ثقافي

تحيّة وداع إلى صامويل باتي، مدرّس الشّكّ ومعلّم الحياة

تحيّة وداع إلى صامويل باتي، مدرّس الشّكّ ومعلّم الحياة   نص : مارلين ميسو  Marylin Maeso ، ترجمة المنتصر الحملي

 (أهدي هذه التّرجمة إلى كلّ مدرّس ومفكّر وكاتب ومناضل حرّ، أبى أن يكون كلب حراسة وإلاّ أن يقف في وجه كهنة المعبد وحرّاس الظّلام مهما كان الثّمن، دفاعا عن حرّية التّعبير والتّفكير والضّمير، وثقافة التّنوير ضدّ ثقافة التّكفير. أهديها إلى المدرسة الّتي يحلم بها كلّ من يريد لهذا البلد إقلاعا نحو مجتمع متحرّر ومزدهر.) 

[ "يجب أن نسمّي الأشياء بأسمائها وندرك أنّنا نقتل ملايين النّاس في كل مرّة نوافق فيها على التّفكير في أفكار معيّنة. نحن لا نفكّر بشكل سيّء لأننا قتلة. نحن قتلة لأنّنا نفكر بشكل سيّء." ]
                      ألبار كامو

  كان اسمك صامويل باتي. وكنت قد اخترت أن تكرّس حياتك، تلك الّتي انتُزعت منك بعنف في يوم جمعة، لتدريس التّاريخ. لتنقل إلى مواطنين فتيان أكثر بكثير من مجرّد مجموعة من المعارف الأساسيّة: لتنقل لهم طعم الحرّيّة، والشّعور بقيمتها، والوعي بهشاشتها.
  ها قد جاء الوقت الّذي تحدّث عنه كامو في "الطّاعون". تلك السّاعة الّتي كم دقّت من مرّة في التّاريخ، تلك الّتي "من يجرؤ فيها على القول إنّ اثنين مع اثنين يساوي أربعة يحكم عليه بالموت". السّاعة الّتي يصبح فيها المعلّم المصرّ على القيام بعمله شهيدا رغم أنفه، مع وقف التّنفيذ. كنتَ تعرف ذلك. وأردت، مهما كان الثّمن، أن يقوم تلاميذك بعمليّة الجمع تلك. لأنّ المدرسة هي هذا.

هي فرصة للقفز إلى الأمام. هي هذا المكان دون أقفال وبألف نافذة، حيث تغادر قناعاتُنا، وبديهياتنا، وأحكامنا المسبقة، عالمنا الحميميّ المريح لتراقب نفسها مليّا في ضوء النّهار. هي هذا الملاذ الّذي يكرهه حرّاس الظّلام، ليس لأنّه كان قد أقسم، كما يحبّون أن يدّعوا، على موت الإيمان، بل لأنّه يبعث للوجود، مع تعليم التّساؤل والاختلاف، فضاء للاختيار.

ليست المعرفة عدوّة للمعتقدات، بل هي عدوّة لكلّ أشكال الوصاية الفكريّة والأخلاقيّة. ّإنّها السّلاح الّذي يخيف عبدة سلطة الإكراه، لأنّه يحتفظ للمرء بحقّه في قول لا. في تغيير رأيه ودينه. في الشّكّ، في التّوقّف عن الاعتقاد أو في الاعتقاد بشكل مختلف. في امتلاكه ناصية النّصوص المقدّسة والوقوف في وجه أولئك الّذين استأثروا لأنفسهم بالقراءة الشّرعيّة.
 كنتَ تحلم بعالم يمكننا فيه جميعا النّقاش معا ودون مآسي. عالم يسمّى "الجمهوريّة"، حيث يستطيع المعلّم أن يعلّم دون أن يعرّض نفسه للخطر. لكنّك كنت تعرف المسافة الّتي تفصلنا عنها. كنت ترى كلّ يوم كيف يتناقض الواقع مع المثل الأعلى. ولذلك، لأنّ سلامة طلبتك كانت بالنّسبة إليك هي أهمّ شيء وقبل أيّ شيء، ولأنّك كنت تعرف أنّه لا يوجد أي ّطفل مسؤول عن التّعليم الذي جعله يشعر بالأذى لدرجة الانزعاج من رسم، اقترحتَ على من كانوا يرغبون في ذلك، وقبل أن تعرض رسما كاريكاتوريّا للنّبيّ، أن يغادروا الصّفّ أو يشيحوا بأنظارهم بعيدا.

