آراء حرة

العنف في البرلمان التونسي : بين قوة  الحجة وحجة القوة

 العنف في أبسط مفاهيمه هو اعتداء القوي على الضعيف قصد ابتزازه . تمارسه الدول والجماعات والأفراد بأشكال مختلفة : سياسية، عسكرية، اقتصادية وعلاقات اجتماعية عامة. وقد يمارسه الضعفاء ضد الأقوياء عند إحساسهم بالغبن وتغييب العدالة وهو مدان قانونيا لكن قد تكون له مبررات أخلاقية. 
والعنف في بلادنا ظاهرة معقدة ولكن يمكن تقسيمه منهجيا إلى نوعين: عنف مجتمعي عنف سياسي 
العنف المجتمعي: 
يُمارس بصفة تلقائية وعفوية في الأسرة حفاظا على التماسك العائلي وفي المدرسة لاكتساب المعرفة وفي المجتمع للردع ولا يروم إهانة الذات البشرية تشرعنه التقاليد التربوية والأعراف الاجتماعية وحتى القيم الدينية، لذا غالبا ما تكون تداعياته السلبية محدودة كزرع الخوف والخجل في الناشئة وسرعان ما يقع تجاوزه بالمعرفة واكتمال بناء الذات.
العنف السياسي:
هو عنف ممنهج تعتمده الأنظمة الاستبدادية لبث الرعب في الشعب ضمن خطة إستراتيجية محورها سياسة القطيع حيث يمسك الراعي بالعصا والجزرة وهدفها الطاعة، وهذا ما عانت منه تونس منذ عقود حتى لا أقول مئات السنين ككل شعوب الأرض. وهو بحث معقد ومتشعب لذا سأقتصر على العنف داخل البرلمان التونسي منذ تأسيس دولة الاستقلال وصولا لمجلس نواب الشعب الثاني. ما نصيب العنف فيه؟ كيف كان يُمارس؟ هل صار العنف ثقافة سياسية؟ كيف يمكن أن نقيّم عملية العنف التي تعرضت لها السيدة عبير موسي كسياسية وكامرأة؟ 
فلتكن البداية عن   السياق التاريخي؟
I ــ السياق التاريخي ودلالته
كانت اتفاقية فتح مكتب لصندوق قطر للتنمية هي الحدث القادح حيث كانت محل جدل ساخن بين أنصارها وخصومها وتعود جذورها إلى عام 2016، حيث تم الاتفاق على فتح مكتب للصندوق للمساهمة في تمويل مشاريع تنموية بقيمة 250 مليون دولار أمريكي في إطار مؤتمر للاستثمار للتنمية 20/20. اتفاقية أمضاه زياد العذاري وزير الاستثمار والتنمية التعاون الدولي والقيادي في حركة النهضة بتاريخ 12 جوان 2019 ومديرعام الصندوق القطري للتنمية جاسم بن خليفة.  غير أن الاتفاقية لم تعرض على مجلس  الوزراء إلا يوم  11 ديسمبر 2019 ولم تصل إلى البرلمان إلا للبرلمان في 28 جانفي 2020 .
 هذه الاتفاقية نامت في رفوف البرلمان إلى جوان2021 ومرت بحكومة  الشاهد وحكومة الفخاخ ولم تظهر إلا مع حكومة المشيشي. فمن الواضح أنها وجدت اعتراضا من الحكومتين السابقتين وقبلتها الثالثة وهذا يؤكد أن النهضة تحسن اختيار التوقيت والشخصية المناسبة لتمرير المشروع. 


0II ـــ قوة الحجة : مبررات الرفض
لم تكن الاتفاقية محل إجماع فقد رفضتها الكتلة الديمقراطية والحزب الدستوري غير أن هناك عدة شخصيات كانت أشد شراسة في الرفض منهم: عبير موسي سامية عبو، المنجي الرحوي، مبروك كورشيد وزهير المغزاوي لأسباب اقتصادية وأخرى سياسية.
