ثقافي

من ذكريات جانفي 2011: أكْرِيمُوجِينْ بقلم شاهين السافي

 يوم 13 جانفي كانَ يومًا عصيبا. كان أصعبَ أيام حياتي. لمْ أعشْ كمثلهِ قطّ. ما استنشقتُهُ من غاز الأكريموجين أثناء مواجهات اليوم العظيم، اليوم الماضي، جعلني طريح الفراش تنتابني من حين لآخر حالة من الإغماء مسبوقة بنوبة سعالٍ حادّة.

شكيب أيضا طريحُ الفراشِ، تستبدّ به الحمّى منذ أيّام. أحسستُ بما أحسّ به يومَ أمس حينَ أراد النهوض فخانهُ الجسدُ. ما أصعب العجز!
أفيقُ. أجرّ ساقيّ جرّا إلى الحمّام. أتقيّأ. أغسل وجهي لأنضو عنّي ذلك الخَدَرَ اللّعين. منذ دقائق أو ربّما منذ ساعَاتٍ. لا أعرف. وصلتني رسالة على الهاتف. علي وعبد الله اعتقلَهُمَا البوليسُ في مركز تفّاحة حينَ هَمَّا بالمشاركة في جنازة الطّفل الذي استشهِدَ يوم أمس مختنقًا بهذا الغازِ اللّعين.

منذ أيامٍ اعتقِل أيضا رشاد، صاحبُ "المقرونةِ" الكذّابة الألذّ، صحبة رفيقِ دربهِ نزار في "الشّابة"، واعتقل الصّحبي في تونس العاصمة على إثر إدلائه بتصريح حول الحراك الشعبي المتصاعد في البلاد لقناة "فرانس 24" الناطقة باللسان الفرنسي ثمّ أطلق سراحه، واعتقل آخرون وآخرون منهم من عرفتهم وقاسمتهم الماء والملح ومنهم من لمْ أسمع عنهم أبدا في حياتي حتى لحظة ذيوع خبر اعتقالهم، ومنهم من أطلق سراحهم ومنهم من خرج ولمْ يعدْ. 
هاتفني الرفيق رضا منذ أيامٍ. كان غاضبًا. حصلت مشاحنة بينه وبين الرفيق فرحات في مكالمة هاتفيّة. فرحات شابّ خلوق وهو يكبرنا سنّا ويسعى دائما أن يكون بمثابة الأب. ليس من عاداته أبدا أن يرفع صوته فإن فعل ذلك فثمّة خطب ما. اتصلت بفرحات لأتبيّن الأمر. بدا قلقا وشاردا. كان يردّ باقتضابٍ وبصوت خفيتٍ حزينٍ. سألته عن علّة ذلك فأخفى وتحجّج بالإرهاق وحين ألححتُ عليه قالَ إنّه في المستشفى مع الرفيق وسام الذي تعرّض إلى ضرب مبرح من البوليسيّة أثناء تحرّك شارك فيه في العاصمة. تغيّر كلّ شيء. لمْ يعد يهمني أمر المشاحنة التي حصلت. صرت أريد الاطمئنان على صحة وسام. بعد تلك الحادثة اعتقل وسام. صار في عداد المفقودين فلا نعرف عنه شيئا. 
اختفى رشاد وابن شابَّتِهِ نزار. اعتُقِلا منذ أيّامٍ ولا أحد يعرفُ في أيّ قبو من أقبية التّحقيق يقبعان. يتّصلُ بي "الغول" وأتّصلُ به مرّاتٍ كلّ اليومِ نتبادلُ معطياتٍ لا تسمِنُ ولا تغني من جوعٍ إلى معرفة حتى مكان اعتقالهما.

"الغول" كنيةٌ أطلقُهَا على الأشدّاء من الصّحب والخلاّن، وهذا "الغول" واحدٌ منهمْ. هُوَ شقيقُ نزار وهو صنديد وشهمٌ وخلوقٌ مثله ومثل كلّ من عرفتهم من أهل الشّابّة. يمارسُ "الغول" العمل السياسيّ على طريقته. ليس مولعا بالاجتماعات والكلام وكثر الهدرة، كانَ يمضي مباشرة إلى مخّ الهدرة، فإذا كان ثمة مواجهة مع الحاكم فهو لها ولا أحد يُبلي كمثله.
اعتقل نزارٌ مرّات عدّة في السنوات الأخيرة. نشاطه الإعلاميّ كصحفيّ حرّ يقدّس قلمه ويجلّ الكاميرا التي يمتشقها، جعله عرضة لكلّ ضروب التضييق الأمني. ما لا أنساهُ أبدا في حياتي هو ما حصل في ذلك اليوم قبل الانفجار العظيم بسنتين.

