وثائقي

الطريق الى اليسار، السياسة، السجن والمعتقل - 1

الشعب نيوز / بقلم : غريبي بن منا

مقدمة لابد منها:

(1)

أكيد العنوان واضح، ولمزيد التوضيح أريد أن أقول وأجيب على إحدى الأسئلة المهمة ألا وهو لماذا يختار الانسان أن يكون يساريا أو يمينيا أو وسطيا، لماذا هذا الغرام بالسياسة، وكيف وصل الى السجن والمعتقل، لماذا العذابات والمعاناة، كيف لطفل نشأ وكبر وسط عائلة بسيطة لا تفقه في السياسة أمرا اختار هذا الطريق..

لكن الأكيد أنه لم تخطر على بال عديد منا وأنا أولهم مثل هذه الأسئلة..

هذا ما أريد الغوص فيه والاجابة عليه وتوضيح مسالك وثنايا تقود أحدنا لاختيار هذا الطريق؛ طريق السياسة والتموقع الفكري الايديولوجي وما يترتب عنه...

لأنه ولا أحد ولد يساريا أو يمينيا ولا أحد ولد مسيسا لكن ظروفا سواء وسط العائلة أو المدرسة أو العمل أو معرفة من المعارف الشخصية البشرية ساهمت في هذا التوجه...

سأحكي تجربتي الشخصية منذ البدايات،

كنت كتبت سابقا ورقات نالت إعجابكم حول تجربتي الشخصية مع السياسة ومع معتقل رجيم معتوق وكانت أولى الأوراق بعنوان "بين فكي الجلاد والاخوانجية" وأخرى بعنوان "مذكرات طالب في معتقل رجيم معتوق"... كتبتها ذات رمضان زمن الكورونا ونزلت تباعا في صفحتي على الفايسبوك وعلى بعض الصفحات والڨروبات الأخرى ونزلت أيضا على أعمدة مجلة "منارات".

وتحت إلحاح بعض الأصدقاء بمواصلة الكتابة لما بعد فترة رجيم معتوڨ وتجربة الجامعة التونسية والاتحاد العام لطلبة تونس وإنجاز المؤتمر 18 الخارق للعادة والحديث والكتابة أبعد من هذه المرحلة..

وأخذا بالخاطر قبلت ولكن!

فكرت في شيء آخر وهو لماذا لا أكتب حول مرحلة ما قبل الجامعة وقبل السياسة وقبل رجيم معتوڨ، لأن سؤالا لازمني وأقلقني منذ سنوات طويلة هو لماذا وكيف وصلت الى هذا...

لماذا لم أكن تلميذا عاديا وطالبا عاديا ومواطنا عاديا؟

وخاصة لماذا الارتماء في أحضان الايديولوجيا ولماذا اليسار بالذات؟ لماذا السياسة والنقابة؟ لماذا اخترب طريقا معبدا بالأشواك والصعوبات و "الدودانات"...؟

وقررت وانتهى.

قررت الكتابة حول هذا، حول كل مراحل حياتي منذ الولادة والعائلة (الأب والأم والأقارب) والمعلم وسيدي المدب والأستاذ والقيم والقيم العام والمبيت التلمذي؛ والفقر  والفقر المدقع والحاجة والخصاصة ورعي الأغنام والفلاحة وكل الأعمال وغير الأعمال، والكتب والمجلات والدراسات والمناشير...

سأتحدث طويلا ومطولا في هذا

لماذا وكيف وجدت نفسي أمشي في هذا الطريق؟؟؟

 

(2)

خالتي"خويرة"، إمرأة فاضلة في قريتنا، مرا تخدم كل شيء باش تربي صغارها وتوكلهم وتكبرهم، تخدم الفلاحة وتربي بعض البقرات وتخدم زادة قابلة"

وأكثر خدمة اشتهرت بيها خالتك خويرة هي "قابلة" يعني تولد النساء حين يأتيهن مخاض الولادة وهي الأشهر  في قريتنا بل يبدو أنها الوحيدة التي تمارس هذه المهنة لأن نساء القرية سابقا لا يذكرن إلا إسمها في حديثهم عمن أشرف على ولادة صغارهم....