1 ــ الاسباب الاقتصادية
  أ ــ إن الاتفاقية تجعل الدولة لا تستفيد إلا بشكل محدود من الاستثمار القطري فهو يحرمها من عدة امتيازات :
 ـــ فالفصل الرابع ينص على <<أنّ تمويلات الصندوق لا تخضع إلى أيّ أداء ضريبي أو قيد أو معلوم جبائي أو ديواني بما في ذلك الفوائض التي يتلقاها الصندوق عند استرجاع القروض>>
  ــ الفصل 6 يُمتّع مكتب صندوق قطر بالشخصية القانونية في التعاقد واكتساب الأموال المنقولة وغير المنقولة والتصرّف فيها. ويُمكّنه أيضا من المشاركة أو بعث شركات أو صناديق استثمارية تابعة له وفقا للتشريع التونسي. 
- أنّ الفصل 7 يمنح العديد من التسهيلات لمكتب صندوق التنمية في تونس ومن بينها إلزام الدولة التونسية بعدم اتخاذ أيّة إجراء من شأنه أن يُعيق بشكل مباشر أو غير مباشر المشاريع التنموية التي يُساهم الصندوق في تمويلها.
 - الفصل 8 ينص على إنّ ممتلكات المكتب ــ وأمواله ثابتة كانت أو منقولةــ يتمّ إعفاؤها من الضرائب المباشرة وغير المباشرة ويتمّ إعفاؤها كذلك من المعاليم الجمركية والأداءات المستوجبة عند التوريد والتصدير... >>
 ــ الفصل 9<<يعطي الحقّ للمكتب في فتح حسابات بنكية أجنبية بأيّة عملة يشاء، بما فيها الدينار التونسي القابل للتحويل، ويمكّنه أيضا من استرجاع القروض ومصاريف التشغيل غير المستعملة مع الفوائد بالدولار الأمريكي وللصندوق الحق في أن يقوم بتحويلها من تونس إلى أيّ دولة أخرى أو أية عملة أخرى دون أيّ قيد أو شرط مع مراعاة الإجراءات البنكية العادية>>. 
 ـــ الفصل 10 يوفّر امتيازات وإعفاءات خاصّة بموظّفي المكتب وميّز الموظّفين الوافدين على الموظفين التونسيين والأجانب المستقرين في تونس. 
2ــ أسباب سياسية وطنية
 هذه الأسباب الاقتصادية حمّـتلها العديد من أحزاب المعارضة خلفية سياسية فهي ''اتفاقية مشبوهة وتمس من السيادة الوطنية "لأنها مكّنت الجانب القطري من حماية خاصة لا مبررلها ويتخذ قرارات دون استشارة الدولة كأنه دولة داخل الدولة
بالإضافة إلى هذه المبررات الموضوعية فإن المعارضة كانت متخوفة من توظيف النهضة لها سياسيا فالصندوق قد يتحول إلى قناة قانونية لتمرير التمويلات الواردة إليها من الخارج. كما رفعت شعارات مثل" الاستعمار القطري" وهذا اسهال لفظي عرفت به عبير موسي وهو خارج السياق.
رغم هذا الجدل وهذه المآخذ لم تسع دولة قطر ولا الصندوق ولا الحزام الحكومي لإعادة للنظر في الاعتراضات ومحاولة إيجاد صيغ معدلة تراعي تحفظات النواب المعترضين بل عولت على موازين القوى الانتخابية في المجلس وعلى حجة القوة.
III  ــ حجة القوة: موسي ضحية العضلات المفتولة  
 لاشك أن عبير موسي كانت من أشرس المعترضين على الاتفاقية ولها الحق في ذلك وهي تحمل أكثر من شبهة لكن هل من حقها أن تعطل سير الأشغال وتستعمل أساليب غير قانونية؟ وأن يتحول ذلك إلى ممارسة يومية وأن تتعسف على الإداريين والصحفيين؟ 
من ناحية أخرى هل يليق برجلين (النائبين الصحبي صمارة، وسيف الدين مخلوف) أن يعتديا تباعا على امرأة بالعنف المادي المفرط: لطما ولكما وركلا تحت قبة البرلمان على مرأى ومسمع من مجلس نواب الشعب بما في ذلك رفاق الضحية؟ فما هي الرسالة التي سيلتقطها العالم عن تونس وعن الثورة وعن منزلة المرأة فيها؟ 
إن من أهم الاستنتاجات التي يمكن أن يستخلصها المتابعون هي:
 1ـ أن النائبين لم يُقدما على ذلك إلا بعد أن اطمأنا على أمرين: عدم وجود رد فعل أولا، وعلى الإفلات من العقاب ثانيا، فالحزام البرلماني تكفل بهذه المهمة.
