المشهد التونسي و أزمة الديمقراطية
بقلم: صبري الرابحي - مازالت المسارات التي عرفها التونسيون نحو مطالب ثورتهم تتعثر كل يوم بالحواجز الاقتصادية و السياسية والتي لئن شكلت عائقا أمام تحقيقها فإنها أصبحت بدورها منتجة لأزمات الممارسة الديمقراطية التي ظن كثيرون أن تونس قد تجاوزتها وأصبحت إحدى النقاط المضيئة في فلك دول الربيع العربي.
الديمقراطية لم تستطع أن تتأصل في المشهد التونسي بل أصبحت بدورها تعيش أزمة غير مسبوقة تقتضي الانتباه إلى الرسائل الشعبية التي تضمنها عزوف التونسيين عن ممارسة حقهم الانتخابي أقدم آليات الديمقراطية.
الغريب في المشهد السياسي التونسي أنه لا يتم الاستنجاد بخبرات علماء الاجتماع لتفكيك ظاهرة العزوف الجماعي التي توحد حولها التونسيون بعد أن صار توحيدهم مهمة صعبة.في حين يتم الالتجاء للمدافعين عن الأقلية أو الأغلبية دون الخلاص إلى تفسير منطقي مقنع أو محدد للأسباب والمسببات بوضوح.
جوهر العملية الديمقراطية:
المعلوم أن آلية الانتخاب هي جوهر العملية الديمقراطية و لا يمكن أن يختلف اثنان حول ذلك منذ أن تم التخلي عن الديمقراطية المباشرة نحو الديمقراطية التمثيلية حيث يعبر الفرد عن إرادته بكل حرية، مما يفضي إلى مجالس وهيئات تعبر بالضرورة عن رغبة الناخبين في منح الثقة لمرشحين بعينهم.
هذه التعريفات وان كانت متلازمة حيث لا يمكن الفصل في مفهوم الديمقراطية بدون الحديث عن الانتخابات قد يؤدي بنا إلى مراجعة الفهم الجماعي للديمقراطية نفسها ومدى جدواها لدى الناخب التونسي.
التونسي والديمقراطية:
مثلما استطاعت الأزمات السياسية وتبعاتها الاقتصادية تغيير نظرة التونسيين لثورتهم حيث تناوبت الحكومات المتعاقبة على إفراغ مطالب ثورة 17 ديسمبر - 14 جانفي من جوهرها، فإن نفس هذه الظروف جعلتهم يكفرون بالديمقراطية وينسبون لها كل الخيبات التي صارت عليها معيشتهم. فبالرغم من أن مطالب الشعب كانت اجتماعية بالأساس تستوجب الكثير والكثير من الإصلاحات الاقتصادية، إلا أن تحويل هذه المطلبية إلى مطلبية سياسية بإمتياز وتكرر الوعود بأن التضحية بمزيد من الوقت سيفضي بالضرورة إلى تحقيق مطالب التونسيين بالطريقة الديمقراطية، جعل منها - أي الديمقراطية - عائقا أمام الفهم السليم للتونسيين الذين يبدو أنهم صاروا لا يطلبون إلا بحياة كريمة تحت أي نظام للحكم.
إشكالية الديمقراطية والأحزاب:
لم يعرف التونسيون التعددية الحزبية - بعد الاستقلال - إلا في أواخر السبعينات وكانت التنظيمات السياسية تتخذ من الساحة النقابية أرضية واسعة للدفاع عن قناعاتها خاصة بالنسبة للأحزاب اليسارية التي أصبحت مكونا رئيسياً منذ أن ظهر حزب الديمقراطيين الاشتراكيين للعلن بمرجعيته الاشتراكية التي كانت مجمعة لتيارات يسارية واسعة ثم سرعان ما ظهرت الأحزاب اليمينية قبل أن تعرف الأحزاب السياسية طفرة واسعة بعد الثورة بأن ناهزت المائتي حزب بمختلف التوجهات و بدونها أحياناً.
لكن بعد 25 جويلية تبين المتابعون للشأن السياسي تنامي ترذيل العمل الحزبي و تبخيس مساهمته في تأسيس ساحة سياسية متوازنة استكمالاً لتيار جارف ظهر بعد الأزمات السياسية المتكررة و التي تحملت الأحزاب تبعاتها عن طريق المحطات الانتخابية الكبرى. لكن بالرغم من هذه النزعة - والتي غذتها إجراءات 25 جويلية - إلا أن القوى الحية والفاعلة في المشهد مازالت تعتبر أن الأحزاب السياسية هي مكون رئيسي في الحياة السياسية وهي الضامن التعددي للتوازن من خلال تشريك كافة الأطياف و التوجهات في صياغة تونس الجديدة والمتجددة بالمتغيرات السياسية المتتالية.
رهان قيس سعيد على الانتخابات:
خلافاً لموقفه من الدور الأول للانتخابات البرلمانية أظهر الرئيس قيس سعيد بعض الارتياح لنتائج الدور الثاني والتي أعتبرها عقابا أو موقفا إستتباعيا للبرلمان السابق الذي رذل الحياة السياسية والممارسة الديمقراطية ككل حسب فهمه لهذه النتائج. والملاحظ وسط كل هذا أن قيس سعيد أعتبر منذ بداية إعلانه على خارطته لإنهاء مرحلة الإجراءات الاستثنائية أنه لن يتراجع عن خياراته مهما كانت نتائجها شعبيا رغم دعوات المعارضة له للتراجع عنها في علاقة بمشروعية المؤسسة المنبثقة عن هذه الانتخابات وعمقها الشعبي و هي العبارة التي استعملها لدحض سرديات المشروعية التي طفت على الساحة بعد الدور الثاني درءا لأزمة الديمقراطية في تونس.
مراجعة الكثير من المفاهيم
بالرغم من هذه النتائج التي أتت مخيبة لآمال الكثير من التونسيين من حيث ارتباطها بالممارسة الديمقراطية التي ظننا أنها أصبحت ممارسة أصلية في الحياة السياسية لا يتخلف عنها التونسيون، إلا أنه يبدو أن مراجعة الكثير من المفاهيم أصبح ضرورة قصوى يقتضيها المشهد حتى يتسنى تفكيك هذا السلوك العقابي الذي اختاره الشعب التونسي ليبرهن على أن الحياة السياسية أصبحت معطبة وأن الديمقراطية لم تعد تعنيه و تعيش بالتالي أكبر أزماتها في انتظار الانتخابات الرئاسية القادمة التي من المؤكد أنها ستتأثر بكل هذه المستجدات وقد لا تختلف نسب المشاركة فيها عن سابقاتها اذا لم يتم معالجة المشهد.