وكان جات عندي سلطة في وزارة الصحة نكرمها ونعلقلها وسام قبل أي طبيب نساء، لأنها ساهمت في خروجي من بطن أمي (أنا وغيري من أبناء القرية) سالما جسديا وهذا يحسب لها كثيرا... الله يرحمها وإن شاء الله في الجنة...

ذات شتاء من سنة 1965 ذهب أبي مسرعا الى كوخ الخالة خويرة لمناداتها حتى تساعد أمي على الولادة؛ وما هي الا لحظات حتى وصل ركبها وطلبت من أبي أن يشعل النار ويسخن بعض الماء ويعطيها إياه لتقوم هي بعملها على الوجه الأكمل، لحظات قليلة ونزلت للحياة....

في ترتيب الولادات بالنسبة للعائلة أنا الرابع بعد أختي الأولى، وأخ ثان لم يعمر إلا بعض الأسابيع، وأخت ثالثة لم تبقى سوى بعض الأيام وتغادر للأبد؛ يعني بالنسبة لأمي خسرت إثنين من أبنائها قبل ولادتي وهذا كان يدعوها أن تطلب الله صباحا مساء كي لا ألتحق بهم وأموت، وكانت تقول للدكتورة خالتك خويرة" بالله ردي بالك عليه مانحبوش يموت"...

وكان أبي يتمتم بينه وبين نفسه "محسوب كان مات توة نجيبو غيرو" إعتبارا أن زوجته مصنع لإنجاب الأبناء...

المهم، بعد جهد جهيد ومعاناة مع كل الأمراض في ذلك الوقت عشت وبدأت أنمو وأكبر وذلك كما تقول أمي بفضل الحشائش الكثيرة التي تملأ المكان أو التي تجيء بها جدتي من جبل قربص القريب من سكنانا... 

وتذكر لي أمي دائما والى الآن "انت ما كنتش تعيش لو ما وكلتكش كبدة الذيب"....

نعم هكذا تقول وتؤكد جدتي من الأم هذه الحادثة وكيف كلفت أحد الفلاحين ليأتي لها بذئب حي حتى تستعمل كبده في مداواة حفيدها. (ملاحظة/ الذئاب كانت موجودة وبكثرة في جهتنا ولنا معها حكايات ومغامرات سنعود إليها لاحقا)

وجدت نفسي بين أب وأم وأخت إسمها سميرة تكبرني ببعض سنوات وبعدها كبرت العائلة بولادة أربع أبناء آخرين بنت وثلاث أولاد: رضا، نجوى، سمير ومكرم...

إذا تربيت مع أم وأب وخمسة إخوة.

أما أبي فكان إسمه "مولدي" وأمي "عائشة" لكن ولا أحد في القرية يناديها بهذا الاسم بل يقولون لها "عيشة".

خالتك عيشة كانت لها الدور الأكبر والأعظم في حياتي وفي تكوين شخصيتي وتكوين جسمي. كان لها الدور الأبرز في كامل مسارات وثنايا حياتي، في كل التفاصيل التي عشتها وأعيشها اليوم أجدها هي الفاعلة، هي التي وجهت، هي التي سطرت وبرمجت، بقصد أو دونه...

أمي كانت امرأة بدوية جدا ريفية محافظة، تقليدية، لم تدخل الروضة أو المدرسة ولا حتى درست عند "سيدي المدب". إمرأة لا تفرق ابدا بين تلك الدوائر من العملة التونسية أو بقايا العملة الفرنسية. كانت تخبئ بعضها ولما تحتاج لشراء أشياء تنادي زوجها ليقول لها "هذا صوردي" وهذا "فرنك" أو "زوز فرنك"، وهذا "دورو"، وهذه "عشرة فرنك"، وهذه "عشرين"، وهذه "خمسين"، وهذي "ميا"... والمسكينة كانت تصدقه حتى وإن كذب ليسرق منها بعض المليمات لشراء علبة "النفة" أو بعض سجائر " الحلوزي"...