  ومنذ تلك اللّحظة، تحرّكت المصيدة. طوال خمسة عشر يوما، أرادوا أن يدفّعوك الثّمن عبر الكثير من التّلاعب. طوال خمسة عشر يوما، نقل الكثير منهم الكذبة ونشروها وانضمّوا بشكل أعمى إلى مطالبة الكهنة البغيضة بقتلك. لدعم ثأر أب منافق اتّهمك بوصم طلاّبك المسلمين، والحال أنّه كان يجسّد جدار الضّغوط والتّسويات الّذي كان الكثير منّا قد ارتطموا به. لقد أثبت، بشكواه السّخيفة المقدَّمة ضدّك بتهمة "نشر صور إباحية"، وبطريقته في استغلال ابنته من خلال ادّعاء تعرّضها لصدمة بسبب مشهد لم تحضره، الأساس المنطقيّ لمخاوفك.
  أن يدعو معلّم بعض طلاّبه إلى مغادرة الفصل، هو أمر سخيف بطبيعة الحال. ولا يمكن تصوّره. هكذا نسمع بالفعل ما يقوله متفقّدو العمل المنجز، الموجودون دائما هناك للخلط بين السّبب والنّتيجة، ليأتوا إليك وأنت في القبر ويقرأوا عليك مقالا عن الحياد الّذي ستهزأ به. من الأسهل بكثير أن تلوم نفسك على عدم التّحليق مباشرة من الاعتراف بأنّ العلمانيّة قد أصيب جناحها بالرّصاص منذ فترة طويلة.

   وكما لو أنّ خبر اغتيالك لم يكن كافيا، كان علينا أن نعلم أنّك قد اعتذرت. وأنّ المتحرّشين بك قد نجحوا في جعلك تتحمل المسؤوليّة عن أفعالهم السّيئة. وبهذه الطّريقة، فإنّ ما كان ينبغي ألاّ يتوقّف أبدا عن كونه عارنا وشأننا الجماعيّ قد أصبح خطأك أنت.
   كلاّ يا صامويل، لا أحد لديه الحق في الحكم عليك. أنتم، يا أيّها الّذين تُفاجَؤون، يا أيّها الّذين تشعرون بالفضيحة من أنّ معلّما معدَما يشير إلى طلبته المسلمين بأنّه لن يجبرهم على النّظر إلى الرّسوم الكاريكاتوريّة للنبيّ، أين كانت إنذاراتكم عندما أظهر استطلاع للرّأي أجرته مؤسّسة إيفوب Ifop الشّهر الماضي أنّ 69٪ من المسلمين الفرنسيين يرون في نشر هذه الرّسومات "استفزازا لا طائل من ورائه"؟

   أين كنتم عندما ارتفعت كالصّاروخ عبارة "يجب القول إنّهم مسؤولون عمّا حدث لهم" في جانفي 2015، بينما كانت دماء رسّامي الكاريكاتير في شارلي إيبدو لا تزال ساخنة؟ ماذا تفعلون اليوم، بينما ميلا، طالبة المدرسة الثّانويّة الّتي اضطرّت إلى الخروج من المدرسة بعد أن تلقّت تهديدات بالقتل من زملائها، بسبب سبّها الإله الّذي نسبوه لها لدعم هجمات رهاب المثليين، تعترف بأنّها تتوقّع أيضا أن تموت "على يد إسلاميّ"؟ ماذا كان لديكم لتقولوه لكلّ المتخصّصين بقول "نعم، ولكن" الّذين اتّهموها بإنّها المتسببّة في محنتها، ولسيريل حنون الّذي ألقى بها في المرعى في برنامجه حين طلب منها "أن تخجل من نفسها" بحجّة أنّه "لا يجب أن يضحك النّاس على الأديان أو يهينوها"؟

   وماذا ستقولون من الآن فصاعدا لأولئك الّذين، في اليوم التّالي لقطع رأس المعلّم، يتلون مرّة أخرى آيات السّاطور الّتي، باقتراحها أن نتخلّى عن الرّسم الكاريكاتوريّ للدّين لتجنّب مآسي جديدة، تكمل عمل الجلاّدين من خلال الاستسلام لابتزازهم؟
هذه هي الحقيقة التي حان معها الوقت لتسوية الأوضاع.
  لقد سمحنا جماعيّا بظهور عالم من الخوف والتّرهيب، حيث يصبح تعسّف الحساسيات هو القانون في الواقع. إنّهم يلومونك يا صامويل على أنّك اختنقت بهذا الهواء الخانق الّذي أجبروك على استنشاقه، على أنك تلعثمت من السّكّين تحت حلقك.

  كانوا يودّون منك، أيّها المعلّم البسيط، أن تحقّق المستحيل عندما لا يكون لدى الآخرين الشّجاعة الأوّليّة للإقرار بما هو واضح. أن تعلّم العلمانيّة بهدوء في نفس اللّحظة الّتي يغسل فيها الكثير من مواطنيك أيديهم منها حين لا يبصقون في وجهها علانيّة، وأنّك تحمل "حرّيتنا العزيزة" عاليا بينما تتجاهل حفّاري قبورها الّذين اعتدوا عليك دون مواجهة مقاومة كبيرة.

