آراء حرة

جانفي ...لعبة العدد والمعدود وحظ الشعب المنكود

بعيدا عن التسطيح والشتائم والابتذال لا بد أن ننظر إلى الحاصل في واقعنا بشيء من التبصر حتى لا نغرق جميعا في مُناكفات صبيانية محدودة...
لعبة العدد والمعدود بين الآحاد والعشرات والمئات والألوف وصلت إلى عريها المنتظر، تسطيح الشارع السياسي حقيقة سيختزنها تاريخنا الوطني وسيدرسُها الدارسون ...أطفال يتدرجون في الألوان والصور وأدوات العدّ بين الأصابع و الأقراص والأعواد...حكمنا الواحد الأوحد وقال: أنا أعرف ما لا تعرفون ومنع عنا المرايا فجاءت ثورتنا العرجاء وفرخت كوكوت الزعامات، زعماء "خُدّج" لا عدّ لهم خرجوا قبل أوانهم حالمين بالسلطة رافعين شعارات براقةُ، وكان الانتقال من الآحاد إلى العشرات ثم إلى المئات والألوف في لعبة الصندوق وبهرج الإحصاء...اشرأبت الأعناق وكثرت اللافتات والأضواء وانتقلت الإرادة بترتيب من صخب الشارع إلى ضيق خشبة مسرح مُسيس لا يسع غير الذين تدربوا على الكلام وفن الإلقاء وكانت تلك الهيأة ذات الاسم الطويل مدخلا "لكاستينق" فيه اختبار وانتقاء لزعامات مُمكنة تصلح لشارع سياسي مُمسرح ومعزول في ساحة خضراء مُسيجة تلك "الهيأة العليا لتحقيق أهداف الثورة والانتقال الديمقراطي والإصلاح السياسي"...
دخل الثوريون فرادى وجماعات ...وبدأ سحل الديمقراطية وترييشها تحت الأضواء الساطعة ومُكبرات الصوت...ونسي الديمقراطيون أحذيتهم التي تُمكنهم من السير بين أشواك السلطة إلى الشعب ومعه...فركشوا هناك...تحت اللافتات يتدافعون فوق الخشبة الضيقة...حتى فقدوا أرجلهم وقدرتهم على المشي فيما يذكر بالتقليد الصيني الذي يربط قدم البنت منذ صغرها حتى تكون جميلة لكنها ستكون في الحصيلة مٌعاقة ومُقعدة ضحية وهم جمال مُنحرف...
ها نحن هنا أم هناك نواصل لعبة العدد والمعدود حتى فقد الصندوق معناه وبات متقلصا "كمقلمة الأطفال" ذلك الصندوق الخشبي الجميل المستطيل الذي لا يتهأ إلا للميسورين من تلاميذ المدارس لا يصلح إلا لحفظ أدوات العدّ الملونة...
لعبة العدد والمعدود تلك المُسطحة ميعت الشارع كما ميعت الصندوق...وتدرب الجميع على الحساب لكنه مغلوط لأن حساب الحقل يختلف كثيرا عن حساب البيدر...
تسعفنا مدونتنا بمجازات درامية ...لحظة انسداد داخل النفق المُتضايق ليقول شاعرنا فتحي النصري فيما قال من حكم الوجدان الصادق: 
" لا عزاء من الذهاب هناك لا جدوى في البقاء هنا" 
لحظة إرباك يختزلها الوعي الحاد والمُستبق والمتبصر...حينما خرب أطفال السياسة السبل... بات الشارع تحت القيظ والغبار وهجره أصحابه الحقيقيون ...لغة الشارع هي لغة الجمهور بتلقائيته وأوزاره، بحقائقه العميقة ووجدانه وانتظاراته المُستحقة وشارع الجمهور يختلف عن الشارع المُسيس اختلاف المُنطلقات والأهداف...