2ــ إن ما حدث لعبيرموسي يوم 30جوان 2021 وما حدث قبله لأنور بن الشاهد ــ الذي رفض إهانة المرأة في7ديسمبر2020 ــ سيكون درسا قاسيا وإنذارا واضحا لكل من هو خارج هذا الحزام ليعرف أن آلية المجلس ليست قوة الحجة بل حجة القوة فلن يقدم مرة أخرى على مغامرة غير محسوبة.
 3ــ إن المجلس فقد دوره كمنبر للحوار بين فعاليات وطنية انتخبهم الشعب لإدارة شؤونه من خلال حكومة يصادق عليها البرلمان وأصبح مسرحا للعنف الممنهج الذي يُذل ويُهين كل من يتصدى لتحالف التموقع والغنيمة
IV ــ المصادقة على الاتفاقية
بعد عملية ترويع المجلس وإذلال عبير مرسي عُرض المشروع على التصويت فصادق البرلمان على الاتفاقية بموافقة 122 نائبا ينتمون لاحزاب الحزام الحكومي وخاصة النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة واعتراض 12 نائبا واحتفاظ نائب واحد.  
V ــ هل العنف السياسي ظاهرة عرضية أم متجذرة في بلادنا؟
من المعضلات الكبرى التي تعيشها تونس بعد الثورة هي تفشي ظاهرة العنف الذي تعددت أشكاله وتنوعت ضحاياه ويرجع بعض المحللين هذه الطاهرة إلى:
 ــ ارتخاء القبضة الحديدية للدولة
  ــ ارتفاع منسوب التوتر لدى الشعب التونسي نتيجة لأوضاعه الاجتماعية والصحية والسياسية المتردية
نعم ان هذين العاملين ساهما إلى حد بعيد في ارتفاع وتيرة العنف لكن لا يعني ذلك أنه كان ظاهرة عرضية طارئة بل إنها عريقة في ثقافتنا وزادتها   الممارسة السياسية خلال 60 سنة عمقا وتجذرا.  أين يتجلى ذلك؟
أولا ـــ العنف في البرلمان زمن بورقيبة: الاستبداد غير المقنع
كان البرلمان زمن بورقيبة من لون واحد تقع مصادرة إرادة كل من يحاول الاقتراب من العملية الانتخابية من غير الحزب الحاكم وهي تخضع لآلية أساسية بُني عليها مجتمع الدولة" زعيم أوحد وحزب واحد لأمة واحدة" وهي آلية الحكم في الدول الشمولية. وكل من يخرج عن القطيع ترفع عنه الحصانة الأغلبية البرلمانية بتعليمات من السلطة التنفيذية التي تغولت على السلطة التشريعية والقضائية ويجد نفسه بين ثلاثة خيارات 
1ـــ المحاكمة والسجن والتشويه
تحيله السلطة على القضاء المدجّن فيتولى إصدار أحكام جاهزة وفي الآن نفسه تتعهد المنظومة الإعلامية بسلخه فتنشر غسيله حقا وافتعالا. هذا ما حدث للحبيب عاشور أمين عام الاتحاد منتصف الستينات وكذلك لأحمد بن صالح مهندس التعاضد. 