كان بعض الرفاق والأصدقاء قد أعدّوا كلّ شيء. حجزوا مكانا في أحد المقاهي الأنيقة والهادئة في العاصمة أين يقيم نزار. اتصلوا به وطلبوا منه أن يأتي فورا لأمر مهمّ وطارئ فقَبِلَ كما يفعلُ عادةً. تأخّر نزار. اتصلوا به فلم يردّ. انتظروا ثمّ أعادوا الاتصال. كان هاتفه مغلقا. ظلّت الشموع التي تعتلي كعكة عيد الميلاد جامدة لا نار تتوّج فتيلها، فمن كان سينفخ فيها إذا اشتعلت قد غيّبته عن الحضور في الموعِد أيادٍ خفيّة لا ترحم. لمْ تمهلهُ ساعات، ساعات قليلة فقط كان سيقضيها مع أناس أحبّوه وأحبّوا فيه نكران الذات حتّى أنه كان يسرع الخطى إليهم لينظر معهم في حاجتهم تلك التي ادعوا أنها مستعجلة ولا تقبل التأجيل، فلا خطر في ذهنه أبدا أنّ ذلك اليوم يوافق يوم مولده، وأنّ ما كان ينتظره هو حفلة عيد ميلاده. كان اعتقالا موجعا.
يوم 8 جانفي شارك نزار في التحرّك النّقابي في بطحاء محمد علي في العاصمة. رُفعتْ صور الرّفاق المعتقلين، وسام ووائل وجواهر وغيرهم، وتعالت الهتافات مناديةً بإطلاق سراحهم. تعرّض يومها نزارٌ إلى تهديد صريح من البوليس. اعتقاله بات أمرا مقضيّا. مسألة وقت لا غير. أخفى الكاميرا عند بعض أصدقائه. غيّر شريحة الهاتف وحسم أمره. قال: "ترابك يحميك.. سأعودُ إلى الشّابّة".

تنقّل نزار بمساعدة بعض الأصدقاء من مركز المدينة في العاصمة إلى منطقة حمّام الشطّ ومنها إلى جبل الرصاص في مرناق. في مصنع إسمنت مهجورٍ قضّى ليلته تلك. صباحًا التقى بصديقٍ سيقلّه بسيّارته إلى الشابّة. كانت الطّرقات كلّها محاصرة بالبوليس، والدوريّات الأمنيّة تكاد تمسح كلّ شبرٍ منها. السّفر قد يكون مغامرة غير محمودة العواقب. جرت الرياح بما اشتهتْ سفنُهُ. اندلعتْ مواجهات عنيفة بين البوليس والشباب الطلابي في حيّ الرياض بسوسة. كانت تلك لحظة مناسبة للتسلل إلى سوسة ومنها إلى المهدية فالشّابة.
قبَيْلَ وصولهِ إلى الشّابّة اندلعت في شوارعها مواجهة بين البوليس والمتظاهرين. مواجهة لم تكن متكافئة. أرهق المتظاهرون فتراجعوا وتحصّن بعض رفاقنا وأنصارهم بمقر الحزب. حاول البوليس اقتحامه. شرعوا في ذلك فعلا ولكنهم عدلوا عن فعله.

كان نزار يختبئ في مكان غير بعيد عن المقرّ ولم يفطن البوليس إلى وجوده في الشّابة بعد. ليلاً، اجتمع سِرّا ببعض الأصدقاء والرفاق. كان رشاد موجودا. وصلت أنباء مؤكّدة أنّ قرار اعتقالهما قد صدر، فوُضِعتْ خطّة لإخفائهما. تحسّبا لأي طارئ كان لابدّ أن يستحمّا جيّدا وأن يرتديا ملابس نظيفة ويستحسن أن تكون جديدة خاصّة الجوارب والملابس الدّاخليّة، فمن أكثر أساليب التعذيب فظاعة أن يَخلعَ عنك الجلاّد جواربك أو ملابسك الداخليّة ويلقمك إيّاهَا وهو يمارس هوايته الأثيرة: الجلد.
بيننا خائن يا رفيق. تسرّبت الخطّة. أوقف رشاد صباحًا على بعد أمتار من منزله. قبل ذلك بربع ساعة اقتحم البوليس منزل نزار. دارت بينه وبينهم مشادّة انتهت باعتقاله.

