حمة الهمامي يقدم كتابا لسليم بوخذير يغني فيه للحب والحياة والوطن
" الورد لخدها...والمطر" عنوان أخر اصدار للزميل الصحفي سليم بوخذير الذي طبعه على نفقته الخاصة ويعتزم توزيعه بامكانياته الذاتية. تقديم لافت للكتاب خطه السيد حمة الهمامي، الامين العام لحزب العمال. وفيه نلمس الطابع الادبي الغالب على شخصية هذا المناضل السياسي كما نكتشف وجها آخر للزميل سليم بوخذير.
فتحت عنوان "سليم بوخذير يُغنّي ويكتب ويرسم أو الشّرير الجميل يُغني للحُب والحياة والوطن" كتب السيد حمة الهمامي:
لا أريد أن أتحدث كثيرا في هذه المقدمة الموجزة عن كتابات سليم بوخذير. فنصوصه المختلفة والمتنوعة في محاورها وأشكالها، تتحدث عنه أكثر مما يمكن أن أتحدث عنها شخصيا. فهو شاعر وناثر وبعض نصوصه الشعرية والنثرية، بالفصحى أحيانا وبالدارجة (أغنيات خاصة) أحيانا أخرى، تخالها، وأنت تقرأها، رسوما لشدة ما تقفز الصورة إلى ذهنك قبل المعنى. ولكنني أريد أن أتحدث عن الشخص الذي قدر على إنتاج هذه النصوص التي أحببتها شخصيا، والحبّ لا يعتني كثيرا بالتفاصيل وإنما بالروح. والحبّ لا يعير أهمّية كبيرة لبعض الشؤون الشكلية، وإنّما يهتم بالملمح وبالعمق.
عرفت سليم بوخذير سنوات الجمر، حين كان للكلام والحركة معنى. حين كانت الكلمات تؤخذ من "ملك الملوك"، على أنها إعلان حرب، والحركات، مهما كان مداتها، على أنها "تآمر على أمن الدولة". عرفت "سلملم، في وقت، وليس في ذلك أي مبالغة، كان الناس يخشون الحديث حتى مع أنفسهم، كان في رأس كل مواطن، حسب العبارة الشهيرة لرئيس منظمة العفو الدولية "السيد بيار سناي"، بوليس يوجّهه، نتيجة الخوف المستبطن: لا تتكلم في الشارع لأنه ثمة من ينصت إليك، ولا تتكلم في سيارتك لأنه من الممكن أن يوضع فيها جهاز تنصّت ولا تتكلم في منزلك إذ من الممكن أن تحشر في إحدى أركانها كاميرا تنقل كل شيء عن حياتك الخاصة، كلاما وأفعالا، وبالطبع لا تتكلم في جوّالك لأنّ جوّالات كل "المشبوه فيهم" مراقَبة.
لم تكن هذه مبالغات ولكنها كانت قريبة جدا من الواقع. لذلك كان الخوف يسري في القلوب والعقول. ولكن كانت ثمة نشازات من بينها سليم بوخذير. كان بكل بساطة لا يخاف. كان الخوف بالنسبة إليه يعني أن تموت وأنت حيّ. أستذكر في هذا المقام ما قاله نجيب محفوظ في أولاد حارتنا: "الموت الذي يقتل الحياة بالخوف حتى قبل أن يجيء، لو رُدّ إلى الحياة لصاح بكلّ رجل: لا تخف. الخوف لا يمنع من الموت ولكنه يمنع من الحياة. ولستم يا أهل حارتنا أحياء ولن تتاح لكم الحياة ما دمتم تخافون الموت".
وبالفعل لم يكن سليم بوخذير يخاف الموت وهو أقصى درجات الخوف. كان سليم يكتب بحرية. ويصرخ في الشارع بحرية. ويتكلم في المنابر غير المرخّص لها مهما كانت، سمعية أو بصرية أو مكتوبة، بحرّية. وكان كلّما تعرّض إلى مظلمة أو اعتداء جسدي شنيع من بوليس "زابا" (كما كان يسميه توفيق بن بريك الكاتب الشجاع والساخر)، إلّا وازداد قوة وشجاعة. وإنني مازلت إلى اليوم أتذكر فيه ذلك اليوم من أيام سنة 2006 حين بلغنا، راضية وأنا، أنّ البوليس جرّ سليم بوخذير جرّا في الطريق وألقى به قرب محطة بنزين في شارع "جان جوريس" وتركه شبه مغمى عليه، لإبعاده عن مقر جريدة الشروق التي أطردته من العمل مما اضطرّه إلى الدخول في إضراب عن الطعام لمدة تفوق الشهر.
