عبدالله " الحارق " الغارق ليس ملاكا ولكن، أبدا، لم يكن شيطانا.
الشعب نبوز/ آراء حرة / عبد الله " الحارق " الغارق ليس ملاكا ولكن، أبدا، لم يكن شيطانا، عنوان قصة صحفية كتبها الزميل محمد العروسي بن صالح عن قريب له، أحرق كل مراكبه وركب قاربا حسبه للنجاة أقرب له من محرقة البطالة المهينة والسجن المدل بعد فصله من العمل اثر خطإ غير مقبول. لم يكتف الزميل بالسرد بل تعداه الى نقد الممارسات الادارية في تعاملها مع الموظفين واقتراح حل بديل للعقوبة السالبة لموطن الرزق.
طَوَى الجَزِيرَةَ حتى جاءَني خَبَرٌ /////// فَزِعْتُ فيهِ بآمالي إلى الكَذِبِ
حتى إذا لم يَدَعْ لي صِدْقُهُ أمَلاً /////// شَرِقْتُ بالدّمعِ حتى كادَ يشرَقُ بي
هذان البيتان لشاعر العرب ابي الطيب المتنبي القاهما لما بلغه نبأ وفاة من أحبّ. لم يصدّق الخبر وتمنى الا يكون صحيحا، ولكن لما صدق الخبر، بكى حتى شرق.
هكذا صار معي وانا مستغرق في عمل يحل أجل تنفيذه في اليوم الموالي لما بلغني عشية الخميس 8 الجاري خبر وفاة عبدالله غرقا.
لم اصدق اعلام الناعي الاول لما لمسته فيه من اضطراب، لان عبدالله ليس من النوع الذي يندفع نحو موتة تافهة كهذه بل وليس من النوع الذي يستكين او يقبل بالهزيمة.
ثم لما توالى المخبرون يؤكدون الفاجعة، اصابني ما اصاب ابا الطيب لما تيقن من وفاة من أحب وأصابني ما اصابني لما بلغني خبر وفاة ابني البكر خلدون وأصابني ما اصاب اي شخص صدم بوفاة حبيب او قريب او ابن.
ذلك أن عبدالله، هو بمثابة ابني، ندّ لولدي خلدون - رحمه الله- ومروان وصديق لهما، كانوا يشتركون في بعض الاهتمامات والمغامرات.
رغم صعاب المحيط الذي عاش فيه،فقد شق عبدالله طريقه الى النجاح في الدراسة الى ان حصل على الاجازة في المالية من كلية المهدية.
لذلك، لم يجد أية صعوبة في الالتحاق بالصندوق الوطني للتأمين على المرض اشهر تكوينه الاولى, وأذكر هنا ان المسؤول الاول للصندوق، آنذاك، قال له لما استقبله لتسليمه قرار التعيين أنه آسف لعجزه على تعيينه في العاصمة ، لان الصندوق في حاجة الى مختص مثله، في مكتب الصندوق بجبنيانة.
وهكذا كان.
انطلق كالسهم، يرتقي الرتب واحدة تلو أخرى، في سرعة قياسية، حتى وصل، في ظرف 15 سنة، الى السقف.
احاط بكل الملفات، خبر كل التعرجات، أتقن وأبدع، واشتهر بين الناس كموظف خدوم، لا يغلق باب مكتبه، لا يقلق ولا ينزعج، لا يعجز عن حل اي اشكال.
كان أثناء راحته منتصف التوقيت الاداري، او مروره من هذا المكان أو ذاك، او راحته الاسبوعية لا يرد طلب استفسار ولا يرفض تقديم نصيحة وكثيرا ما طلبت منه سيدة او شيخ، صعب عليهما التنقل الى المكتب، ان يأخذ منهما أوراقهما لعمل اللازم الاداري.
لم يكن ملاكا أو فارسا يركب حصانا ابيض يجول بين الناس ويحل مشاكلهم. كان يفعل ذلك عن طيب خاطر وعن قناعة وكذلك نتاج تثقيف مجتمعي، حضاري - يقول بعضهم سياسي - يقوم باختصار على خدمة الناس.
ذلك ان الناظر الى مسار عبدالله منذ سنته الدراسية الاولى حتى ارتقائه الى آخر رتبة في السلم الوظيفي انما يقرأ او يستشف مشروعا متكاملا انتجته المدرسة العمومية ورقاه المصعد الاجتماعي وحظي بدلك التفوق من خلال ما حصل عليه من رعاية واحاطة وتوجيه.
ولم يكن شيطانا
قد يبدو الوضع مريحا بما انه يدفع صاحبه الى نوع من الوجاهة. هي محبذة حتى لا نقول ضرورية، لكن على شرط أن صاحبها يستطيع وقفها عند حدود معقولة.
لان الوجاهة فيها من المخاطر ما لا عد له ولا حصر، ومن أبرز مخاطرها ذلك التضخم الذي تتسبب فيه وذلك الضغط النفسي الذي تفرضه على الشخص، آت عليه من الاقرباء والقريبين والمقربين ومن لف لفهم وتبعهم وشابههم, هده فقط لا مشكلة فيها للمرة الاولى والاخيرة الله معك رحم الله والديك يا معلم وهلم جرا من العبارات التي رغم بساطتها واختصارها تنفد كالسهم الى القلب قبل العقل فتشعل فيه نارا لا تهدأ الا بقضاء الشأن المطلوب. باجراء سليم ام لا، تلك مسألة أخرى فيها نظر لما تقع.