بذكاءٍ تمكّن نزار من إرسال رسالة نصيّة بالفرنسيّة من هاتفه، كنّا نعدّها سلفا تحسّبا لأيّ طارئ، ومفادها "اعْتُقِلْتُ"  (Je suis arrêté). اقتادوه مغلولا إلى منطقة الأمن بالمهدية. في تلك اللحظة حملت أمّه حاسوبه وكلّ وثائقه وأوراقه وأخفتها تحت كومة تبن في مكان بعيد عن المنزل خوفا من أن يكون فيها ما يدينه. ما أعظم أمّهاتنا! يخونك الرّفاق ولا تخونك أمك أبدا.
ساعات طويلة من التحقيق المستمرّ لمْ تأتِ بأيّ نتيجة معه. التّهم جدّ خطيرة، منها استلام أموال من بعض المعارضين المعروفين وتوزيعها على المنحرفين لتنظيم عمليّات تخريب في الشّابة. تركوه ساعات جالسا على كرسيّ خشبيّ وقد ربطوا معصميه إلى كعبيه من الخلف.

يفكّون أغلاله من حين لآخر حتّى لا يغمى عليه من الوجع ليعودوا إلى وضعها بنفس الطريقة الموجعة. صمد نزار. تتغيّر المعاملة، ولعبة "العاقل والسفيه" معروفة أثناء التحقيق. دخل بوليس وفكّ وثاقه. سأله إن كانت لديه طلبات فقال إنه يريد علبة سجائر. كان له ما أراد. اختلط الأمر على البوليس حين سلّمه العلبة. لمْ تكن العلبة من النوع الذي طلبه. نظر نزار إليها مليّا فعرف أنّ رشاد موجود معه في نفس المكان، ربّما في غرفة أخرى. خطأ بسيط ارتكبه البوليس فسلّم نزار علبة السجائر من النوع الذي يكيِّفُ رشاد، "غولواز" أزرق. 
خمّن أنّ رشاد أيضا سيعلم بوجوده حين يسلّمه البوليس، وقد تاه بين الغُولْوازَيْنِ، علبة الـ"غولواز" الأحمر، سجائر نزار المفضّلة، وقد حصل ذلك فعلا.

يخْتَصِمُ الصّحوُ والخَدَرُ. هذانِ الخصمانِ اختصَمَا. تحملني الخيالاتُ بعيدا. أعود إلى الماضي. شريط من الأحداث يمرّ أمامي بسرعة خاطفة. شاهدتُني أولّ مرّة في حياتي أوقَفُ فيهَا. كان ذلك في فترة الانتفاضة الفلسطينيّة الثّانية. كنتُ تلميذا في المعهد الثّانوي الصّادق الفقي الواقعِ في قاصّة "بوعلي" التي تربط ساقية الدائر بالسّلطنيّة. حين انتقلتُ إلى الدّراسة في هذا المعهد بعد أن أنهيتُ المرحلة الإعداديّة من التعليم، كنتُ في حالةٍ من التأزّمِ. بُنِيَ هذا المعهدُ حديثًا على أرضٍ كانت "بورة"، و"البورة" ملعب لكرة القدمِ لهُ حرمتهُ وقدسيّتهُ في عرفِ الحومة لا في قانون الدّولة. 
كنتُ أشاركُ أولاد الحومة حينَ نتبارى ضدّ حومة "بوعلي" في تلك البورة. لمْ أكنْ لاعبَ كرة قدمٍ متميّز، ولكنّي كنتُ ألعبُ كما يلعبُ أترابي. الشيءُ الوحيدُ الذي كان يربطنا ونحن صغار بخليّة حزب الدستور في الحومة هو ذلك الوعدُ الذي قطعوه أنْ تكون لنا "بورة" أفضل حتى من "بورة الزّيتونة" الواقعة في وادي الزيادي، وتكون مجهّزة بكلّ نراهُ ونسمع عنه في الملاعب، نجري فيها مسابقات في كرة القدم. كنتُ مضطرّا كلّ يومٍ إلى دخول فضاءٍ مخصّصٍ للدّرسِ وأنينُ الذاكرة يرجعني إلى سنوات خلتْ كنتُ فيهَا أركضُ خلفَ ذلك الجلدِ المدوّر في نفس الفضاء. كان ذلك مبعث تأزّم على الأقلّ في الأشهر الأولى حتّى اعتدتُ الأمر.
البوليسُ الذي أوقفني يومهَا لمْ يدُرْ في خلدي أبدا أنه بوليس. كان يرتدي ملابس عاديّة مثلنا، أو مدنيّة كما صرنا نقول. أمسكني من قفاي ورمى بي في السيّارة كما صرتُ أفعلُ مع أكياس الإسمنت، أرفعُهَا عن الشّاحنة وأرمي بها على الأرض في ركنها الرّكين. 
أوقفتُ مع مجموعة من التلاميذ. أطلق سراحهم جميعًا بعد دقائق قليلة وأبقوا عليّ. قلتُ لهم إنّ لا حقّ لهم فيما يفعلون، وهذا في عرفهم قباحة تستوجب العقاب فأطلقوهم ولم يطلقوني.

