تونس بين وباء الكورونا القاتل والليبيرالية الاقتصادية المتوحشة
بقلم صبري الرابحي
لقد صار جليا إهمال الدولة التونسية لمواطنيها، حيث صار تطرف النظام أكثر وضوحا بين إنفتاح مفرط لاقتصاد عاجز في زمن بؤس كبرى اقتصاديات العالم بسبب وباء كورونا و بين انغلاق اضطراري تغيب فيه شتى أشكال المرافقة الاجتماعية. أما الحجة في ذلك دائماً فهي الضرورة الاقتصادية كما الضرورة السياسية المنتجة للفشل في زمن شح الأوكسجين مما جاز معه القول أننا صرنا حقاً نموت نموت ليحيا الوطن، فيفرض نفسه السؤال الذي لا بد منه : يحيا لمن من بعدنا ؟
لقد أصبح التونسيون يستسيغون أرقام قتلى وباء كورونا كل يوم بعد أن كانت تؤرقهم، لكن مع اقتراب شبح الموت من كل قرية و مدينة و حي صار السؤال المحوري هو أين الدولة من هذا؟
رئيس الدولة منشغل بالتذكير بوحدويته، رئيسا فريدا لكل شيء، للقوات المسلحة، للديبلوماسية، للإدارة لكل شيء بينما يعكس أداؤه في زمن الكورونا مرؤوسيته فقط للقصر لا شريك له فيه.
رئيس الحكومة منشغل بمتابعة النشاط الرئاسي و التذكير بأحقيته بالنزر القليل من المنجز المؤجل من قبيل تلقي مساعدات من دول صديقة قد لا تأتي بسبب خصومتهما، أما رئيس البرلمان فمعتكف في محراب التشريع يدير بمكر العجائز مناوشات عبير موسي و بقية النواب في معارك لم تعد تعني معظم التونسيين تماما مثل لامبالاتهم بكامل المجلس فيما الشعب ذاهب إلى جحيم قريب مرتقب في وطن آفل.
لقد صارت البدائل الرسمية هي إما الغلق الكلي أو الفتح اللامسؤول لكل فضاءات تبادل العدوى دون بوصلة علمية واضحة تستتبعها إجراءات اجتماعية واقعية و محفزة على الانضباط. هذا الانضباط مرتبط لدى الدولة رأسا بالعنف البوليسي لا غير دون التساؤل عن سبب الرفض الشعبي لبعض الإجراءات أو حتى عدم مبالاته و إطنابه في خرقها حيث يبدو أن السلوك الاجتماعي غير ذي معنى ما دام يمكن تقويمه بالعصا الغليظة للدولة دون فهم مقاصده أصلا
فمنذ أن حل ركب وباء الكورونا لم يفكر النظام يوما في التراجع عن توحشه، فخياراته الاقتصادية العامة كانت منذ البداية و استكمالا لمسار انطلق منذ أواخر الثمانينات في اتجاه واحد، الليبرالية المتوحشة و اقتصاد السوق في كل شيء.
كان هاجس التونسيين قبيل الثورة هو سلطوية النظام و أركانه بالمصاهرة على قوتهم اليومي مع استحياء ظاهر في المس من مؤسساتهم الشعبية من تعليم و صحة و خدمات، قد تكون ليست من أولويات السلطة و المتسلطين أنداك من أجل أمانة تاريخية كاملة غير أن فجر الثورة فجر ميولات الليبرالية الجامحة التي لم تعد تستثني شيئا.
والحقيقة أن معظم التونسيين ينشغلون بجدوى اقتصادهم أكثر من توجهه و يتركون هذه المهمة للأكاديميين من ذوي الجنسيات المزدوجة، غير أن كبرى صدمات المواطن في الأثناء تأتيه عن طريق أداء الليبرالية في زمن أسوء أزمة عرفها التونسيون و هي أزمة وباء كورونا.
فكبرى المستشفيات أعلنت قصورها عن إنجاد المصابين الذين صاروا بالآلاف يوميا وصارت المصحات الخاصة لا تتورع عم طلب الملايين غير المتاحة للجميع، ليرى التونسيون بوضوح توحش الليبرالية كما لم يروها من قبل، حيث صارت الليبرالية تقتلهم حتى اختلط عندهم اسم الوباء المتحور إن كان الكورونا أو الليبرالية نفسها.
في المقابل صار المحافظون أكثر تمسكا بالمؤسسات العمومية التي لا مناص من انجادها لإنقاذ الطبقات الشعبية من فئوية الحق في الحياة الذي فرضه رأس المال الصحي.
لقد صار الحق في الحياة مكلفا جداً بل نخبويا لا يهادن حق الإنسان في الحياة بل يفاوض على ثمنها و يعلق آمال المواطن في العيش على توفر الأموال حتى تمايز المواطنون في آلة الفرز الليبرالي التي لا تستثني أحداً.
عندما تمر هذه الأزمة سيكتشف التونسيون كالكثير من الشعوب المسحوقة أمام أنظمتها أن حقهم في الحياة كان مكلفا جداً و أن رأس المال و إن أظهر قساوته في عديد الأزمات سابقا مازال متمسكا بالفرز الطبقي متى توفر نظام الحكم المشجع على ذلك.