نعم. كان أبي يفعل ذلك لأنني لما كبرت قليلا كنت شاهدا في عديد المرات أنه يتعمد فعل ذلك...

أبي كان كسولا جدا لا يحب العمل وخاصة يكره الأعمال الفلاحية رغم تملكه لبعض الأراضي، وولد في عائلة فلاحين يعيشون في الأرض ويقتاتون منها...

أما أمي فكانت تشتغل مكرهة في أرضنا. كانت تزرع، وتسقي، وتشقى كثيرا حتى توفر لنا قوتنا اليومي...

كانت المسكينة تربي بعض الدجاجات والقليل من النعاج وأحيانا بقرة أو بقرتين وكانت تنتظر بكل شغف أن نكبر نحن قليلا لمساعدتها في هذه الأشغال، وهذا ما وجدت نفسي عليه منذ الرابعة أوالخامسة من عمري تعلمت كيف أعطي الدجاجات بعضا من القمح والشعير كل صباح، وكيف أمد العشب للبقرة والخرفان، وتعلمت أيضا كيفية رعي هذه الدواب وراء المنزل، وداخل أرضنا، وما جاورها أيضا...

كانت أمي تفرح كثيرا لهذا، وكانت تعتمد علي، وكانت تتمتم ببعض كلمات التشجيع والإطراء...

في تاكلسة قريتنا الفلاحية، قرية أغلب سكانها فقراء حتى وإن كانوا يملكون الأرض فكان أغلبهم يعاني قلة ذات اليد لتشجير أرضه وزراعتها بخلاف قلة قليلة" تبجزت" وأصبح لها شأنا ماليا وزراعيا كبيرا (مخلفات الاستعمار الفرنسي وخاصة كبار الفلاحين الذين كانوا قوادة للاستعمار).

لذلك كنا كما عديد القرى والأرياف في تونس لم نعرف في تلك الفترة وما سبقها ما يسمى دارا أو منزلا، بل نعرف كثيرا الأكواخ والبيوت البدائية ونطلق عليها اسم "معمرة"، هذه البيوت طينية أي مصنوعة بالطين والخشب ويتم تشييدها بطرق مختلفة ومتخلفة مقارنة بمواد البناء العصرية...

فلا غرابة إذا أن تجد كل السكان يقولون بيت ولا يقولون: دار أو منزل...

كانت أمي تقول "هاني ماشية لبيت خويا" أو "بيت أختي" أو "بيت عمتك" أو "بيت خالك". أمي وأغلب الناس لا يقولون "دار فلان" أو "دار فلانة" لأن كلمة دار كانت لا تعني شيئا بخلاف كلمة "بيت" فلكل عائلة بيت، وبيت فقط ينامون فيه، يأكلون فيه ويمارسون حياتهم المنزلية داخله. وقبل أن أنسى خالتك عيشة (أمي) تقول الى اليوم: "ماشية لبيت ولدي" أو "برى لبيت خوك" أو" اتعدى لبيت عمك"...

كلمة دار لم يستوعبها قاموسها لحد الآن...

نشأت وعائلتي في منزل به "بيت" فقط؛ أكيد تقولون وماذا؟

أقول لكم دون "وماذا ": بيت وكوخ صغير للطبخ وكوخ أكبر (معمرة) نضع داخلها أكياس القمح والشعير والفارينة ونضع فيها الطماطم والفلفل والبصل (بعد عملية التجفيف)، وهناك نخزن أيضا الزيت في جرة فخارية وهناك نضع كسكسي العولة والمحمصة وما شابه ذلك ويسميها بعضنا "بيت المونة". يعني كنا ننام جميعا في بيت واحد به الأب والأم ونحن ستة أطفال زد عليهم جدتي أحيانا عندما تأتي لزيارتنا والاطمئنان علينا أو ابن عمتي أحيانا أخرى وعمتي لما تغضب وتتخاصم مع زوجها تجيء لتنام عندنا في هذا البيت وأحيانا وخاصة، في فصل الصيف أو الربيع، كنت أنا أو أحد إخوتي ننام في "المعمرة" لترك المكان لأحد الاقارب...