"لا حقّ لهم" هذه، لا أعرفُ من أين جاءت وخطرتْ بذهني فقلتُهَا. هل هي دروس التربية المدنيّة؟ هل هي خطبُ الرئيس عن العهد السعيد الذي لا تُكَمّم فيه الأفواه؟ هل هو زعمه آنذاك أنّ القضيّة الفلسطينيّة هي قضيّته؟ هل هي خطبةُ "أبو عمّار" في ذلك المحفل حين ناداهُ "يا زين العرب!" جعلتنا صدّقناه؟ لا أعرفُ. 
أشبعوني لطما ولكما وشتما. دارت محرّكات السيارة وانطلقتْ. انطلقتُ معهم إلى مصيرٍ غامضٍ. كنتُ خائفا، شاردًا، صغيرًا، ضعيفًا. تحصّنتُ بالصّمت. بعد حوالي كيلمتريْنِ توقّفت السيارة. خرج سائقها. فتحَ الباب. قال لي: 
-    ارجع لليساي على رجليك كالكلب..
من يومها قرّرتُ أن أكون كلبًا وعضّاضًا.

 

مساء يوم 28 ديسمبر اتصل بي رشاد. 
كنتُ جالسًا في مقهى المحيط قرب شطّ القراقنة. أخبرني أنّه وصل لتوّه من تونس ولمْ يجِدْ وسيلة نقلٍ تقلّهُ إلى الشّابّة. دعوتُهُ على الفور ليبيت ليلتها عندي. أخبرته بمكاني فالتحق بي بعد دقائق قليلة. رشاد يعرف صفاقس كما يعرف كفّ يده. أقام فيها سنواتٍ قضّاهَا في الدّراسة والسّياسة. لم نلتقِ منذ مدّة. منذ استقرّ في العاصمة قلّت لقاءاتنا. أخبرني أنّ بن علي سيلقي خطابًا اليوم. لا حديث بين ركّاب اللواج التي استقلّها إلا عن هذا الخبر. اتفقنا أن نذهب إلى المنزل بعد الاستماع إلى هذا الخطاب في المقهى. في البيت مازلنا لمْ نفتح بعدُ جهاز التليفزيون منذ أن توفّي والدي قبل حوالي شهرين، وهذا بعضٌ من أعرافنَا في التعبير عن جلل المصاب، ورشاد مقدّر ذلك.
لا يمكنُ أن أنسى أبدا الشقّة التي كان يقطنها هناك على بعد أمتار من مقهى المحيط أنّى نجلسُ. شقّة في الطابق الخامس من عمارة بلا مصعد كهربائيٍّ. شقّة إذا أدركتها بعد صعود ذلك الدّرج لن تفكّر في النزول ثانية إلا لأمر جلل، فالنزول يعني الصعود مرة أخرى إليهَا، وهذا وحده ضرب من التعذيب.

أذكر جيّدا قربها من سكّة القطار. نعرف القطار إنْ كان لنقل الرّكاب أو البضائع من دويّه، ولكن كلّ القطارات يتشابه دويّها لحظة عبور ذلك الجسر الصّغير الذي يقطع الممرّ المائي الرابط بين حوض الميناء وحوض الكورنيش. جسرٌ على شكل ذراعٍ. قيل لنا إنه جسر متحرّكٌ كما ذلك الجسر المعروف في بنزرت، وإنّه سيتحرّك يومًا لتعبر قواربُ الرياضات البحريّة من البحر إلى حوض الكورنيش أو منه إلى البحر. لمْ نَرَ تلك القواربَ أبدا، ولمْ تتحرّك تلك الذّراعُ وظلّت تراوح مكانها. كتب معزّ يومًا مقالا طريفا "الجسر المتحرّك الذي لا يتحرّك".  
أذكر أيضا شرفتهَا المطلّة على ميناء محطة "لود" قرقنة، وكثيرا ما كنّا نتسامر ونحن نرقب حركة "اللّود" وهو يشقّ عباب البحر ذهابا وإيّابًا.