2ـــ  الفرار إلى المنفى الاختياري
اختار كل من  أحمد التليلي في منتصف الستينات ، فأحمد بن صالح  في بداية السبعينات، ثم محمد مزالي سنة 1986المنفى الاختياري شرقا وغربا، هروبا من السجن أو المشانق  ولم يكونوا في ملاذهم آمنين فشبح اغتيال صالح بن يوسف  ــ في ألمانيا سنة 1961 في أوج معركة بنزرت   ــ مازال يسكنهم  
3 ـــ الركون إلى الصمت الأبدي
 أما أحمد المستيري فقد لاذ مع جماعته بالصمت منذ بداية السبعينات إلى أن قام مزالي بمبادرة يتيمة لدمقرطة الحياة السياسية سنة 1981 فأسرع بورقيبة بإجهاضها عن طريق وزير الداخلية إدريس قيقة فأمره بتزييف الانتخابات فزيّفها فبقي المجلس دستوريا خالصا
ثانيا ــ البرلمان زمن ابن علي: الخديعة الديمقراطية
اوهم ابن علي باختيار الديمقراطية اسلوبا للحكم فتغير عنوان الحزب فصار
 " الحزب الدستوري الديمقراطي، وتشكلت غرفتان للديمقراطية: البرلمان ومجلس المستشارين وصارت هناك تعددية حزبية وتكاثرت وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمكتوبة، لكن شيئا واحدا لم يتغير وهو حرية المواطن في التعبير عن إرادته . فالنظام هو الذي يختار عن طريق الداخلية أنصاره وخصومه ولا سبيل لأية مفاجأة فالعملية الانتخابية تنتهي مع وضع اللمسات الأخيرة للقائمات فعدد النواب المعارضين محدد سلفا معروفين بألوانهم وإشكالهم. 
لذا لم يلاحظ في المجلسين خروج عن القطيع فقد انتهى جيل التضحية وجيل البناة وظهر جيل أشد سلاسة واستسلاما وطمعا في السلطة فانتقى منهم ابن علي أطيافا مدجنة مكنته من التوغل في الفساد.
Vــ البرلمان بعد الثورة
شهد النظام بعد الثورة تحوّلا هيكليا من النظام الرئاسي الذي تتغول فيه السلطة التنفيذية على بقية السلط إلى النظام البرلماني الذي يتحول فيه مركز الثقل إلى البرلمان وبالتحديد إلى الأغلبية البرلمانية. وقد عرف النظام البرلماني بعد الثورة 3محطات: المجلس التأسيسي، ومجلسي نواب الشعب الأول والثاني  
أولا ـــ المجلس التأسيسي: القاطرة التي انحرفت
في هذا المجلس كانت النهضة تمثل الحمامة المطوقة التي تتحكم في المشهد السياسي وهي التي أملت الخيارات الكبرى للمجلس وللدولة المناهضة لقيم الثورة فضربت في العمق مبدأ الحرية: تسليم البغدادي المحمودي، عقد مؤتمر سوريا، إسقاط تحصين الثورة، إسقاط العزل السياسي ورفض تجريم التطبيع وقد كانت كل هذه القرارات استرضاء للدول النافذة وأساسا دول الحلف الأطلسي وتحديدا أمريكيا بالإضافة إلى تحقيق مكاسب لقواعدها على مستوى التموقع والغنيمة. في هذا المجلس وقع تحول شكلي فمركز الثقل صار الحزب الحاكم الذي كان يفرض خياراته من خلال الأغلبية البرلمانية 
ثانيا ـــ مجلس النواب الأول: تجربة المغالبة والتشظي
تشكّل هذا المجلس من ثلاث كتل كبرى: الطيف الدستوري أو الثورة المضادة، الإسلام السياسي واليسار بكل توجهاته.
