ثقافي

الحداثة ليست بما توصف به لإنها في الحقيقة ليست حديثة تمامآ

الشعب نيوز/ حسني عبدالرحيم - الحداثة ليست بما توصف به لإنها في الحقيقة ليست حديثة تمامآ ! هي بشكل عام، مفهوم للكثير من الفاعليات والأنشطة الفنية والأدبية يمكن رصدها من منتصف القرن السابع عشر وهى تمثيل عام لهذه التعبيرات التى ضمت الإنطباعية في الفن التشكيلي  والرواية والرمانسية الشعرية والتعبيرية في الموسيقى وسادت المجال الثقافي بعد الحرب العالمية الأولى والتى توازى معها ظهور تيارين سياسيين شعبيين متعارضين هما البلشفية والفاشية وكلاهما كان نقدا لليبرالية التى أنتجت الحرب وانتهى معها عصر تيار ثقافي سمي بالرومانسية انتج الرواية والمسرح والمقولات الفلسفية المعروفة بألإنجذاب لما سميّ العقلانية..

بمعنى أن العقل قادر على تنظيم الحياة بما يؤمن سعادة البشر وكانت النتيجة حربا عالمية راح ضحيتها الملايين فى الخنادق على الجانبين ! الحداثة ليست متناسقة ولا متواترة بل شملت تيارات عقلانية گالمستقبلية بجناحيها التقدمي والفاشي(الإيطالي)  الطليعيين الروس والدادية والسوريالية التقدمية والمنطلقين من تيار اللاوعي (فرويد -يونج- لاكان) !

عقلانية عصر الأنوار

الحداثة كذلك ضمت تنوعا بالغا يضم بعضا من الوجودية والماركسية والوضعية كتعبير شامل عن خيبات الأمل في عقلانية عصر الأنوار والعودة مجددآ للتعبير عن ما لايُعقل!
كان تجاوز الكلاسيكية هو المحتوى المزعوم للحداثة والنقد للقديم الذي تم تجاوز خرافاته ودياناته ليعلن في مطلع القرن العشرين مريض عصابي وفيلسوف(نيتشه) موت الإله. التعبير عن فردانية برچوازية كانت قد أستقرت بعد هزيمة الثورات الأوربية في العام 1848 ولم يكن  إقتراح  "ماركس "الخلاصي من أزمة الحضارة الغربية  متاحآ بعد.
لم يكن الحديث قد بدأ قبل إختراع الآله البخارية ومحرك الإحتراق الداخلي والكاميرا الضوئية لم يكن "الحديث "فكرة قد طرأت بذهن بعض الكتاب ولكنه كواقع مادي. لقد تخلى الناس عن العربات التى تجرها الخيول ليركبوا القطار الذي يحملهم لموانئ أنشأت لتصدير سلع رخيصة وجديدة تم إنتاجها بمصانع تُشغل آلاف العمال! كانت الساعات تملأ الميادين في المدن لتعلن عن تغير الزمن بعدما كان الناس يحسبونها بألفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء ،

لم تعد طرق التعبير الكلاسيكية متوافقة مع وقائع الحياة ولم تعد قصص "روميو وچولييت" تعبر عن العاطفة الجديدة التى شكلتها فيتشية السلعة! كان عرض السينما الأول ل"لوميير" حول دخول القطار للمحطة والذي تسبب في هروب النظارة من القاعة هو بزوغ لفن جديد هو فن تصوير الحركة وليس فن الثوابت وبهذا المعنى واجه التصوير التعبيري و النيوكلاسيكي التحدي الأكبر من الكاميرا الضوئية ليقاوم لكى ينقذ نفسه بألرسم التأثيري (فان خوخ..رينوار.. مونيه.. موديلياني..  رامبرانت) وكانت الروايات تنسج علاقاتها الدرامية من صراعات شوارع المدن وكان "كل ماهو ثابت وراسخ تذروه الرياح"(كارل ماركس)! كان أسم المرحوم " چورچ فيلهلم فردريش هيجل"(إكتمال مسيرة الروح في الدولة البيسماركية) يبدو كشبح  إبليس  متعشمآ في الجنة! وتبعه المغفور له "فردريك نيتشه"ليعلمنا بموت سبق إعلانه منذ قرن!
كانت البلشفية والفاشية محاولات حداثية متأخرة بإمتياز ترافق معهما تيارات أدبية وفنية تعمل على تجاوز الوضعية الكارثية التى تمخضت عنها الحرب العالمية الاولي الأدب والفن البروليتاري بروسيا والمستقبلية بإيطاليا والانطباعية الألمانية وكان العالم الجديد مشغول بالتركيب ألسينمائي لكتابة التاريخ بألصورة-الحركة (مولد أمة -جريفث..ذهب مع الريح -فيكتور فليمنغ وكلارك جيبل،المواطن كين -أورسون ويلز) 
الحداثة سبقها" الرينسانس" أساسآ في العمارة و التصوير الزيتي والنحت والذي إمتلأت به كاتدرائيات البورچات(Bourges) في  السواحل  الشمالية المتوسطية لتعبر عن  بورچوازية تجارية رعتها ملكية مطلقة في إمارات إيطاليا التجارية (آل ميديتشي)  في فلورنسا والبندقية وكذلك هامبورج وروتردام وبورتو ولم يكن الحكم المطلق سوى الغطاء السياسي للتوازن بين إقطاع آفل وبرچوازية ماركانتيلية صاعدة.