منذ أكثر من نصف قرنٍ، لودٌ آخر أصيلٌ مختلف في شكله نَقَلَ الحبيب بورقيبة سِرًّا، في غفلة من جندرمة فرنسا وتابعتها، من منطقة الخرايب، وتسمّى اليوم "النجاة"، شرقيّ الأرخبيل، إلى مصر. بعد أن صار "سيدي الحبيب" -كما تسميه جدّتي- حاكِمًا على تونس لمْ يتردّد في تَوْنَسَةِ كلّ شيء، بما في ذلك التّابعة، وهو يبني دولته العصريّة. 
ما أعظم هذا البحرَ! لو لاه لما كانت صفاقسُ صفاقُسًا.
تحوّلت تلك الشقّة إلى "غرفة عمليّات" في ديسمبر 2008 وجانفي 2009. أذكر أنّنا كنّا نجتمع فيهَا ونُنَظّم مختلف تحرّكاتنا لمساندة أهل غزّة في ملحمتهم. هي أيضا دار ضيافة يُرحَّبُ فيها بالجميعِ وحاضنة لمجالس الأنس. يقاسمه السّكن فيها شبابٌ من أبناء بلدته الشّابّة. هم لطفاء وآية بيّنة من الكرم وغاية في الظّرف لا تفارقهم النكتة ولا تغيب الابتسامة عن محيّاهم. ليسوا مقتنعين بجدوى ما نفعله ولكنّهم يحترموننا كثيرا ولا يتردّدون في تقديم يد العون.

الأهمّ من كلّ هذا هو "مقرونة رشاد". لا أذكر مَنْ مِنَ الرّفاق أبدع ذلك الشعار الثّوريّ اللّعين "مقرونة رشاد لمقارعة الاستبداد". قد يكون من إبداع ابن بلدته الرّفيق نزار. رشاد بارع في طبخ المقرونة ولا أعرف إن كان يجيد طبخ غيرها.
هي مقرونة كذّابة، أي نعم، ولكنّها لذيذة، أو ربّما هو الجمع من الأصفياء الذين أتقاسم معهم الماء والملح يجعلهَا لذيذة. بعد أن يُنجز رشاد مهمّته الجسيمة، يصبّ المقرونة في وعائين واحد كبير وآخر أصغر منه. يخرج إلينا حَامِلَهُمَا. يضعُهُمَا على المائدة ويشير إلى الأصغر بإصبعه قائلا "هذا لينا.." ثمّ إلى الأكبر "وهذا الكل لشاهين..". ينفجر الجمع ضحكًا. أتركهم غارقين في ضحكم وألتهم الوعاء برمته. كنت أكولا لا أرحم. كان ذلك قبل أن أصاب بمرض مزمنٍ في الجهاز الهضميّ جعلني زاهدا في الأكل.
خطب بن علي واستمعنا إليه. كان مرعبا. هذا الكائن لا يريد بهذي البلاد خيرا. إنه يصبّ البنزين فوق النار. إنه يحرق هذي البلاد و"بكلّ حزمٍ". خرجنا من المقهى. انتابنا شعور بالتوتّر. هذا الخطاب من الممكن أن يكون كلمة سرّ لبدء حملة أمنية شعواء. ليلة السكاكين الطويلة. كلّ شيء وارد. تهاتفنا مع بعض الرّفاق. الجميع لهم نفس الانطباع. حاول الرّفاق الكبار، سي محمود وسي فريد وسي فتحي، التخفيف من وقع الحدث، ولكنهم كانوا ينهون مكالماتهم بتوصيتنا بالالتزام بأقصى درجات الحذر، والتحرّك في شكل مجموعات صغيرة. فالفرد سهل الانفراد به، والمجموعات الكبيرة تلفت الانتباه. لكني لم ألتزم بهذا الأمر لأني لم أقتنع يوما بوجاهته.
لا أعرف كيف ركبنا التاكسي، ولا كيف وصلنا، ولا كيف تناولنا العشاء، ولا كيف نمنا. أظنّ أنّنا لم ننم ليلتها. ربّما قضينا ليلة بيضاء. نرهف السّمع. كلّ سيّارة يقترب صوت محرّكها نقول إنهم هم زوّار منتصف اللّيل. أعددنا خطّة للهروب. غرفتي بها باب صغير من الشّرق يقود إلى حديقة المنزل. سنخرج منه ثمّ نتسلّق السّور ونقفز إلى الأرض المجاورة، وكذا، تقريبا، ما كنت فعلته حين سافرت إلى سوسة قبل أيام من زيارة رشاد.
جاء فجرٌ جديد يؤذن بيوم جديد. السكاكين الطويلة كانت أضغاث أحلام لا غير. أوصلت رشادا إلى الطريق الرئيس، طريق المهديّة. هناك من اليسر أن يجد وسيلة نقل تقلّه إلى الشّابة واتجهت أنا غربا في طريقي إلى حظيرة البناء أنّى أعمل. لا وجود لسكاكين طويلة في الليلة الماضية. كانت ليلة تذكّرنا فيها ليالي الأنس الجميلة. السكاكين الوحيدة التي خطرت ببالي ساعتها، وأنا متجه غربا، هي سكاكين لذيذة. سكاكين المطبخ في تلك الشقّة أين كان يقيم رشاد، كان يستعملها أحيانا في تقطيع الخضروات حين يعدّ لنا ما تيسّر من السَّلَطات مع تلك المقرونة.. الكذّابة.. اللّذيذة..

