحمد الدايخ الكاتب العام السابق للاتحاد المحلّي بمنزل تميم

ليس سهلا نعيُك، والأصعب أن توفَّى حقَّك وأنت سيّد الكلمة تعشق العِبارةَ وتَفْنى في المعنى..أنت الذي ينطبق عليك قولُ شاعر تونس حبيبُك الذي تعشَقْ وتذوب، الصغير أولاد أحمد: 

"بحياتي نِلْتُ ما تسمُو بهِ هذي الحياةْ
وزرعتُ الشكَّ في أرضِ اليقينْ
تونسيٌ مرّةً واحدة
تونسيٌ دُفْعةً واحدةً.. أوْ لا أكونْ"

أنت العصفور" الذي شقَّ طريقه منذ سنّ مبكرّة عاشقا للحرّية مدافعا شرسا عن قيم الديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية، قيمٌ آمنت بها،

قلبك المرهق يتسع للعالم ياسره

تتحرّر من قيود المحلّي والقطري والإقليمي إلى عالمٍ إنسانيٍ رحْبٍ وأفقٍ لا تحدّه قيودُ العِرقِ والجنس واللّون ولا أسْرُ الجغرافيا والحدود...فقد كان قلبُك المرهق يتّسع للعالم بأسره فكنت تسبّح بانتفاضات العمّال والشعوب في الشيلي ونيكاراغوا واليونان وجنوب إفريقيا والجزائر واليمن وسوريا وبغداد كما لو كانت في حارات تونس وقراها..

ولم تنس يوما في كلّ المعامع القدسَ عروسَ المدائن وفلسطين رمز المقاومة فأحببت ترابها عطرا ووسادة ولحافا ومرقدا أخيرا، سيُذرَّى على قبرِك اليومَ بعضٌ من حبّات ترابِها هديةً من رفاقك الفلسطينيين الذين أحببتهم وأحبّوك وكانوا أوّل من نعاك وبكاك وزفّك إلى لقاء قوافل الشهداء والموتى العزيزين..

لقد كان دوما فكرُك التوّاق ينفتح لكلّ الآفاق فتحرّرت من سجونُ التصنيفات والاصطفافات الضيّقة وحلّقت كما تحلّق الطيور في أعالي السماء.. فلم تؤْذيك الجراحات ولا آلام الجسد الهزيل ولا طعنات الغادرين الذي أثخنوا روحك بسمومهم ولكنّك كنت تتسامى عن حقدهم وتتعالى عن تخوينهم وتغفر لهم حمقهم وغباءهم وتردّد قول مظفّر النوّاب:

" سَتغْفِرُ،،،

قلبُكَ أوسع من كُلِّ ما قد أســاؤوا

سَـــتَغْفر،،

إلاّ لجِنس الذئـــاب،،،"


أتعبك الجسد ولكنّك كنت من أهل العزم والتحدّي وممن لا يهربون من ساحات الحرب وكنت مثالا لمقاومة المرض وحبّ الحياة حدَّ العناد الذي فسّره البعض بالانتحار وكنت مصرّا على اعتباره تعلّقا بالأمل استكمالا للمعارك التي كنت تخوضها بلا هوادة متشبّثا بالحياة متحدّيا لجبروت الموت فانطبق عليك قول صديقك أولاد أحمد:

"غداً ليس يوماً أكيدا
ها هي الكلماتُ
والوقتُ أبيضُ قانٍ
نُشَيِّدُ للموتِ عُشّيْن
عشّاً حديثًا …
وعشّاً جديدا
أيها الطِبُّ والربُّ:
لا تتركاني مع الذئب وحدي
وإن شئتما فدعاني إلى وِحدتي …
واحداً ووحيدَا.."

"العصفور"  ذلك الطفل الصغير على الدوام 

محمد الهادي العفيف "العصفور" كما يحلو لرفاقك وأصدقائك مناداتك، من تكون غير ذلك الطفل الصغير على الدوام إلى يوم مماتك الذي انبعث إلى الحياة من رحم أم حنون مقاومة ذات فجر يوم 20 ديسمبر 1961

تلقّيتَ تعليمَك الابتدائي بالمدرسة الابتدائية طريق الشاطئ بقليبية ومنها ارتقيت إلى التعليم الثانوي بمعهد عبد العزيز الخوجة بقليبية، وتأهّلت من قلعة قليبية للدراسة الجامعية بكلية الآداب منوبة حمراءُ الكلّيات وساحةُ النضال الطلاّبي..

ومنها رمتك الأقدار في معمعان التعليم للتدريس كأبناء جيلك ليكون موعدك مع أّوّل مسيرتك في التعليم سنة 1986 في مدرسة الراڨوبة الحمراء بنصر الله بالقيروان فتلقّيت منها رصيدا لا ينضب من عشق مهنة التدريس وحبّا لا ينقطع للاتحاد فكنت من بين المؤسّسين لنقابة التعليم الابتدائي بسيدي نصر الله سنة 1990 على إثر غلق ملفّ الأزمة النقابية وعودة الشرعية.

ومنها انتقلت إلى مدرسة الكرمانية فإلى مدرسة زاوية المڨايز فإلى المدرسة الابتدائية أشرف بن عزيزة دار علوش.. أين استكملتَ مسيرتك التعليمية في أكتوبر 2022 ولم يسعفك المرض وباغتك الموت أشهرا قليلة بعد إحالتك على التقاعد وتكريمك من قبل زميلاتك وزملائك.