  ما ينبغي أن نفهمه أخيرا، كما صرّح كامو في مؤتمر عام 1946 بعنوان "أزمة الإنسان" هو أنّه: "يجب أن نسمّي الأشياء بأسمائها وندرك أنّنا نقتل ملايين النّاس في كل مرّة نوافق فيها على التّفكير في أفكار معيّنة. نحن لا نفكر بشكل سيّء لأننا قتلة. نحن قتلة لأنّنا نفكر بشكل سيّء. هكذا يمكن للمرء أن يكون قاتلا دون أن يقتل على ما يبدو. وهكذا، نحن جميعا قتلة بشكل أو بآخر. في كلّ مرّة نتعامل فيها مع أولئك الّذين لم يرغبوا أبدا في إثارة أيّ شيء سوى التّفكير على أنّهم محرّضون مستهجَنون، فإنّنا نقوم بتسليح أولئك المستعدّين لفعل أيّ شيء لإطفاء نور الفكر." 
  من أجل وضع حدّ لطغيان قابليّة التّأثّر الّتي يحبس فيها بعض البالغين أطفالهم، تحمّلتَ أنت هذه المخاطرة الّتي ما كان يجب أبدا أن تكون كذلك. مخاطرة تحليل رسم مع طلاّبك، لجعلهم، بالبيداغوجيا وضرب المثَل، يثبتون لأنفسهم أنّه لا يوجد شيء يخشونه. وأنّهم كانوا قادرين على مواجهة معتقداتهم بالسّخرية والنّقد. لمنحهم فرصة ثمينة ليروا أن مواجهة التّناقض لم تقتل أحدا أبدا، بل على العكس من ذلك هي الطّريقة الوحيدة لصياغة قناعات راسخة في شعلة العقل.

 ربّما ظهرت مطرقة نيتشه أكثر من مرّة في فصولي، ولكنّني لم أتسبّب أبدا في صدمة لأيّ شخص بتوزيع نصوص تخدش يقينياتنا، سواء أكانت دينيّة أو وجوديّة أو ميتافيزيقيّة أو معرفيّة أو سياسيّة. إذا كنت أصدّق طلاّبي السّابقين، فربّما ساهمت، وليسامحني اللّه، في إيقاظ بعض الدّعوات الفلسفيّة اللاّهوتية. أتصوّر أنّه بالنّسبة إلى رجال الأعمال المستائين الّذين يسعون إلى تجنيد إرهابيين طيّعين، فإنّ كلّ ابن رشد جديد أو غزالي جديد يتمّ تشكيله في مدرسة الجمهورية هو إهانة لا تطاق. لا يوجد نصر أعظم للمدرّس من بذل كلّ ما في وسعه لكبح أولئك الّذين يريدون منع طلبته من بناء أنفسهم بحرّيّة. لقد ظنّ جلاّدك أنّه كان يستعرض القوّة بقتلك. ولكنّه لم يكن يعرف سوى كيف يُظهر رغم أنفه اعترافا بالهزيمة.
  لقد فزت بهذه المعركة بالفعل يا صامويل. أنت شغوف، مهتمّ، مرح، وآسر: هكذا يتحدّث طلاّبك عنك. إنّ الرّجل الّذي يتذكّرونه بهذه العبارات والّذي حزنوا على موته الوحشيّ لا يمكن إلاّ أن يكون معلّما عظيما. وإنّ من بين أولئك الّذين ينضجون خلف مقاعد الدّراسة عقولا صالحة، وقلوبا ممتنّة خالية من الشّرّ.

  وبعيدا عن الجدل الإعلاميّ، بعيدا عن متناول دعاة الكراهية، سيتذكّرك طلاّبك بنفس الامتنان اللّطيف الّذي أشعر به أنا تجاه المعلّمين الّذين غيّروا حياتي. مثل إليزابيت بوريل، وبرنار دييت، وباتريس لوريوكس، وماري نويل فيران، وسيباستيان كوت، ولوك فيرييه، وغيرهم كثيرون هم عندي أسماء أشخاص أدين لهم برسالتي وثروة معرفيّة غزيرة لا يمكن لأحد أن يسرقها منّي، وهكذا ستكون يا صامويل باتي للأطفال الّذين أتيحت لهم الفرصة لملاقاتك في طريقك، اسما لرجل كان وجوده مدفوعا بالرّغبة في جعلهم سادة أنفسهم. 

•    ظهر هذا المقال في مجلّة ليكسبريس، أكتوبر 2020، تحت عنوان "يا صامويل، لقد فزت في هذه المعركة بالفعل Cette bataille, Samuel, tu l’as déjà remportée".

  نشر المقال في ترجمته الى العربية في عدد شهر جويلية 2022 من ملحق " منارات "