أمسكُ الهاتفَ. بصعوبة أتبيّنُ الأرقامَ على شاشته. 
كم السّاعة الآن؟ ضبابٌ كثيفٌ. رسائل وصلتني ولا قدرة لي على قراءتها فما بالك بالرّد عليها. الهاتف صارت تفوحُ منه رائحة الموت. أخبارُ الموتِ صرتُ أتوقّعُهَا في كلّ رسالة تصلُنِي. شهداءٌ في سيدي بوزيد، شهداء في القصرين، شهداء في تالة، شهيد في صفاقس، شهداء في كلّ مكان. أخبار الموت توشك أن تكون بعضا من خبزنا اليوميّ. 
أستلقي على السرير. أغمض عينيّ بعد نوبة سعال موجعة. تلك الفتاة التي هاتفتني منذ أيامٍ قليلة وتحفظتْ عن ذكر اسمها كما يفعل الكثيرون ممن يتصلون بنا في تلك الأيام. قالت إنها حاولت الاتصال بمعز ولكنّها لم تستطع. أخبرها أحدهم أني صديقه وأعطاها رقم هاتفي. أرقامُ هواتفنا كانت متاحة للجميع. المبدأ يقول أن تردّ على كلّ المكالمات خاصّة الواردة من الأرقام التي لا تعرفها. كنْ متاحًا للجميع.
قالتْ إنّ رجلا من تالة يريد أن يدلي بتصريحٍ حول ما يدور هناك وهو شاهد عيان على بعض ما ارتُكِبَ من جرائم في حقّ الأهالي المنتفضين. سلّمتني رقم هاتفه وأنهت المكالمة. لمْ أستطع الاتصال بمعزّ. صار يغيّر كلّ يوم شريحة الهاتف. لمْ يتّصل بي من رقمه الجديد الذي قد يصبح قديمًا بعد سويْعاتٍ. تذكّرتُ رفيقًا من تالة. تعرّفت عليه في قفصة منذ شهرين حينَ حللتُ هناكَ مساندا للرفيقة غزالة في معركة الأمعاء الخاوية. هاتفني هو الآخر منذ أيام قليلة. أخبرني أنّه يتحصّن بالمُرتفعات مع الأهالي المنتفضين. شكّلوا مجموعاتٍ لتنظيم عملية المواجهة، كرّا وفرّا، مع التشكيلات الأمنيّة المرعبة التي احتلّت المدينة. خلقوا من وحشة التضاريس طريقًا يجعل من اللاتكافؤ في القوّة تكافؤًا. 
اتصلتُ بذلك الرّقم الذي سلّمتنيه الفتاة المجهولة. مرحبا أنا صديق معز. بدا مرتبكًا. كان يلهث. قال سيتصل بي بعد قليل حين يجد له مكانا آمنا يأوي إليه. مرّت الدقائق كأنها أيامٌ. اتصل بي. كانت أصواتُ الطلق الناريّ تتعالى. كنتُ أسمعهَا. قال إنه كان في موكب جنازة الشهداء الذين سقطوا في تالة وقد تحوّلتْ الجنازة إلى مواجهة دامية مع البوليس الذي يمطرهم الآن بقذائف الأكريموجين. كلّما اقترب صوت الطلق من المكان الذي يختبئ فيه كان يرفع صوته أكثر ويسعل أكثر. قال حتّى الأموات لم تعد لهم حرمة في هذي البلاد. اقترب صوت الطلق أكثر. سمعته يتلو الشّهادتَيْن بصوت خفيت. اعتذر عن عدم قدرته على مواصلة الكلام. حيّاني وأقفل الخطّ.
حين يهاتفني "الغول"، كنتُ لا أقوى على التركيز تماما مع كلّ ما يقول. كنتُ أسرح بخيالي بعيدا. أعود إلى ماضٍ ليس بالبعيد. نزار كان يزور صفاقس باستمرار في تلكم السنوات، وهو مثلي يحبّ السجائر والمقاهي والتسكّع في الشوارع ليلا. كنّا نخرج من منزل رشاد ليلا بعد وليمة تستوي على عرشها مقرونته اللذيذة الكذّابة. ننتقل من مقهى إلى مقهى، ومقاهي صفاقس التي تفتحُ ليلا معروفة ومعدودة على أصابع اليد الواحدة. كنّا نرتادها جميعها في ذلك الليل ونحن نتسكّع من شارعٍ إلى شارعٍ، من باب البحر إلى صفاقس الجديدة فالناصرية فشارع  5 أوت فباب البحر من جديد، ثمّ نعيد الكرة مرّات ومرّات. نعود إلى منزل رشادٍ لننال قسطا من الراحة مع أوّل شعاع شمس يُدركُنا ونحن نتسكّع لا ننقطع عن الحديث. كان ثمّة دائما ما نتحدّث عنه وما نختلف فيه وما تعلو أصواتنا أحيانا ونحن نجادلُ بعضنا دفاعا عنه. كانت أياما حلوة.
تجمعني بالشّابّة وبعض أهلِهَا علاقة ودّ لا تنفصمُ عراهَا. كنتُ أزورهم من حينٍ لآخر وكان بعضهم مواظبا على زيارته لصفاقس وكنّا نلتقي. في وفاة أبي حلّ ركبهم أمام المنزل. كان ركبًا عظيمًا مؤلّفًا من عدّة سيّارات. جاؤوا لتعزيتي ومواساتي في مصابي. بعد وفاته بأيّامٍ، دعوني إلى الشّابة زاعمين أنّ أمرا سياسيّا طارئا يستوجبُ قدومي. 
اصطحبتُ معزّ وانطلقنا إلى الشّابّة. هناك وجدنا الأصدقاء والرفاق قد أعدّوا لنا وليمة ومجلس أنسٍ عند "الغول" ونزار في منزل العائلة. لا علاقة للسياسة بالأمر. أرادوا أن يخرجوني من تلك الأجواء المثخنة بجراح الموت. أرادوا أن يعيدوني إلى الحياة من جديد، وقد فعلوا. مساءً، قبل أن نشدّ الرّحال إلى صفاقس، ذهبنا إلى مقهى "بشير"، وهو مقهى يحجّ إليه معارضو الحكم في المنطقة وهم في الغالب مرّوا بتلك المدرسة المحليّة الرّائعة في النّضال، مدرسة "جمعيّة النهوض بالطالب الشّابي"، وقد اصحبوني في زيارة إلى مقرّها. 
جلستُ إلى بعضهم واستمتعتُ بأحاديثهم الشيقة وحكاياتهم اللذيذة، فلكلّ واحد منهم طرائف مع البوليس وأتباع حزب الدّستور وقوّادته قد لا تتّسع لها المجلّدات.

