رباط رأس الدرب بالعاصمة وجه آخر من معاناة المدينة العتيقة
بقلم الاستاذة نجاة البكري
رباط رأس الدّرب الّذي يقع على منحدر هضبة سيدي علي القُرجاني* هو رباط من رباطات مدينة تونس العاصمة وهو امتداد لسوق العصر والمُركاض ومتنفّس لها.
يوجد هذا الرّباط خارج سورباب الجديد غربيّ المدينة العتيقة. وكان يقوم بدوراقتصاديّ زمن السّلم بتعاطي بعض النّشاطات الفلاحيّة وبدور أمنيّ دفاعيّ خلال فترة الحروب وتستقرّ فيه مراكز دفاعيّة متقدّمة لحماية المدينة وأسوارها ومؤسّساتها الحيويّة زيادة الى استيعابه أعداد المتساكنين المتزايدة الّذين يؤمّنون استمراريّة بعض النّشاطات الصناعيّة الملوّثة الّتي لا تُمارس عادة داخل أسوار المدينة.
كان ذلك في حقبة قديمة من تاريخ بلادنا تونس. ونحن نقرأ تاريخ مدينتنا العتيقة أو البلاد العَرْبي كما يحلو لنا أن نسمّيها ترانا ننْتشي كلّما علمنا ببرنامج ثقافيّ يُنظّم في أحد بُيوتاتها العتيقة مثل دار لصرم ودار عاشور ومدرسة السليمانيّة ودارالدّزيري وغيرها.
وكنّا نسْتأنس بفكرة أن تتكفّل المؤسّسة الرسميّة، ولو بشكل خجول، بصيانة بعض القصور العثمانيّة والمباني العتيقة حتّى تحافظ على وجودها، وبذلك نحفظ وجه من وجوه حضارة تونس.
ولعلّ استثمار رجل أعمال تونسيّ بين أضلع أسوارالبلاد العَرْبي حين يشتري من تلك المباني المتروكة لقدرها ويحوّلها إمّا إلى مطعم أو بيت ضيافة أو فضاء ترفيهيّ يبعث بشيء من الطمأنينة، خاصّة حين يحرص على إعادة الرّوح فيها فيُحافظ على طرازها الأصليّ بترميمها وتزيينها بمقتنيات تونسيّة بحتة.
بعض من أسرار رأس الدرب
لم يكن من السّهل علينا لقاء من شهدوا تفاصيل هذا الرّباط، فـكبارات الحومة رحلوا عن هذه الدّنيا لكن لقائي بحفيدات وأحفاد بعض أسر رباط رأس الدّرب، مكنّني من النّبش في ذاكرة كلّ فرد من بينهم فغنمت بجانب بسيط من تاريخ تلك الأماكن الّتي تشكّل صفحة من صفحات تونس، ما منحنا حقّ التّرحال معهم في تلك الأجواء الّتي نشأوا عليها وشكّلت هويّتهم في حقبة من زمان المكان وسكّانه.
في الحقيقة، لم يكن بإمكاننا أن نخفي استياءنا حين يتباهى بعض من صادفناهم بامتلاك مستثمرأجنبيّ أو أكثر من تلك المنازل العتيقة فتتحوّل إلى بيوت ضيافة أو دكاكين لبيع منتج تقليديّ تونسيّ، ألمْ يكن من الأجدر أن يحيي تونسيّ تراثنا ويحرص على بعث الرّوح فيه كي لا تندثر ملامحه؟ ربمّا ما هوّن علينا عبء ما سمعناه من روايات عن اهمال هذا الرّباط والاستهتار بقيمته التاريخيّة هو تمسّك البعض بالإقامة حيث ولد أجدادهم وحرصهم على عدم مغادرته فصمّموا على ترميم منازلهم رغم ارتفاع كلفة الصيانة.