ماذا كانت إعادة الميلاد(الرنيسانس)؟

هي العودة لإحياء التقاليد الأغريقية(الكلاسيكية)في الرسم والنحت على وجه الخصوص وتزيين الكاتدرائيات بأللوحات التعبيرية للميثولوچيا المسيحية بذهنية حديثة!(خلق العالم ل"مايكل انجلو "في سقف كنيسة السيستين بروما) لوحات "رفاييل "الشخصية ل"آل مديتشي" بينما شرع "دانتي الليچييري"  في كتابة "الكوميديا الإلهية"! كانت عملية أنسنة فنية للحياة الدينية وتزيين قصور الملكية المطلقة و الكاتدرائيات البابوية بها،  تسربت خلالها الروح الفردية الجديدة من العقول لأيادي الفنانيين! هذا مختلف عن عمارة العصور الوسطى لعمارة كاتدرائيات لاتحمل طابعا فرديا  عليها توقيع مموليها وليس فنانيها المجهولين.
كانت الفلسفة تسير على رأسها محاولة تقديم تفسير للعالم الحديث وهي مشدودة لقواعد صارمة للكلاسيكيات(أرسطو- أفلاطون)بينما أستطاع الفن أن يتحايل ويجد مجالآ للتعبير الحديث مهربآ خلسة وسط بضائع لموضوعات دينية وملكية.
أعلن إكتشاف الأمريكتين (العالم الجديد) إغلاق أبواب العصور الوسطى وبداية العصر الحديث بينما كانت حضارة الآله والمصنع تنتشر بإنجلترا وفرنسا ،وتتوسع المدن  وتتشكل خلال ذلك الفردية البرچوازية(الموناد) ،و ينشق المجال الثقافي عن العالم الإقطاعي والبابوية بفنونهما  وتنتجان المسرح والرواية الحديثتين(شكسبير  و موليير- ديكنز وبلزاك).
التعبير الفردي ل"الموناد" المنفصل عن جماعته هو مايشكل جوهر الحداثة الفنية والأدبية وتشكيل سوق لهذا المنتج توافرت موارده من جيوب البراچوازيين الذين يشترون الكتب ويذهبون للمسرح والأوبرا ويزينون دورهم بأللوحات الفنية ! هذه الحداثة أستدعت أُطرا معرفية تكفلت بإنتاجها الجامعات من فلسفة وقانون دراسات أدبية لم تنطلق من الساعة صفر لكنها ورثت التاريخ الفني السابق فقد بقي كل من الأوبرا والباليه ليتغيرا وفق قواعد جديدة ويصيرا مُحــملين بمشكلات وصراعات تمثل العالم الحديث.
"أنا أحب الماكينة وإنجلترا..وأكره العشيقة التى توله بها روتشيلد"(ماياكوفسكي-غيمة في بنطلون) هذا هو عذابات الحداثة المتأخرة وقلق الطليعيين الروس والتعبيرين الألمان والمستقبليين الإيطاليين!إنها(الحداثة)حمولة واحدة !هي حداثة برچوازية أو لا تكون!
 العصر مابعد الصناعي  حمل معه نهايات !نهاية البروليتاريا ونهاية السياسة ونهاية الفلسفة بألطبع (التفكيك)  وتحول المسرح للشو (show) ونهاية السينما ونهاية الحكايات الكبرى التى كانت حاملة لكل هذا المتاع! لايبدو للنهايات نهاية !يوجد فقط " بعد".