أصحو لأغفو من جديد. حين أصحو أوّل ما أفعله هو التثبّت هل ثمّة رسائل جديدة على الهاتف لمْ أفطن إليها. قبل أن أغفو تحملني الخيالات في رحلة إلى مجاهل الذّاكرة. يوم أمس هاتفتني "نينة"، وهي إحدى خالاتي، وهي منّي بمنزلة الأمّ فقد ربيتُ عندها وجدّتي في "الغابة"، في ذلك "البرج" العتيق، دار الجدود. كانت تريد الاطمئنان عليّ فالأخبارُ لا تسرّ كما تقول. كنتُ في قلبِ المعركة يومَهَا. أصوات الطلقات تتعالى. صارتْ مألوفة الآن عندي وليس الأمر كذلك عندها. كانت مذعورة وطلبت مني العودة إلى البيت كما كانت تفعل وأنا طفل في السابعة أو الثامنة من عمري. طمأنتها ثمّ أنهيتُ المكالمة. حكت لي مرّاتٍ ومرّات كيف أنقذتْ فتاة من موت محقّق. اندلعت انتفاضة الخبزة في ذلك الـ"جانفي" من سنة 1984. عمري لا يتجاوز السنتين وقتها. حللنا ضيفينِ أنا و"نينة" على أبي وأمي، فقد كنتُ أسكنُ عندهَا لا عندهُمَا. كانا قد استأجرا للتوّ شقة في إحدى عمارات باب البحر. كانت "نينة" ترقبُ ما يدور بحذر من شرفة الشّقة. شاهدَتْ فتاة تترنّح متأثرة بإصابتها بغاز الأكريموجين ثم سقطت على الأرض على مقربة من العمارة. 
حسمت أمرهَا. سأنقذهَا. نزلت الدرج مسرعة. خرجت من باب العمارة إلى الطريق. حملت الفتاة بين ذراعيهَا. صعدت بها الدرج وأدخلتها إلى الشقّة. كانت طالبة في إحدى كليات صفاقس. أنقذتها من موت محقق. 
حين كانت تروي لي هذه القصة، وأنا صبيّ، كانت تختمها بالقول: "أكثر ناس يعملو قلق للحاكم هوما الطلبة وهاك علاه يكرههم وكان يلقى يصفيهم بالواحد.." 
اكتشفتُ ذلك لاحقا.
يوم 13 جانفي، تغيّرت المعاملة فعلا بعد أيام من الاعتقال. ليست هذي لعبة "العاقل والسّفيه" الآن. ثمّة تململ في صفوف البوليسية. ثمّة تردّد. ثلاثة أيام لم تصلهما أية معلومة عمّا يدور في البلاد من أحداث. لكن بات من الواضح أنّ تغييرا ما قد حصل. صاح نزار في الغرفة المحتجز فيها "أنا في إضراب وحشيّ عن الطعام". رفع صوته عاليا حتّى يسمعهُ من يقبع في الغرف الأخرى من المعتقلين. سمعه رشاد. صاح "أنا معاك..". 