لقد انشرحت سرائرنا حين ولجنا منزل السيّدة زينة. ع فاستقبلنا مع ابتسامتها العريضة ووجهها الأسمر البشوش بهوه المرصّعة جدرانه بجليز تراقصت ألوانه المتناسقة بين الأزرق والأخضر والأصفر، ألوانا عهدتْها عيوننا منذ نعومة أظفارنا أو حين دعانا مقعده العتيق أي ذلك(البَنْك) الّذي استأنس بمفرشه الأبيض ووساداته البيضاء المطرّزة الّتي كانت تدعونا للجلوس.
وان تباهت كلّ من عربيّة عبد الهادي وسهام الڨرّام وتركيّة بربار وزينة. ع وكلّ من التقيناهم خلال جولتنا في رباط رأس الدّرب بانتمائهم للمكان وانتسابهم لقائمة العائلات العريقة، إلّا أنّ ما شاهدناه على أرض الواقع يدعو للشّفقة ويدمي القلوب، فعدد البوّابات الأنيقة الّتي تشكو جحود أصحابها من ناحية وتخفي ما كابدته جدران مبانيها من اهمالهم واهمال مؤسساتنا الرسميّة لها من ناحية أخرى هو أمر لا يُصدّق.
البلدية ومؤسسات اخرى لا تحرك ساكنا
كيف يمكن أن تتحوّل تلك المباني الآيلة للسّقوط إلى أوكار لمتعاطي المخدّرات؟ أو منامات للمتشرّدين؟ أو مكبّات للنّفايات دون أن يتحرّك ساكن للبلديّة والمؤسّسات ذات العلاقة بصيانة المدينة ؟ أمْ أنّ انقضاض جرّافة بلديّة المدينة على ما بقي من جدران بعضها بحجّة أنّها تشكّل خطرا على المارّة، يبقى الحلّ الأمثل لمعالجة هكذا أمور؟
لعلّ انتشاء سهام الڨَرّام في جولتها معنا في رأس الدّرب بعد طول غياب والتقائها بمن ذكّروها بطفولتها وصباها جعلها تعبّر عن فخرها بانتمائها للمكان ومجاورتها لعائلات قالت أنّهم أصل المكان والزّمان في هذا الرّباط لدرجة أنّها لم تر منه إلا وجهه الحسن، إذ قالت رأس الدّرب هو كلّ خطوة خطوتها منذ طفولتي إلى أن غادرت إلى بيت الزوجيّة، كما لا يمكن الحديث عن رأس الدّرب دون ذكر جذوري من آل الڨرام وأوّلهم بيت جدّي احميدة القرام، ومن المؤسف أن نخسر بيت الجدود الّذي استولى عليه أحد المتسلّطين فدمّر الأثر العتيق واستبدله ببيت عصريّ، فاختفت البوابة الكبيرة والسقيفة الصغيرة والكبيرة واقتُلعت ليمونة الباحة وغاب الماجل الّذي كان ثلاجة فواكه الصّيف إلى جانب كونه مصدر مياه المطر العذبة، فلا نملك أنا وبقيّة أفراد عائلتي إلّا أن نتحسّر عما آلت إليه الأمور في ظلّ هذه الفوضى العامّة وغياب سلطة القانون .
راس الدرب يساوي عائلات بعينها
ثمّ تضيف: رأس الدّرب يساوي عائلات بعينها، هو بيت آل عزالدّين وصاحبه الشيخ الزّيتوني الوقور ذلك الّذي كان لا يتخلّى عن لباسه التقليديّ (العمامة والجبّة والفرملة...)،وبيت آل سعيّد والزّريبي والرّكراك ومقام سيدي بن ملوكة وآل بن سميّة وآل الماطري وآل بن عمّاروالدبّابي والمنّاعي والبرقي والزحّاف وبربار وآل الكبيّر وبن جاءوحدو والكعّاك والجريدي، وغيرهم كلّ هؤلاء يشكّلون أعمدة هذا الرّباط.