شكل الإسلام السياسي والثورة المضادة تحالفا مغشوشا لتحقيق أهداف تتماشى مع اختيارتهما الاقتصادية والاجتماعية والسياسية مثل: تمرير قوانين العفو عن الفساد الإداري وعقوبات الزطلة وإزاحة الحبيب الصيد الذي لا ذنب له غير أنه نزيه أراد أن يحترم الدستور و أن يحدّ من الجشع إلى الغنيمة والتموقع  .وما أن صار الشاهد  الابن الروحي للباجي  رئيسا للحكومة حتى وجدت فيه النهضة العصفور النادر الذي تبحث عنه  فشجعته  على قلب ظهر المجن لولي نعمته وعلى تفكيك النداء. وكان ذلك بداية انهياره وتشظيه لتتحول النهضة إلى القوة المركزية في الحكم. لم يكن هناك عنف مادي بين هذين المكونين لكن هناك صراع مدمر آل إلى تقلص شعبية النهضة وتشظي النداء، أما اليسار فقد تصدى موحدا للمنظومتين حول الخيارات الاقتصادية والاجتماعية وكانت له مواقف حادة من المنظومتين وخاصة من الإسلام السياسي ولم يتجاوز العنف اللفظي، لكنه خرج منهكا من هذه التجربة انتهت بإعادة تفكيكه إلى عناصره الأولية
 ثالثا ـــ مجلس نواب الشعب الثاني: السلالات المتحوّرة
كانت انتخابات 2019 إفرازا لتجربة الفشل التي مُنيت بها مكونات مجلس نواب السابق فقد انهار النداء الدستوري وتشرذم أما النهضة وإن حافظت على تماسكها فقد تقلص مخزونها الانتخابي. غير أن هذين الطيفين لم يندثرا بل إنهما ظهرا في شكل سلالات جديدة  تعاطت مع الواقع الجديد  بطرق مختلفة مستفيدة من التجربة الماضية وأهم السلالات المتحورة
 1ــ سلالات الإسلام السياسي
قام الإسلام السياسي على أساس توظيف الدين الإسلامي لاسترجاع الدولة  العثمانية الإسلامية التي اغتصبتها العلمانية( أتاتورك) بالقوة ولا سبيل إلى ذلك إلا ببناء تنظيم  إسلامي خالص يعيد الخلافة إلى أصحابها ويتبنى الجهاد. ومع مرور الزمن صار الجهاد محل اجتهاد بين الإسلاميين  حتى وصل إلى تبرير العنف في الفضائيات القانونية وشرعنة الإرهاب في الشوارع والجبال  وتدمير الدول ولا أحد يعرف ما الهدف : هل هو إقامة حكم الشريعة أم الديمقراطية بالأكيد لا ،ففريضة الجهاد التي كانت مقدسة وبنيت عليها الدولة الإسلامية تحولت إلى آلية للقمع ولتخريب الدول الإسلامية وغير الإسلامية فصار المقدس مدنسا .تلك هي الأرضية الفكرية التي ينهض عليها الإسلام السياسي بكل سلالاته بما في ذلك السلالات التونسية وإن اختلفت أساليبها حسب المكان والزمان ومواقعها من السلطة.
أفرز الإسلام السياسي ثلاث سلالات 
 أ ــ النهضة: حافظت على تماسكها رغم تقلص عدد نوابها واستقالة بعض مناضليها وظهور التباينات داخلها لكنها تحاول أن تعطي انطباعا للداخل والخارج بالديمقراطية والاعتدال وفي نفس الوقف استطاعت أن تنهك خصمها فاحتوت البعض بالتموقع   وحيّدت البعض الآخر وهمشت من استعصى وردعت  من تعنّت كما وقع لعبيرموسي.
ب ــ ائتلاف الكرامة: وهو في نظر المتابعين اللوحة الصدامية للإسلام السياسي، يمارس العنف الجسدي والمعنوي الذي تتحاشاه النهضة مظلتــه الواقية : استهدف الاتحاد ورئيس الدولة والمرأة
ج  ــ حزب الرحمة 
لم يتوغل في الخلافات السياسية ولا يخفي تباينه عن النهضة وائتلاف الكرامة وقد برزت حدة مواقفه عندما حاولت الهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري تعطيل" إذاعة القرآن الكريم "التي تبث دون ترخيص قانوني. هذه السلالات الثلاث تتباين جزئيا لكن لها نفس القناعة وتقف معا في المحطات المفصلية 
1    ـــ سلالات الدستور
إن السلالة الدستورية عموما لا تعرف الاحتكام إلى الجماعة ولو في إطار هياكلها الحزبية وليس لها مشروع أو مرجعية فبنيتها الأصلية قامت على الحكم الفردي والزعامة ومصادرة إرادة الشعب فهي تٌقزّم الشعب وتعملق الزعيم فهذه الثقافة هي التي سادت طوال 55سنة.وحرمت الشعب من حقه في تجربة الخطأ والصواب فعاش التصحر.