كان بداخل هذا البيت شبه سرير يسمى "دكانة" يستعمله أبي وأمي، أما نحن الأطفال فكنا نفترش بعض الجلود (جلود الخرفان) وبعض الأقمشة البالية لننام عليها ونتغطى بالقليل...

كنا نتعذب ونعاني أثناء فصل الشتاء وما يزيد عذاباتنا أن تتسرب الى بيتنا أحيانا المياه لما تنزل المطر بغزارة وكان أبي يعدنا أنه سيصلح الأمر خلال أيام أو لما تكف المطر ويتحسن الطقس ولكنه لا يفعل...

في هذه الظروف نشأت وفي هذا البيت تربيت وعند السادسة من عمري ذهبت الى المدرسة...

 

(3)

في سن السادسة ذهبت صحبة الوالد الى قرية "البريج" من تاكلسة أين سيرميني أبي أمام باب المدرسة ويعود هو لرعي أغنامه أو لمواصلة نومه كالمعتاد أو للذهاب الى ذلك المحل المسمى "عطرية" ليقهقه قليلا مع ذلك التاجر القذر " رشيد" وليتحدثا عن نسوة القرية وحول موسم تزاوج الابقار والخرفان...

دخلت المدرسة في أول يوم وكنت أرتدي ملابس رثة قديمة لا أعرف من أين اشترتها لي أمي وكم دفعت فيها أموالا أو دجاجا أو بيضا، لأننا تعودنا بنسوة القرية ينتظرن يوم الخميس للتسوق في مدينة منزل بوزلفة يبعن هناك منتوجاتهن من دجاج وبيض ويشترين كل ما يلزم أو أقل ما يلزم للصغار وللعائلة من ملبس وسكر وشاي...

أما في قدميا فكنت ألبس حذاء قديم لبسته أختي قبل ثلاث أو أربع سنوات...

رأيت المعلم والمدير وحشدا كبيرا من التلاميذ أغلبهم لا يحملون ملابس جديدة أو أحذية رياضية باستثناء قلة قليلة من أبناء أعيان القرية وفلاحيها الكبار...

دخلت القسم وقيل لنا أنتم قسم "أولى أ" وتشرفنا بلقاء المعلم الذي كان يلبس ذلك السروال الضيق من ناحية الحزام وكبير الوسع من حيث قدماه وكان يضع قدميه في حذاء أسود لماع...

وهذه أول مرة ارى رجلا أنيقا وليس رثا كرجال قريتنا، وقلت في نفسي وقتها أريد أن أكون مثل هذا الرجل عندما أكبر، سألبس مثله وسأكون جميلا وأنيقا مثله ولن أكون رثا مثل رجال قريتنا...

تعرف علينا المعلم بتلك الطريقة الساذجة والمتخلفة حول الإسم واللقب ومهنة الأب ولم يسألنا على مهنة الأم لأنه كان يعرف أن نساء الريف لا مهنة لهن غير إنجاب الأطفال والاهتمام بالطبخ وتربية الدجاج والصغار، وما فهمته من خلال عملية التعارف أن زملائي في "أولى أ" كلهم أبناء فلاحين وأقلية منهم أبناء عملة (عمال فلاحين أو عمال بناء وما شابه ذاك) ولا وجود لابن طبيب أو محامي أو ابن بوليس أو حتى ابن موظف بسيط...

نحن في قرية فلاحية بامتياز...

أذكر أنني كنت متفوقا كثيرا في الدراسة تلك السنة ولا أعرف كيف ولماذا، كل ما أعرفه أن المعلم دائما ما يقول لي "أحسنت" وهذه الكلمة السحرية كانت تدفعني دوما لإعادة سماعها، فكنت كل يوم أطير مسرعا عند العودة من المدرسة لأقول لأمي أن سيدي المعلم قال لي "أحسنت" وكنت ألحظ مدى فرحها وسعادتها لدرجة أنها كانت تنتظر مني كل يوم أن أعيد عليها ما قاله لي سيدي...