"عصفور" الحرّية العنيد في الدّفاع عن قيم الثورة

"اشتدّ عود عصفور الحركة التلمذية ورفرفت أجنحته على وطأة الأعاصير والنكسات والإخفاقات والمطاردات الأمنية ونحت لنفسه شخصيْة الثائر المتمرّد العاشق للشعب والوطن وواصل النضال من مواقع متقدّمة بما فيها كليّة الآداب بمنوبة سنة 1981.

"عصفور" الحرّية كان عنيدا في الدّفاع عن قيم الثورة وعن استقلالية الاتحاد العام لطلبة تونس ثمّ عن استقلالية الاتحاد العام التونسي للشّغل.

عاشق الحرية لعب أدوارا مركزية داخل الحركة الطلابية طوال سنوات دراسته الجامعيّة حيث تولْى مهمة الناطق الرسمي باسم النقابيين الثوريين زمن الاستبداد والقمع المفتوح وعرف زنازين الإيقاف ودهاليز وزارة الداخلية أواخر سنة 1985.

وكان مناضلا حقوقيا من أبناء الرابطة التونسية لحقوق الإنسان الأبرار فلم يتخلّف يوما في الدفاع عنها ضدّ تضييقات السلطة ولا في الوقوف إلى جانب المظلومين وفي وجه الانتهاكات دون تمييز أو تفرقة..

وكان عاشقا للثقافة ومناصرا للإبداع وساهم في إنجاح تجربة نوادي سينما الهواة بقليبية التي كان فرعها منارة في الوطن.

وعشق الشعراء ولهج بشعر المتنبّي والشابّي ومنوّر صمادح ومختار اللغماني ومظفّر النَوّاب ومحمود درويش وسميح القاسم والصغير أولاد أحمد والطيب بوعلاق وآخرون بلا حصر أو إحصاء..

مسؤوليات نقابية عدّة لأكثر من عقدين

لقد تقلّد رفيقنا العفيف مسؤوليات نقابية عدّة بدءا بالنقابات الأساسية مرورا بالفرع الجامعي للتعليم الأساسي بنابل لأكثر من عقدين وصولا إلى نيل ثقة النقابيين ليكون عضوا في المكتب التنفيذي للاتحاد الجهوي للشغل بنابل طيلة دورتين.

ولمّا كان دوما مؤمنا بوعي بوجوب ضمان الاستمرارية والتداول في المسؤولية النقابية فقد خيّر عدم الترشح للمكتب التنفيذي الجهوي والتفرّغ للفرع الجامعي منذ سنة 2018.

كان ابن الاتحاد البار، أو ليس هو من قال بحكمة بالغة: "الاتحاد فكرة.. والفكرة لا تموت.." فأحبّ الاتحاد حدّ الولَه وتحدّى كلّ شيء دفاعا عنه وكان مهوسا بالخيمة وبترتيب البيت الداخلي وبضمان الوحدة ولو استدعى الأمر تنازلات، لأنه يعتقد جازما أنّ تونس في حاجة دوما إلى الاتحاد وأن دور النقابيات والنقابيين في المراحل الصعبة لا يمكن تعويضه بأي دور آخر.. فكان يصرّ حتّى وهو في أوج أزمات مرضه على الحضور واستكمال النشاط والمهمّات ومتابعة الشأن النقابي..

العصفور مسكون بمنظّمة حشّاد لأنّه يدرك قيمتها ومكانتها وعمقها الشعبي ودورها الوطني ويخاف عليها أكثر من خوفه على حياته وببناته.. العفيف لم يكن نقابيا عاديا.. كان حاملا لهموم شعبه مدافعا عن المستضعفين مؤمنا بهم.

رحل العفيف جسدا لكنه سيستمر بيننا حيّا نابضا عفيّا

 تودّع جهة نابل مناضلا صلبا.. نوعيا.. مختلفا.. محبّا للناس والوطن.. لم يؤذ أحدا ولم يسء إلى أيّ كان ولو كان له خصما..

رحل العفيف جسدا لكنه سيستمر بيننا حيّا نابضا عفيّا...العفيف ليس رجلا عاديا إنه رجل بحجم وطن..

نعزّي زوجتك ليلى وبناتك فداء وغادة وسيرين وابنك فادي وبقيّة الأهل..

نعزّي الوطن ونعزّي أنفسنا فيك ونعزّي نابل وقليبية والزهراء وحمّام الاغزاز والهوارية ربوعَك ومراتعَك...

نعاهدك أن نبقى على العهد مخلصين لشعبنا..

العفيف روحك الآن تحلّق عاليا وقد كنت دوما تؤمن بأنّ النضال تختزله فكرة.. لذلك سنواصل تجسيم قيمك و أفكارك..

ف" لا شيء يطلَعُ من مرايا البحرِ في هذا الحصارِ عليكَ

أن تجِدَ الجسدْ في فكرة أُخرى

 وأن تجد البلدْ في جُثَّةٍ أخرى

 وأن تجِدَ انفجاري في مكان الانفجار..

 أينما وَلَّيْتَ وجهكَ:

 كلُّ شيء قابلٌ للانفجارِ".

رحم الله الفقيد العزيز واسكنه فراديس جنانه.