تلك هي قناعات كل السلالات المتناسلة من الحزب الدستوري حتى وإن كانت لا تحمل عنوانه فهي حاملة لجيناته السياسية فكرا وسلوكا ومن أهمها:
  أ ــ قلب تونس
تحول من جمعية خيرية لإسعاف المحتاجين إلى حزب سياسي يبحث عن التموقع والغنيمة فهو حزب الزعيم يجسد القيم الأصيلة للحزب الدستوري منذ نشأته وقد وجد فرصته مع النهضة وائتلاف الكرامة فلم يفوّتها غير عابئ بما يباعد بينهما، شعار الجميع << الغاية تبرر الوسيلة>>
ب ــ الحزب الدستوري الحر بقيادة السيدة عبير موسي
طرحت العديد من التساؤلات منها: هل أن موقف عبيرموسي الرافض للنهضة ولرئيسها والمعطل لنشاط البرلمان هو موقف حزبي أو هو موقف شخصي    هل يمكن أن تمارسه شخصية أخرى من الحزب؟ من أين اكتسب هذا الحزب شعبيته، هل من مبادئه أم من تحديات عبير للنهضة؟ هذه التساؤلات وغيرها جعلت التقييمات تختلف حول راهن هذا الحزب ومستقبله ومدى قدرته على الاستمرار في غياب رئيسته. والأقرب إلى الواقع هو أن السيدة عبير موسي قرأت جيدا مسيرة النداء خاصة في الفترة الانتخابية لسنة  2014واستخلصت أمرين على مستوى الداخل وعلى مستوى الخارج
  ـــ على مستوى الداخل 
 أن نجاح النداء في الانتخابات2014 يعود إلى عملية التحشيد والاستقطاب التي مارسها السيد الباجي الذي لم يكن له أي برنامج يقدمه وإنما كان يحشد المواطنين ضد النهضة وهو يعرف أن الأغلبية رافضة لها،  ولنتذكر كيف قال "من لم بصوت  لي فهو سلفي" مما أغضب جزءا هاما فصوت للمرزوقي لذا لا غرابة أن نرى عملية سبر الآراء تمنحها الأغلبية الساحقة فأغلبية الطيف الدستوري يقف معها لكن هذا لن يحصل في الانتخابات عندما تظهر قائمات من السلالة الدستورية
  ــ على مستوى الخارج
إن عبير موسي تدرك أن العديد من القوى النافذة في الخارج ليست مرتاحة لوجود النهضة في الحكم ورافضة لمشروعها الثقافي وهذا ما نلاحظه لدى دول حلف الناطو باستثناء أمريكيا وبريطانيا ولدى دول الخليج العربي باستثناء قطر ثم تركيا وهي مستعدة لتقديم الدعم المادي والمعنوي وهذه الدول لا تثق بقيس سعيد لأنه في نظرها يمثل استقلالية القرار الوطني خلافا لعبير موسي ولغيرها المستعدين للارتماء في أحضان كل من يخلصهم من الإخوان بكل الأشكال.
بالتالي فعبير موسي تمارس عملا ممنهجا لكنه محدود الآفاق وتطغى عليه النرجسية التي أنهكت تونس وما زالت تقاسي من تداعياتها
ج ــ كتلتان على خط التماس من السلطة
بالإضافة إلى هذين الحزبين فهناك أحزاب أخرى من نفس السلالة: تحيا تونس، المشروع ،النداء والمنشقين عن قلب تونس  وقد تجمعت في كتلتين :كتلة الإصلاح ، الكتلة الوطنية وهما تقفان على خط التماس من السلطة وتزعمان أنها ليستا منها لكنهما مستعدتان للارتماء في أحضانها عند أول إشارة منها كما حدث مع حكومة الشاهد وكما يحدث الآن.