ونحن نجوب أنهج رأس الدّرب مررنا بنهج سيدي مبارك حيث كانت تقيم الممثّلة التونسيّة حليمة داوود والفنّانة زينة التّونسيّة والمغني الشعبي صاحب أغنية زردة زردة بالكوسكوس وقسم على الله من الكريطة محمّد الجرّاري، ومن بين سكّانه حارس مرمى النّادي الافريقي الصّادق ساسي المشهورباسم عتّوڨة والذي تولّى خطّة حارس مرمى الفريق الوطني طيلة خمسة عشر عاما.
أمّا تركيّة بربار الّتي حافظت هي وأفراد أسرتها على بيتهم فرمّموه وأبقوا على طرازه القديم بما في ذلك أثاثه، فقد اختارت الانطواء على نفسها والاكتفاء بأفراد أسرتها لأنّ جلّ من بقي على قيد الحياة من عائلات الرّباط الأصليّة اختاروا الإقامة خارج أسوار رأس الدّرب، إمّا بحثا عن رفاهيّة لا تتوفّر في البيوت والأحياء القديمة أو لعدم قدرتهم على صيانة منازلهم: «حاليّا لا نعرف من يجاورنا كما أنّ وجود معربدين في تلك البيوت المهجورة جعلنا لا نشعر بالأمان.
هنا دار الوزير الاكبر الممضي على وثيقة الاستقلال
يا حسرة فالمكان الّذي عرف سابقا إقامة الوزير الأكبر الطّاهر بن عمّار الّذي وقّع وثيقة الاستقلال وعرف عائلة الماجدة وسيلة زوجة الزعيم بورقيبة وآل الكعّاك وكل من ذكرتهم بنت الڨرّام، لم يعد الآن يتعرّف على نفسه وبتنا غرباء في رباط ولد ومات فيه أجدادنا ووالدينا . وتضيف: أنا شخصيّا لن أغادره، وإني والله لسعيدة أنّ ابني وعائلته يقيمون معي، أي أنّ حفيدي لن تبرحه عطور هذا الرّباط العزيز وان غادره لاحقا.
ونحن نتجوّل في أنهج وأزقّة هذا الرّباط برفقة، نلاحظ كيف أنّ مساحات شاسعة منه قد تحوّلت إلى مقابر لأنقاض حقبة هامّة من تاريخه وحاضنة لنفايات سكّانه الّتي لوّثت المكان وطمست جماليّته. أهكذا تُصان بلادنا العرْبي الّتي صنّفت عام 1979 ضمن لائحة مواقع التّراث العالميّ بـ(منظّمة الأمم المتّحدة للتّربية والعلوم والثّقافة)؟ وإلى متى سيستمرّ تجاهل هذا الإرث التّونسي؟ هو ارث، ورغم كلّ شيء نطق ولا يزال ينطق بتفاصيل هويتنا. من جهتها، اختارت عربيّة عبد الهادي أن تتحدّى مفعول الزّمان فتحيي الزّمن البعيد بـ(رأس الدّرب) وتنقل إلينا من مخزون روايات جدّتها مريم، فحدّثتنا عن جانب من طقوس أعراسهم فترة الثّلاثينات والأربعينات. فقد ورد على لسانها أن نصب التيندا* أي تغطية باحة المنزل هو اعلان رسميّ عن انطلاق الفرح وهو أوّل مظاهر العرس في أيّ منزل من منازل رأس الدّرب حتّى تتمكّن النسوة من الحركة بحريّة أثناء التحضيرات لسهرات العرس بعيدا عن العيون المتطفّلة.
نهار الصابون والحديد والولائم
لقد شهدت باحات المنازل العربيّة على مرحليّة منتظمة لكلّ ما يجعل من تفاصيل المناسبة مثاليّة ولا يجب الحياد عنها، فعرفت نهار الصابون* والحديد* وولائم الفطور والغذاء والعشاء لكل من يحلّ ببيت أهل العروس أو العريس من الأقارب، وشهدت على طقس "المردومة والحمّام وسهرات الحنّة والوطيّة والجلوة لتنتهي بليلة المحضرأي ليلة الزّفاف.