جانفي عهدناه شهر الشوارع والاحتجاج – منذ عقود- لكنه بات بترتيب ماكر شهر الحُبسة والإحتباس: فيه احتبست الأمطار كما احتبست أفاق الوعي عبر تلاشي حلم المُمكنات في الوجدان العام التلقائي...شارع مهجور ويتيم ...خلاء بلقعا...إلا من ألوان سياسية فيها بقايا شعارات ولافتات باهتة فاقدة للصدى والمشروعية ومرة أخرى يسعفنا شاعرنا بمجازات أعمق في ديوانه: "مثل من فوّت موعدا" شارع الثورة أو شارع المتاهة أو شارع المسرح الكبير تحت أفق نظرة الزعيم الأوحد الذي غادر المكان ثم عاد إليه فوق حصانه البرونزي الجامد يتعالى على ابن خلدون ببرنسه المُتواضع لكنهما يتبادلان النظرات ويسيجان حدود الركح فوق رأس "الجماهير" المُسيسة وصخبها الملون...مثل من فوت موعدا مع التاريخ ومع الجغرافيا ومع مقومات الوطن المُنهك بمائه وترابه ونخله وزيتونه...صراع لا أفق فيه ولا بديل ولا برنامج ...صراع هش يذكر برواية ميلان كونديرا "خفة الكائن التي لا تُحتمل" ؟ كما يذكر بقصة الكراسي المقلوبة للمرحوم رضوان الكوني...
رئيسنا جاء به الحطام المُنهك في لحظة حرجة...فقطع الطريق المُوحل وأطرد المُمثلين وجلس فوق ذلك الحطام ضمن لعبة "الوانمنشو" فأغراه الفراغ بأن يكون مُؤلفا ومُخرجا ومُهندس ديكور وممثلا أوحد ...اتحاد شغلنا لم يفق بعدُ من حفلة نوبل وأضوائها الساطعة...  
"الجيل المعطوب" بعبارة شاعرنا في كتابه الأخير يُفرخ العطب ليكون عطبا في السلالة، معارك السطح لا تعني الشعب المُفقر الذي ينظر وينتظر...غيلان وسدّه والعمال والبغل الحرون وربة القحط...ملحمة درامية صاغها المسعدي منذ عقود ولا يعلم أنها ستجسد في يوم قريب على خشبة شارع مُسيّس مهجور ...بات الصراع يُختزل فيه وحوله ...الشارع الكبير...شارع بورقيبة...شارع الثورة...شارع مسرح قرطاج برُكحه المُستطيل...يحضن بحنان كل من فوّت موعدا ...في ديسمبر أو في جانفي  أو فيما بينهما من شرعية أو مشروعية...
أرباب المال والأعمال هناك خلف الرُكح يفركون الأصابع فرحا ومرحا ...زال الخوف فلا خشية من تغيير نظم اللعبة المُهيئة...وكلما زاد هرج السياسيين كلما زادت سطوة بارونات المال في طمأنينة ذئبية لها أنياب ومخالب...لا مُراقبة ولا مُحاسبة ولا مُعاقبة لأن الساسة عندنا مُدجنون معصوبو الأعين لا يبصرون ما دون أقدامهم... 
وليس لنا من يقين غير النظر والانتظار، لنردد مع شاعرنا فتحي النصري مقطعا من قصيد العاصفة ذلك النص الذي يذكر بالقصائد الكبرى الخالدة مثل الأرض اليباب لإليوت أو أنشودة المطر للسيّاب...


  
نحن لا نشبه ما كنا نريـــــــدْ
وإذا ما هجسَ الشوق لنا شيئا
ورمنا فسحةً
خارج القبــو
تناهينا إلى قبو جديـــــــــــــدْ
هكذا يلتبس الخـــارج بالداخل
والداخـــــــلُ بالخـــــــــارج،
والأقباءُ بالرحب المديــــــــدْ

محمد جابلي / منارات / 19 جانفي 2023