VI ــ هل الرئاسة قادرة على التغيير؟
نسمع من حين لآخر صيحات فزع لرئيس الجمهورية ونداءات استنهاض له ليضع حدّا لما تعيشه تونس من مآس على جميع المستويات بداية من مهزلة البرلمان. لكن السؤال البسيط هل يملك الرئيس آليات تمكنّه من التغيير نحو الأفضل؟ وحتى لا أذهب بعيدا فإني أذكّر بالآليات الممكنة لأي تغيير وما انتابها من إخلالات معيقة للثورة.
أولا ــ القضاء: مورط في الفساد
هو أول آلية للإصلاح، "العدل أساس العمران". فهل القضاءــ المتهم رأساه: الأول بالفساد المالي والثاني بالإرهاب ــ قادر على الحسم في الفساد السياسي. 
ثانيا ــ المنظومة الأمنية: مخترقة بين الأمن الموالي والأمن الموازي
تفتخر بأنها تخلت عن أمن التعليمات وصارت منظومة أمن جمهوري، والحقيقة انها مازالت تراوح بين الأمن الموازي والأمن الموالي وأخيرا تسلل عنصر إرهابي عبر مطار السيادة مما يدل على أنها مخترقة. فهل يمكن الاستناد إليها؟
ثالثا ــ الجيش الوطني: قناعات خارج سياق الثورة
  صان مؤسسات الدولة من التخريب وحمى الثورة من الردة، بعد عشر سنوات نجد بعض رموزه من الضباط المتقاعدين يخاطبون رئيس الجمهورية بخطاب أقل ما يقال فيه إنه خارج السياق التاريخي للثورة فهم يدعونه للقفز على الدستور والقوانين ليعيد عجلة التاريخ إلى الوراء إلى الزعيم الأوحد. من الأكيد انهم لا يعبرون عن قناعة الجيش الحامل للسلاح لكنه ليس بعيدا عنها.
 رابعا ــ السلطة التنفيذية: رئيس الحكومة شخصية مهزوزة  
أسالت السلطة لعابه فتوسّد مخدة خادعة أفقدته مصداقيته وصار حاملا لرمزية رقم 13 وأسيرا لضغوطات وسادته. انصاع أخيرا لطلب جبر الضرر الذي أقرتها "الحقيقة والكرامة" وهو في الحقيقة استحقاق وطني لمناضلين سجلوا حضورهم في مقاومة الاستبداد من القوميين واليسار والنقابيين زمن الجمر قبل أن يُزرع الإسلام السياسي نطفة في رحم تونس، غير أنه حوّل الاستحقاق الوطني لغنيمة له، فضخّم عدد ضحاياه كمخزون انتخابي ولم يأخذ بعين الاعتبار الظروف المأساوية الراهنة للشعب ومن أوكدها الدواء والغذاء.  فرئيس الحكومة غير قادر على الإصلاح حتى ولو أراد.
استخلاص: ولادة عسيرة لكن مستقبل واعد.
من كل ذلك نستخلص أن تونس بعد الثورة خرجت من مجتمع الدولة الذي يحكمه الحزب الواحد والزعيم الأوحد، مجتمع الرعية والقطيع، إلى دولة المجتمع، دولة المؤسسات والقوانين، غير أن البنية الفكرية للطبقة السياسية لم تتغير إلا بشكل محدود وبقيت أسيرة لمقولات سلالتها: احتكار السلطة وتوظيفها من أجل التموقع والغنيمة بكل الطرق الأخلاقية واللاأخلاقية ولم تستوعب بعدُ أطروحة التعايش مع الآخر وهي الأرضية التي تنهض عليها الديمقراطية ومنظومة حقوق الإنسان. 
لذا لا نستغرب أن تكون الساحة الوطنية مسرحا لعنف متبادل بين سلالتين متحورتين فكرا وممارسة. لكل هذه المعطيات لا أعتقد أن الرئيس قادر على التغيير حتى وإن امتلك الإرادة فهذه الآليات الأربعة غير مؤهلة لأن تفعل ذلك وإن أقدم على ذلك فقد أفدم على مغامرة غير محسوبة وما أظنه فاعل ذلك. فالطريق مازالت شائكة وطويلة لكن كلما كانت الولادة عسيرة فالمولود سيكون مكتملا ومستقبله واعدا
     سالم الحداد / زرمدين/ المنستير 15 جويلية 2021