آخر عمل تشكيلي حديث
ما بعد الحداثة هي المحتوى الثقافي الجديد للعالم ! فماذا تتضمن؟بحسب تقرير"چان فرانسوا ليوتار" في تقريره الشهير لوزارة التعليم  الكندية هى أسلوب ومحتوى التعبير فيما بعد نهاية السرديات الكبري للتنوير والحداثة وتتشكل من ممارسة ثقافية تعتمد على المحاكاة الساخرة  Parody واالتهجين Pastich !أى دمج الكلاسيكي في ماهو جديد وتتخطى" الأسلوب الدولي" و"الباوهاوس" في العمارة( الحديثة )مثلآ.. لتنتج عمارات مهجنة" لنتعلم من لاس فيجاس"( دينيس سكوت براون-روبرت فنتوري-استفن أزنور)-!وربما يكون تابلوه النيجاتيف المتكرر ل"مارلين مونرو" بريشة "أندي وارهول" هو آخر عمل تشكيلي حديث وفي  نفس الوقت مرثية للمشهد الثقافي  التشكيلي الحداثي.
 "يورغن هبرماس"و"إيهاب حسن "و"تيري إيجلتون"و "فردريك جيمسون" وآخرون من مواقع مختلفة حداثية متأخرة أو مابعد حداثية !إنخرطوا في جدال ساخن لشرح أو تنظير ما يجري في الواقع وتعليقآ على مانيفيستو (الوضع مابعد الحداثي)" چان فرانسوا ليوتار"!والحكاية لم تهدأ بعد! لإن التقارير  تنطلق من مشاهدات  متوترة وآنية و مضطربة -لم يحن الوقت لكي تصدح" بومة منيرفا "بعد- لما يجري في الواقع الثقافي من إنزياح (déplacement) للمحور القديم للحداثة!لم يعد هناك "موناد"! أنتهت عقلانية التنوير والأساليب الثقافية الحديثة المصاحبة لها. ولم يعد هناك" مارسيل بروست"-البحث عن الزمن المفقود -و" فرانز كافكا" -القصر والمحاكمة وأمريكا-! لم يعد هناك من يكتب الحنين الحداثي وحتى "ماركيز"يكتب "الحب في زمن الكوليرا" لإستعادة ماضاع  من وهم الحياة في زمن يفلت مضارعه ولا يبدو له مستقبل.
صالات العروض التشكيلية معبأة بتكوينات"اcomposition  تجمع الفيديو مع الموسيقى مع الرسم!خشبات المسارح لم يعد بها مُمثل أول أو ثاني! فقط مجموعات تتحرك وترقص في صخب (منذ "هير" و"أو كلكتا" و"المسيح نجم فوق العادة") في برودواي! وحتى "ثلاثين وأنا حاير فيك" و"على هواك" ل"توفيق الجبالي"  في التياترو!صفحات الروايات تخلو من  الأحداث والأبطال وتمتلأ بألمنولوج! وفي كرة القدم يرحل اللاعبون الكبار  وتأتي مراسيم وداعهم كوداع للعبة القديمة لتذوب في كرناڤال إعلاني وطقوس شبه دينية.  الصخب الغنائي المتشنج العابر للقارات (الراب)هو التكثيف الشعبي لقلق كوني لايجد له تنفيسآ حتى في الحروب المحدودة ويحلم بشتاء نووي أو بيئي محتملان  والحديث عنهما أصبح من مقررات الخطابات اليومية.
ضمن هذا المشهد فإن العودة للمقدس هو من طبيعة الحال للعالم الذي بقاؤه على حاله من المُحال..لم يعد يُنتظر شيئآ سوى من التكنولوچيا بينما يتهددنا الفناء المُعلنْ! ربما تأتي معجزة خلاصية قبيل الكارثة المُحدقة .

خرافات ماكينة الزمن
هل يبقى العالم في هذه الوضعية لوقت طويل؟ هل يستطيع الإنسان الإستمرار متماسكآ دون أفق جديد؟دون حكاية ما؟ دون يوتوبيا خلاصية ؟بألطبع لا وإلا صار مستشفى للمجانين  كما في الفيلم  الأبوكاليبسي "أحدهم طار فوق عش المجانين"( ميلوش فورمان-چاك نيكلسون) أو حتى "نهاية العالم (أبوكليبس ) الآن! ل"فرانسيس كوبولا"!أو في تلك الخيالات المحمومة لشخص يُدعى "بوتين" أو "ترامب"أو  "زامور" أو حتى تلك الإيطالية الشقراء المسلحة بكراهية مستوفاة محبة للكنيسة والعرق والأصنام القديمة.
لايمكن رفض او قبول هذا الوضع لأنه ببساطة موضوعي ! حدث ولا يمكن عكسه والعودة للبدايات !الزمن لا يقف إلا في حكاية أهل الكهف ولا يمكن عكسه إلا في خرافات ماكينة الزمن! يمكن أحيانا محاولة فهمه بينما نتعرف عليه !ونحن لانعلم  سوى ما علمتنا .. نبقى في "إنتظار جودو"(صمويل بيكيت)!لعل وعسى.

نشر في عدد " منارات " المؤرخ في 19 جانفي 2023.