البعض يذهب للديمقراطية مرتين
الشعب نيوز / صبري الرابحي . لم يكن معارضو بن علي و من قبله بورڨيبة ديمقراطيين كديموقراطيو دول العالم المتقدم الذي حسم المسألة جذريا منذ القرن التاسع عشر لذلك عندما حطت الثورة أوزارها تنازعوا في الممارسة فأفضت إلى ديكتاتورية الديمقراطيين.
من المهم الإنتباه إلى أن الأديولوجيا و حتى الديماغوجيا ليست هي المحرك الأساسي لهذه النزاعات لأن الفرقاء لا يمكنهم بأي حال أن يختلفوا حول الديمقراطية التي هي بالأساس مبعث وجودهم و إلتقائهم من بعد سنوات الديكتاتورية، هم يتنازعون فقط حول الطريق نحو الديمقراطية حيث يظن كثيرون أنهم على الطريق الصحيح.
اليوم يعود الجدل حول الديمقراطية من جديد من خلال الإنتخابات التشريعية المرتقبة و التي ستكون أداة لفرز هذه الممارسة فهل سيذهب التونسيون إلى نفس الديمقراطية مرتين؟
الثابت أن ملامح القانون الإنتخابي الجديد لا تخفي جنوحه نحو مزيد تزييف الديمقراطية حيث تهدف تفاصيل القانون إلى إدراج شروط خاصة في المترشح و العملية الانتخابية برمتها و تغفل الدور الذي سيضطلع به المجلس النيابي المنصوص عليه في الدستور و الذي لا يبدو أنه سيكون أفضل من المجلس الذي سبقه و الذي توسم التونسيون خيراً عند إقدام الرئيس قيس سعيد على تجميده في مرحلة أولى ثم حله.
خلال أيام قليلة من إنطلاق حملة جمع التزكيات المستوجبة و التي حددها القانون بعدد 400 تزكية لم يعد خفيا على أحد أن هذا الإجراء لن يصعب على القوى السياسية الكلاسيكية و التي تتحدث في الكواليس عن مقاطعتها للإنتخابات التشريعية في حين أنه من المتوقع أن تدفع بالمستقلين إلى المشهد تماماً مثل ما حصل في الإنتخابات البلدية و نقصد هنا أساساً حزب حركة النهضة.
من الواضح أيضاً أن شروط الترشح ستعيد الجدل حول ما يسميه التونسييون بالماكينة الإنتخابية و التي يقصد بها أجهزة الأحزاب الكبرى القادرة تنظيميا و لوجيستيا على التواجد في كافة الدوائر الإنتخابية و الإنتشار داخل الأوساط التي تستوجب إمكانيات ضخمة ليست متاحة للجميع.
الخطير في المسألة هو أن إرادة الناخبين قد يمتد إليها المال الفاسد منذ البداية في ما يبدو أنه وعد مبدئي بالإنتخاب و الذي قد يكون له ثمن و بالتالي تصبح آلية التزكية أداة تستعمل كمحرار إنتخابي قد يكون له دور مهم في التأثير على نوايا التصويت من خلال الإيهام بتوسع القاعدة الانتخابية لمرشح معين و بالتالي دفع الناخب المتردد إلى إنتخابه تحت غطاء المال الفاسد.
و حيث أن التونسييون قد أرهقوا من التزييف المتعمد لجوهر العملية الديمقراطية و الذي سيجعل واقعهم لما بعد الإنتخابات غير مختلف عن ما عرفوه لسنوات عديدة خاصة إذا لم يتحقق القطع مع نفس الأساليب الإحتيالية التي أوصلت كثيرين لمجلس نواب الشعب ليتبين بعد ذلك أنهم ليسوا سوى متخفين من المحاسبة أو ضالعون في الإفساد السياسي لحياة التونسيين.
ما يتداوله التونسيون هو أن هذا القانون الإنتخابي قد لا يفضي إلى تكوين مجلس نيابي يعكس تمثيلية حقيقية للشعب قادراً على حلحلة الإشكاليات الإقتصادية و الإجتماعية المتفاقمة و خاصة مس ما كان يعتبر خطوطاً حمراء بالنسبة المجالس النيابية السابقة كمقاومة الفساد و الحد من تغول لوبيات إقتصادية معينة تعمل تحت غطاء سياسي واسع شكلته بعض الأطراف السياسية مستغلة حزامها البرلماني و الذي مكنها بالتالي من إكتساب حزام حكومي و فسح الطريق أمام هذه اللوبيات دون حسيب و لا رقيب.
في الجانب الآخر تتباين ردود الأفعال بين الطيف الديمقراطي الواسع بين من يعتبر أن الإنتخابات التشريعية هي تواصل لنفس منظومة ما قبل 25 جويلية مع تغيير المسميات في حين تواصل أطراف سياسية عديدة التعامل مع الإستحقاق الإنتخابي من زاوية إنضباطها الدائم لخيارات و توجهات الرئيس قيس سعيد و عدم إنشغالها بالمتابعة و التقييم لما قد ينجر عن هذا التمشي من أزمة سياسية في الأفق يفترض في الديمقراطيين الإنتباه إليها و بذل المزيد من الجهد لتقويم العملية الديمقراطية عن أي إنحرافات قد تحيط بها، و هو ما يؤكد فكرة التنازع حول طريقة الوصول إلى الديمقراطية غير بعيد عن البراغماتية و رغبة بعض الأطراف في التواجد في المشهد بأي طريقة و بأي ثمن حتى لو كان هذا الثمن هو التراجع عن الديمقراطية نفسها.
كان من المنتظر أن يكون القانون الإنتخابي إنعكاسا للديمقراطية المباشرة الأصلية و التي لا يمكن تحريفها بطريقة إخفاء الوجه القبيح للديمقراطية المزيفة و الإيهام بأن اقرار سحب الوكالة و العزل سيغيران من أداء نواب الشعب و سيلزمانهم بتنفيذ برامجهم في حين لم يتسائل أحد عن الوسائل المتوفرة و الكفيلة بتحقيق هذه البرامج، لذلك يبدو أن الواقع السياسي لن يتغير و أن المسألة لا تعدو أكثر من الذهاب إلى نفس الديمقراطية المزيفة التي لفظها وعي الشارع بعد 25 جويلية مرتين بنفس الخطى المتثاقلة في الإصلاح و التغيير و بنفس الحيرة أمام أزمة الديمقراطية التي يبدو أنه يراد لها أن تتواصل.