تماهت السيدة عربيّة عبد الهادي، الّتي ارتبط اسمها باسم الوليّة الصالحة للّا عربية، في سرد ما ميّز فترة الخالات والعمّات، فالمرأة في تلك الحقبة من الزّمان لم تكن لتغادر البيت لتقوم بدعوة الأقارب والأنساب لحضور مراحل زفاف ابنتها أو ابنها، ولم تكن هناك بطاقات دعوة ولا وسائل تواصل يعتمدونها حينها، بل كانوا يعتمدون على سيدة من خارج الأسرة وغالبا ما تكون معينة منزليّة يجلبونها لمساعدة نساء البيت أيّام الفرح، أو زنجيّة كانت على ملك تلك الأسرة واختارت البقاء في حمايتها حتّى بعد عتقها من العبوديّة.
سفساري حرير وطماق وحنة في اليدين
وقبل أن تبدأ تلك السيدة بتبليغ الدعوات، تعتني العائلة بتهيئتها للمهمّة بالشكل الّذي يليق بمقامها، كأن يشتروا لها ملابس جديدة وسفساري* حرير وطماق* وأن تتزيّن يداها بالحنّة. وقبل ثمانية أيام تنطلق تلك المرأة لتنفيذ مهمّتها برفقة طفل من أبناء العائلة، كي يدلّها على كل بيت تنوي التوجّه
إليه، دون أن تنسى والدة العروس أو العريس تعطير ملابس من تُعرف بـالمسْتادنة وتزويدها بمنديل أنيق تجمع فيه ما تمنحه إياها من نقود كل صاحبة بيت قامت بدعوتها وهو عبارة عن مساهمة رمزيّةلدعم أصحاب المناسبة. وعلى المستادنة أن تحفظ قيمة المبلغ بعلاقة بصاحبته وتبليغ أم العروس بكل
دقّة بذلك، فما قُدّم من مال هو عبارة عن ديْن وجب تسديده في مناسبات أولئك الأقارب الّذين تمّت دعوتهم.
ما أن يفتح الباب لتلك المستادنة حتى تبرز كفّيها المخضّبتين بالحنّاء لأهل البيت المقصود كي يعرفوا سبب حضورها فتطلق الزّغاريد ويتم استقبالها بزغاريد متبادلة وتقدّم لها ضيافة تليق بأهل العرس، إلا أنّ رحلة تلك السيدة لا تبدأ دون أن يوضع ذلك المنديل على مائدة الأسرة، قبل انطلاقها للمهمّة، فبعد فطور الصباح تقدّم كلّ قريبة من قريبات العروس من عمات وخالات وزوجات الأخوال والأعمام مبلغا يجب أن يفوق المبلغ الذي تقدمه القريبة من الدرجة الثانية أو الأنساب.
وفي نهاية مراسم العرس، وبعد أن تطمئن العائلتان المتصاهرتان على مصير العروسين، تفوزالمستادنة بذلك المبلغ من المال الّذي جمعته خلال رحلة الدعوات بين البيوت، فتقدّمه لها والدة العروس مقابل جهدها وتفانيها خاصّة في تنفيذ مهمّة الدعوات على أكمل وجه.
لعلّ السطور لا تكفينا لنقل كلّ مراحل وتفاصيل شهادات سكّان رباط رأس الدّرب ولا بقيّة أربضة مدينتنا العتيقة الّتي لطالما تحدّثت عن حقائق نطق بها التاريخ وأخرى طُمرت مع من رحلوا، إلّا أنّ إصرارنا على ملاحقة الحقائق واستنطاقها سيجعلنا نكتب ونكتب حتّى نبلّغ أصواتنا لمن تغافلوا عنها،
علّهم يستجيبوا لدعواتنا. فهل من مجيب؟
-------------------
*سيدي علي الڨُرجاني هو أبو الحسن علي الڨُرجاني صاحب كتاب المناقب في رجال الشّرف وتوفي عام 1282 ودفن في مقبرة حملت اسمه وقد استبدلت بحديقة مع الإبقاء على ضريحه.
*نشر المقال في العدد الاخير من ملحق " منارات "