في خضم تلك النار المستعرة، ينشأ التجاوز ، الاول فالثاني فالثالث الى ان تقع الفاس في الرأس ويقع موظف سام، كفء، محترم مثل عبدالله في الضاغطة اللولبية التي ادا انت دفعتها الى الامام ارتدت عليك من الوراء.
وما نفعل بالثغرات؟
بعد دلك تفعل الوشاية فعلها، فتنطلق، في مسار معاكس، ظاغطة لولبية جهنمية ما ان يفلت الموظف من احد اطواقها حتى يلاحقه الطوق الموالي. يسمونها الرقابة والتفقد والتقييم الداخلي وهي تتلخص، نهاية المطاف، في احصاء الهفوات التي ارتكبها الموظف عن قصد او غير قصد. فتكتب بشانها التقارير المطولة وتلقى عليها اكثر الاوصاف ادانة واغراقا في الاتهام، حتى ليخيل للقارئ ان محرر التقرير ليس مراقبا أو متفقدا او مصلحا وانما عدوا متشفيا في شخص راغبا في الاجهاز عليه باية تكاليف.
والا فلمادا لا يحصي المراقب او المتفقد او المقوم الثغرات التي وفرتها الادارة في منوال اجراءاتها حتى سهلت على موظفيها النفاد منها الى التجاوز والخطإ والاستيلاء على المال العام؟
والا فكيف نفسر ان موظفين آخرين قاموا بتجاوزات واخطاء واختلاسات جديدة رغم علمهم بواقعة عبدالله وطرده من وظيفه واحالته على العدالة؟
لا أبرر باي وجه من الوجوه أي نوع من السرقة والاستيلاء على المال العام، لكنني أحمل المسؤولية فيها كاملة للادارة والقائمين عليها خاصة وان اكثرهم تأخدهم العزة بالمنصب فينصرفون الى اهتمامات اخرى يبحثون من ورائها على استدامة البقاء اكثر من سعيهم الى الحرص على استقامة الموطفين.
الجريمة والعقاب
أخطأ عبدالله مثلما فعل آخرون سبقوه وآخرون لحقوه. لاحطت باستغراب شديد ان هؤلاء يعاقبون مرتين على الاقل، الاولى بالفصل نهائيا من العمل والثانية بالسجن. هل يعقل؟ هل في هدا صواب؟ أنا لا أعرف ولكنني، كنقابي، ارفض ان يعاقب الموظف مرتين. أرى ان المنطق يقتضي تقديم الموظف المخالف الى العدالة فادا أدانته حق للادارة ان تفصله.
من ناحية أخرى انا اتساءل لمادا دهب المشرع الى هده الممارسة قبل غيرها من الاليات، لمادا هده القسوة، لمادا الاعدام؟
قارنوا بين موظف اختلس 10 الاف دينار وتاجر هرب سلعا قيمتها مليون دينار. الاول يفصل من عمله ويحاكم بالسجن مع النفاد العاجل فيما ينتفع الثاني بصلح قد لا يزيد عن نفس المبلغ الدي اختلسه الموظف.
ودون البحث او المقارنة بين الجريمتين، لمادا نقبل الصلح مع التاجر ولا نفكر فيه اطلاقا مع الموظف؟
لو كان الامر بيدي، لعاقبت الموظف المعني بدفع ضعف المبلغ الدي اختلسه واقتطعته من اجره مباشرة مع ابقائه في وظيفته مع اجراءات أخرى وقائية حتى لا يعود الى صنيعه.
أي مكسب في المحصلة؟
عملية حساب الربح والخسارة ضرورية في مثل قضية الحال. ومباشرة أقول أنني لا أرى مكسبا واحدا حصلته الدولة مما فعلته مع عبدالله وأمثاله.
علمته بالمال العام مدة 17 عاما، وظفته في مؤسسة عمومية، انفقت من أجل تكوينه ورسكلته أموالا كثيرة من المال العام، ولما أخد منه نزرا قليلا، اطردته من عمله، فاصبح بلا دخل، أحالته على العدالة، فاصبح بلا حرية، لاحقته في كل مكان فاختار ان يهرب من بطشها عبر البحر، لكنه غرق ومات. وبدلك، حرثت الدولة فعلا في البحر بما انتهى له عبدالله وزادت على كاهلها مسؤولية زوجته وأبنائه وهم صغار السن ووالديه اللدين هما في كفالته، واحدثت جرحا غائرا في جسد العائلة والموظفين وزادت على نفسها نقمة الكثيرين وأججت رغبتهم في الفرار بكل الوسائل بما فيها حرقة الموت.
يحصل لغير الاخرين
قد لا يقبل الكثيرون مني هدا الدي كتبته بالنظر الى ما فيه من عاطفة وانحياز، وقد يراه آخرون هرطقة فكرية أثارتها حادثة قريبي ولم أطرقها في حالات مماثلة لشباب ماتوا بالعشرات غرقا في البحر، مصداقا للمثل الفرنسي الشهير ça n’arrive qu’aux autres.
قد يكون، قد يكون، قد يكون. ولكن من يعرفني يشهد أنني كنت ومازالت وسأظل ضد أي حل انتحاري مهما كانت الصعاب، وانني من الداعين والعاملين على ايجاد الحلول محليا وانني مثل كثيرين مقتنع تمام الاقتناع بان ما حصل لعبدالله انما هو من باب يحصل لغير الاخرين ايضا وترجمته ça n’arrive pas qu’aux autres.
آخر القول اللهم صبرك ، اللهم صبرك، اللهم صبرك. كل التضامن والمساندة أخي عمار والسيدة مجيدة وباقي العائلة.
رحم الله عبدالله كشاب آخر من شباب تونس لم يتمتع بشبابه.