أكملنا السنة الدراسية الأولى وكنت الأول في هذا القسم مع تحيات المعلم والسيد مدير المدرسة وجائزة آخر السنة تتمثل في بعض القصص البسيطة لكنها كانت انطلاقة لي في عالم المطالعة لأنها كانت أول كتاب أو قصة أو رواية تقع بين يدي بخلاف كتاب "القراءة".

يا لها من متعة أن تملك ثلاثة أو أربعة قصص صغيرة في شكل كتب...

مر صيف تلك السنة طويلا جدا ومقلق جدا لأن المدرسة مغلقة ولا نرتادها فلا المدير بقي في القرية ولا سيدي المعلم رأيته بيننا فكان بالنسبة لي فراغا مقيتا ومدمرا...

كنت أعين أبي في سقي الأشجار وأرتب بعض الأحجار لأن والدي وعدنا ببناء بيت آخر محاذي لبيتنا الأول، لكنه لم يفعل طيلة سنوات قادمة وترك ذلك الحجر مكدسا أمام بيتنا لتسكنه العقارب والثعابين..

وكنت ايضا أعين أمي في شؤونها الفلاحية والسهر على إطعام دجاجاتها وبقرتها فكنت أجلب الأعشاب من الأرض المحاذية وأعطي سطل ماء أجلبه من البئر الملاصقة لبيتنا لتلك البقرة لتعطيني هي بدورها سطل حليب، هكذا كانت تقول لي أمي "اعطي سطل ماء للبڨرة باش العشية هي تعطيك سطل حليب"..

وكنت أحب كثيرا الحليب...

انتهت العطلة الصيفية وعاد سيدي المدير وفتح باب المدرسة ودخلنا القسم الذي يلاصق ويجاور قسم السنة الفارطة وكان له اسما يختلف عن الأول. كان اسمه " الثانية أ"

وجاءنا معلم آخر لا يختلف كثيرا على سيدي المعلم السابق..

فأعطانا قائمة لشراء الادوات المدرسية هي لزوم السنة الدراسية ل «الثانية أ"....

فرحت كثيرا لأن أبي لم يتلكأ في شراء هذه اللزوميات المدرسية كاملة على غير عادته، وهذا ممكن يرجع لتوصيات أمي لأنها هي من أعطته بعض الدجاجات لبيعها وبثمنها أمرته أن يشتري لي ما يطلبه سيدي المعلم...

درست اليوم الاول والثاني والثالث لكن اليوم الرابع كان يوما غير عادي.

نعم اليوم الرابع في " الثانية أ" كان يختلف عن كل الأيام فهذا التاريخ كان له دورا قويا وكبيرا في عقدتي التي أعيش بها الى يوم الناس هذا.....

هذا اليوم (الرابع من سنة ثانية أ) دخل السيد المدير (واسمه سي علي) وفي يده بعض الأوراق ليقول ويأمر غريبي بن منا وزميلته "دنيا" بالخروج من القسم والالتحاق بالقسم "الثالثة أ"، ويفسر لسيدي المعلم ويقول له "تطبيقا لتوصيات رئيس الجمهورية وتشجيعا من سيادته على الدراسة والتعليم أن يتم نقل الأول والثاني من كل قسم "السنة الاولى " مباشرة الى قسم "الثالثة " دون المرور بقسم "الثانية"...

رأيت فرحا في عيني المعلم وأيضا في أعين سيدي المدير أما أنا وزميلتي "دنيا " فلم نفهم الكثير... فقط خرجنا من القسم وتبعنا خطوات المدير الذي أمر بدخولنا الى قسم "الثالثة أ" وفسر لسيدي المعلم وأعاد عليه ما قاله للمعلم الآخر...

فرح بنا سي عبد الكريم، وهذا كان اسمه، وتعرف علينا وأمر بالجلوس معا في الطاولة الأولى...

وهذا سي عبد الكريم كان يؤمن بالاختلاط ويطبقه داخل قسمه فكل تلميذ تجلس بجانبه تلميذة وهذا ما أعجبني وحببني في سيدي المعلم عبد الكريم...