حاول البوليسية بكل ودّ إثناءهما عن ذلك ولكنّهما أصرّا على ما عقدا عليه العزم. أُبْلِغَا أنّ قرار نقلهما إلى تونس العاصمة للتحقيق معهما في وزارة الداخليّة قدْ أُخِذَ من فوق وأنه لا دخل لهم في ذلك، وقد حانت ساعة التنفيذ. أركبوهما السّيارة. كانت فرصة ليطمئن نزار على رشاد، ذلك الفتى الذي يعتبره بمثابة ابنه الصغير المدلّل. في الطريق دار بينهما حديث كان يقطعه البوليسية المرافقون، من حين لآخر، بتعليقات فيها ما فيها من تودّد. وصلوا إلى المنستير. إذاعة المنستير تبثّ على موجاتها أغنية مرسال خليفة "أحنّ إلى خبز أمي". التفت أحد البوليسية إلى رشاد وقال له: 
-    الغناية هذي ما تذكرك بشي؟ 
تنهّد. تذكّر أمّه لحظة اعتقاله. خرجت من المنزل راكضة وعنّفت البوليسية وشتمتهم ورمتهم بأبشع النعوت. ربّما أراد ذلك البوليس أن يقول له، ضمنيّا وهو يطرح ذلك السؤال، إنّ أمك امرأة شجاعة. 
نزلت دمعة حرّى على وجنته. لا بأس. مادامت إذاعة المنستير قد بثّت أغنية لمرسال خليفة فهذا يعني أنّ تغييرا ما كبيرا يحصل في البلاد.
توقّفت السيّارة دون أن يكون ثمة موجب لذلك. دار خلاف بين البوليسية. الأوامر متضاربة. أمر يقضي بإلغاء المهمة والعودة فورا إلى المهدية، وأمر آخر يؤكّد على ضرورة المواصلة في الطريق إلى تونس، إلى وزارة الداخليّة. حسم الأمر. عادت السيارة أدراجها. في منطقة الأمن بالمهديّة كان هناك كادرٌ أمني رفيع المستوى في انتظارهما. صافحهما بحرارة. اعتذر بكلمات لطيفة عمّا حصل لهما في فترة الإيقاف. دعاهما إلى إنهاء إضرابهما عن الطعام. قدّم لهما بسطة موجزة عمّا يدور في البلاد في تلك اللحظة. قال لهما مبتسما إنّ ما يحصل يؤذن بعصر جيد. عصر الحريّات الذي حلمتم به يتحقّق. هذي البلاد بلادكم أيضا وأنتم فيها أحرار فابنوها من جديد. ثمّ أُطلق سراحهما.
كان ذلك يوم 13 جانفي مساءً، قبل أن يلقي بن علي آخر خطاب له كرئيس للبلاد.


صحوتُ مرّة أخرى. 
إنْ كانَ سيقتلني هذا الأكريموجين اللعين فخيرا يفعلُ. الأسوأ ليس الموت. 
حالة من الفوضى تعمّ أجهزة الدّولة، ففي اللحظة التي أطلق فيها سراح نزار ورشاد في الشّابة أعتقل علي وعبد الله في صفاقس. 
الأسوأ ليس الموت. الأسوأ لو يأتي البوليس لاعتقالي، كما اعتقل اليوم علي وعبد الله،  فيجدني على هذه الحالة لا أقوى على الوقوف. 
لا يخيفني الاعتقال ولكن يرعبني أن أعتقل وأنا على حالتي تلك ضعيفًا كما أوقفتُ أوّل مرّة في حياتي وأنا تلميذ. 
يرعبني أن أعتقلَ وأنا عاجز عن رفع هامتي وعن النّظر في عيني عدوّي بشجاعة وعناد.
 

شاهين السافي ، منارات الشعب 19 جانفي 2023.