سارعنا، راضية وأنا ومعنا المناضل الأستاذ عبد الرؤوف العيادي، بالالتحاق به فوجدناه مرميّا على قارعة الطريق في حالة خطيرة. وأعوان البوليس السري يرقبونه عن بعد عشرات الأمتار بعد اعتدائهم عليه. أول شيء فكرنا فيه قبل نقله إلى المستشفى هو إطعامه بكمية من الماء وبقطع سكر لأنّ حالته كانت تنبئ بهبوط شديد في نسبة السكر في دمه باعتباره مضربا عن الطعام. ثم امتطينا سيارة عبد الرؤوف العيادي ونقلنا سليم على جناح السرعة لقسم الاستعجالي بمستشفى شارل نيكول، وأدخلناه بالقوة إلى غرفة الطبيب ونحن نصرخ "الراجل باش يموت".
وللتاريخ فقد اتصلنا مسبقا بالأستاذ الطبيب والمناضل خليل الزاوية الذي كان يعمل في نفس المستشفى لتسهيل المهمة مع العلم أنه كان هو نفسه مراقبا باعتباره معارضا. ولم يدرك طبيب الاستعجالي خطورة الوضع إلا عندما وجد نسبة السكر في الدم في حدود 0.33، بينما النسبة العادية تتراوح بين 0.7 و1.10. كان سليم بوخذير وقتها في شبه غيبوبة. ناوله الطبيب بعض دواء وألقاه على فراش. ولما كنا نحن في تلك الحالة إذ بأحد أعوان البوليس السياسي يتسلل إلى غرفة الفحص، للاطلاع على ما يجري فيها وعلى حالة سليم، فإذا براضية النصراوي تنتبه إلى الأمر وتصرخ في وجهه "اخرج من هنا...اخرج من هنا...حتى الراجل باش يموت وانتم تنسنسوا عليه...ما تحشموش...". وحينها كانت المفاجأة: سليم الذي كان في شبه غيبوبة لم ندرك كيف جمّع قواه وانتفض من فراشه وارتمى على العون وأراد أن يخنقه ويضربه وهو يصيح: "لن أموت...أنا أقوى من الموت...لن تفرحوا بتلك اللحظة أيها الفاشيّون...". ارتبك العون وفرّ أمام أنظار الطبيب الذي بقي متسمّرا طوال الوقت في مكانه لا يعرف كيف يتصرّف...
ارتخى سليم من جديد من فرط الإعياء وتدهور حالته الصحية وكاد يغمى عليه وأعدناه إلى فراشه ونحن لم نتمالك على الضحك..."شنوة هالهيجة اللي هجتها يا سليم...روحك باش تطلع وأنت باش تخنق البوليس..." قالت راضية...ولكن سليم لم يتوقف عن سبّ بن علي وآل بن علي وبوليسه والطبيب المسكين "مرعوب". لم أجد بدا وقتها من شرح الوضعية له وتعريفه بمن هو سليم بوخذير... من تلك المواقف المتكررة اشتدت الروابط بيننا وبين سليم بوخذير. وأصبحنا أحبة في السرّاء والضرّاء. نتقاسم هموم الناس والوطن. ونتبادل الرأي حول كل القضايا. ونطلع بعضنا بعضا على ما نكتب قبل نشره... والأهم من كل شيء أننا نضحك دائما. لا أتذكر مرة واحدة تهاتفنا فيه دون أن تتخللها قهقهة حتى في أصعب الأوقات.
هذا الرجل الصلب العنيد هو الذي أنتج ما جاء في ورقات هذا الكتاب... هو لا يعطيكم دروسا في السياسة أو الصمود في وجه الجلادين، وإنما هو يعطيكم في هذا الكتاب دروسا من نوع آخر...دروسا في الحب والعشق مثلا: "إذا أحببتم فعليكم أن تهتموا بمن تحبّون وتجنّبوا الغياب... الاهتمام والحضور هما الماء السلسبيل الذي يروي شجرة الحبّ... ويجعلها دائمة، مزهرة، يانعة، وارفة الظلال... فإنّ الأشجار إذا عطشت ذبلت وإذا طال عطشها قد تموت..." الحب واحد. والعشق واحد. سواء تعلق الأمر بالوطن أو الحبيب.
فهما خليط كيمياوي واحد في قلب سليم بوخذير، لذلك تجده في نصوصه لا يفصل بين الحُبّيْن والعشقيْن. وهو يوصِينا دائما بدرس من دروس الحياة: "من يخدعك مرّة سيخدعك طول العمر... من يخونك مرّة سيخونك ألف مرة... الخداع والخيانة هما لدى أصحابهما أيديولوجية في حدّ ذاتها..." أما أيديولوجية سليم بوخذير التي لا تتغير فهي الحب والوفاء لمن يحب: الحبيب والحبيبة والرفيق والرفيقة والوطن... شعاره: "لا تتجمّل...لا تنافق...لا تركّب أقنعة..." وهو يغنّي لوردة الأمميّة: "شيوعية يا أمّ الشمايل يا وردة درب وسبيل أصيلة يا أم الجدايل جايْ فجرك مِن بعد لِيلْ"
حمّه الهمامي/ تونس في 20 جويلية 2022.