وأمدنا سي عبد الكريم بقائمة من الكتب والكراسات وبعض الأدوات (ممحاة وشفاف، وريشة، وبلومة، وأقلام زينة، وقلم رصاص) لشرائه من تلك المكتبة (تبيع الأدوات المدرسية) المحاذية للمدرسة والتي كان يشرف عليها "سي نجيب بريك"....

وثم قال لنا وستعطيكم معلمتكم للفرنسية الآنسة " نجوى" قائمة أخرى في الكتب الفرنسية

وهذا ما تم ذلك المساء لما دخلنا القسم وأتت معلمة جميلة وأنيقة وصغيرة السن اسمها "آنستي نجوى" لا تشبه نساء قريتنا ولا بناتها فهي بيضاء البشرة وشعرها مثل الحرير ولباسها أحسن وأجمل مما تلبسه أمي وأختي وخالتي ...

دخلت بيتنا على الساعة الخامسة مساء تقريبا لأزف خبر نقلتي الى "قسم الثالثة أ" ولن أبقى في قسم "الثانية" لكن أمي لم تفهم الأمر وقالت لي سأنتظر أباك ليفسر لنا هذه العملية...

عاد أبي بعد ساعة وتحدثت معه أمي في الموضوع لتقول له "أن بورڨيبة رئيس الدولة أمر بأن يتم نقل إبننا الى "الثالثة أ"...

ضحك أبي للأمر وقال لها "يلعن دين والديك انت ولدك الكلب، توة بورڨيبة ما عندو ما يعمل كان باش يتلهى بولدك ينقل فيه من قسم لقسم، يا بنتي فك عليا من حكاياتك الفارغة "...

وهنا تدخلت لأشرح لأبي الأمر ولكني فشلت في ايصال المعلومة ولكن رغم ذلك قال لي سيذهب معي غدا الى المدرسة ويقابل سيدي المدير ويفهم منه هذا الأمر...

وفعلا ذهب أبي واستفسر وفهم أن عليه شراء أدوات جديدة أخرى بخلاف التى اشتراها منذ أربعة أيام... عليه أن يوفر لابنه أدوات لقسم "ثالثة أ"

ولكن أبي رجع الى المنز ل ليقول لي "أسمع مانيش شاريلك ادوات والا سخطة على راسك، ماني مازلت كي شريتلك وقول للمدير متاعك موش لازم منها مزية بورڨيبة واقعد اقرأ في قسم" الثانية "......

وفعلا كانت الصدمة الأولى في حياتي الدراسية أن يرفض أبي أن أمر من القسم الأول الى الثالث والنط على قسم الثانية لأن ظروفه المادية لا تسمح له بشراء كتب أخرى...

وبعد ثلاثة أيام بقيتها في قسم "الثالثة أ "ودون أن أوفر الكتب المطلوبة من سيدي المعلم عبد الكريم وآنستي نجوى يتم إعادتي الى حيث كنت. نعم عدت الى زملائي في قسم "الثانية أ" في حين بقيت زميلتي "دنيا" في قسم الثالثة أ لان والدها وفر لها تلك الأدوات وأبي رفض ذلك... 

وفي الليل لما نمت سألت السؤال الأول في حياتي: " لماذا زميلتي تمر الى الثالثة وأنا لا؟ لماذا يوفر لها أباها الأدوات وأبي لم يفعل؟ وما معنى فقير وغني ولماذا نحن هكذا؟ وما معنى كلمة فقر ولماذا أبي يردد علينا كلمة "ما عنديش "...

طرحت عديد الأسئلة ولم أجد الأجوبة فبكيت كثيرا ونمت....

ولما كبرت قليلا عرفت أننا نختلف ولسنا كلنا مثل بعضنا بل نحن طبقات فينا الغني والمتوسط والفقير والفقير جدا....

وكانت نقمتي منذ تلك الليلة على زميلتي "دنيا" وأبيها، ونقمتي عما كان وراء هذا التقسيم الطبقي وقلت في نفسي

سأكبر يوما - ما وأعرف من كان سببا في هذا وسأحاربه بالتأكيد وآخذ حقي منه...

وهذا مؤشر أولي للدخول الى ثنايا ومسالك الفكر اليساري " الصراع الطبقي"....