ثقافي

في حضرة العملاق عباس محمود العقاد في أسوان

شكري لطيف يكتب من أسوان جنوب مصر- توفّي عباس محمود العقاد يوم 13 مارس 1964.

وكانت أمنيتي المستحيلة في طور الشاب المُعجب إعجابا منقطع النظير بالعقاد أنْ أكون من معاصريه ومن مرتادي ندوته الأدبية الأسبوعية التي كانت تنتظم في بيته ويؤمُّها شعراء وأدباء ومفكرون من مصر ومن كل البلدان العربية، ولكن شروط الحياة والممات وقوانين المكان والزمان حالتْ دون ذلك.

ورغم مرور السنين ، حرصتُ على أن أحقّق بعضا من هذه الأمنية من خلال زيارة مسقط رأس العقاد مدينة أسوان التي تضمُّ بين ثراها جسد ابنها العبقري والتي تستقبلك في مدخلها بتمثال عملاق يُجسّده ، كما أطلقتْ اسمه على قصر الثقافة فيها. وتخليدا لذكرى العقاد وقعتْ المحافظة على مكتبته وأثاث منزله وجزء من ثيابه ومقتنياته الخاصة ومكّنني القائمون على هذا المعلم الحيّ مشكورين من زيارته.

وتقع أسوان، المدينة/المحافظة الصعيدية الجميلة في جنوب مصر على بعد 850 كلم من القاهرة وتعدُّ مركزا لأهمّ المواقع الأثرية والتاريخية والمعابد التي يعود إنشاؤها لآلاف السنين قبل الميلاد في كوم أمبو وادفو وأبو سمبل .

مرجع أساسي من مراجعي المعرفية

شكّل هذا المفكر العربي العملاق مرجعا أساسيا من مراجعي المعرفية في مقتبل حياتي. شغفتُ بفضله شغفا عظيما بالمطالعة دون حدود لغوية أو اختصاصية. وتشبّعتُ عن طريقه بالإرث الأدبي والفلسفي العربي القيّم فاكتشفتُ ابن الرومي والمتنبي والمعري وأبو نواس وابن ابي ربيعة وابن سيناء وابن رشد باضاءات وبقراءة مغايرة لما هو سائد. وتحمّستُ للمعركة التي خاضها مع زميليه من مدرسة الديوان التجديدية المازني وشكري ضدّ المدرسة الأدبية التقليدية التي رمز إليها أحمد شوقي والرافعي، واعتبرتُها علامة فارقة ونقلة تأسيسية للأدب العربي الحديث. وتتبّعتُ بكل اهتمام ومناصرة - عبر الكتب- المعارك الأدبية التي خاضها مع طه حسين وزكي مبارك ومحمد مندور وسلامة موسى وبنت الشاطئ وغيرهم من معاصريه...

لم ينغلق العقاد داخل دائرته الحضارية المصرية والعربية بل مثّل باتجاهه الموسوعي المنفتح على العالم جسرا أدبيا وفكريا بين الحضارة العربية وبقية الحضارات البشرية غربا وشرقا ، وكان من بداية القرن العشرين الى سنواته الستين همزة وصل بين أدبها وفكرها وإبداعاتها الفنية مع الصين وروسيا إلى أمريكا وأنقلترا مرورا بالهند وباكستان وايطاليا واليونان واسبانيا.

وشكّلتْ كتابات العقاد التاريخية التي خصّصها لعدد من الشخصيات المحورية المؤثرة في سلسلة العبقريات الاسلامية، مقاربة عصرية "أنسنتْ" هذه الشخصيات حيث أخضعها كما فعل في دراساته لشخصيات أدبية قديمة ومعاصرة لمنهج التحليل النفسي الفرويدي.

المواقف السياسية المُشرّفة

كما شدّني إلى العقاد المواقف السياسية المُشرّفة التي اتّخذها في فترات مفصلية من تاريخ مصر . ومنها موقفه الوطني الراديكالي المناهض للاحتلال الاتقليزي حيث كان عضوا في التنظيم السري المنظّم للاضرابات والمظاهرات وتحرير وتوزيع المناشير خلال ثورة 1919، وكان من العناصر الطلائعية في حزب الوفد ومن أقرب المناصرين للزعيم سعد زغلول الذي لقّبه بالكاتب الجبّار.

ومنها موقفه المناهض يصرامة للاستبداد والدكتاتورية وقد دفع ثمنا لذلك ضريبة غالية . فقد حُوكمَ وسُجنَ سنة 1930 بتهمة "العيب في الذات الملكية"، وكان ذلك حين أعلن الملك فؤاد عزمه إسقاط فصلين من الدستور ينصُّ احدهما على "أنّ الأمّة مصدر السلطات" ، والأخر على " أنّ الحكومة مسؤولة أمام البرلمان" ، فكان صوت العقاد المُدوّي : " إنّ الأمة على استعداد لانْ تسحق أكبر رأس في البلاد يخُونُ الدستور ولا يصُونه".

وكان العقّاد من أشدّ المناهضين لحركة الإخوان المسلمين التي نشأتْ سنة 1927 تحت رعاية الاحتلال الانقليزي لتوظيفها في مواجهة شعبية حزب الوفد . وقابل الإخوان المسلمون العقاد بحملة عداء وتحريض وتكفير لم تتوقّف الى اليوم ، ووصل بهم الأمر إلى محاولة اغتياله بإطلاق الرصاص عليه ولكنّه نجا من الموت بأعجوبة .

إعلاء قيمة العقل والتفكير الحرّ

كما كان العقاد مناصرا للحرية مناهضا للاستبداد والدكتاتورية لا فقط في مصر والعالم العربي، بل تميّز بموقفه الجريء المناهض للبونابرتية وللنازية والفاشية وقد خصّص في هذا الصدد كتابا خاصا حول هتلر كان سببا في طلب رأسه ووضعه على قائمة المطلوبين ومحاولة القبض عليه عند حلول الجيش الألماني بمصر بقيادة رومل.

وبدأتُ خطواتي الأولي في دروب الفلسفة بدفع من كتب ودراسات العقاد الفلسفية ، وكان العقاد نفسه بمنهجه المتحرّر من قيود التقليد والتبعية والقائم على إعلاء قيمة العقل والتفكير الحرّ وطلب المعرفة دون حدود ، هو من دفع بي للمرور إلى ضفاف فكرية جديدة والى القطع مع العديد من نظرياته ومرتكزاته ورؤاه بل والى تجاوزه وتجاوزها والانتقال إلى مواقع فكرية وعقائدية وسياسية مناقضة له كل التاقض.

طابت ذكرى الكاتب العبقري الفذّ عباس محمود العقاد الذي أثرى المكتبة العربية بمئات الكتب والدراسات ورافقني بكتابته في طور الشباب الأول فأحسن مرافقتي وتوجيهي نحو البحث المتواصل ودون حدود عن المعرفة .