وطني

" اصلاح التعليم شأن نقابي بامتياز و" ما لا يأتي بمزيد من النضال، يتحقق بمزيد من التفاوض

الشعب نيوز/ رأي - نعم كان اصلاح التعليم على الدوام شأنا نقابيا، ومازال، وذلك خلافا لما يرى بعضهم من أنه لا دخل للنقابيين والنقابات والاتحاد عموما في اصلاح التعليم وفي ابداء رايهم في أي مسألة تخص المدرسة وأفتوا بانه من الاختصاص الحصري للسلطة ولام بعضهم على السلطة رجوعها المستمر الى النقابات لاستشارتها في أي عمل تقوم به وحرّضوها بأوضح العبارات على التوقف عن مثل هذا الصنيع بل وبرروا لها صرف النظر عن دور النقابات ورأيها في التعليم واصلاحه وبرامجه.

فقد انبرى، هذه الأيام، بعض السادة المعلقين في البرامج الاذاعية والتلفزية وكتّاب ما تبقّى من الصحف الورقية، من صحفيين و"كرانكة" و"أولياء " وصانعي محتوى ومنتحلي افتاء في دفع السلطة الحاكمة الى فض الاشكال القائم بين جامعتي التعليم الأساسي والثانوي ووزارة التربية بالإلزام والعنف والقوة والقهر.

وتفنن كثيرون منهم في لوم النقابيين وتقريعهم ورميهم بأنواع شتى من التهم وتحميلهم دون سواهم مسؤولية ما يحدث حتى الان.

كانت هذه مقدمة مختصرة لما سيأتي بيانه، لا بمعنى الرد، بل بهدف التوضيح وبهدف وضع الأمور في نصابها، وبهدف التذكير بان ما لقيصر يبقى لقيصر وحده، طال الزمن او قصر، خاصة وان التاريخ المكتوب لا يمكن ان يفسخ بجرة ممحاة   أو عباءة متديّن أو مصطنع علم أو عارض للخدمات المجانية.

هنا المبتدأ

منذ تأسس سنة 1946، أعطى الاتحاد العام التونسي للشغل لنفسه، إضافة الى الدفاع عن حقوق العمال في   الشغل اللائق والاجر المحترم، مهمة بناء مستقبل البلاد، انطلاقا من قناعة القائد المؤسس ورفاقه بان النصر على مرمى نضال وان الحرية آتية بلا ريب كالريح بما ان بيوت الاستعمار وغلاته قش.

في هذا السياق ومنذ مؤتمرها المنعقد في جانفي 1948، قررت الجامعة القومية للتعليم ( ضمت كل نقابات التعليم ) التي كان يقودها الأستاذ محمود المسعدي انها ستكون " مؤسسة البحث في مصيرنا الثقافي ونحن في بلاد نشهد فيها صراعا قاتلا وتطاحنا لا رحمة فيه بين ثقافتين وعقليتين وتاريخين، قربت بينهما مقتضيات التاريخ ولم تقرب الروح ولا الوجهة ولا مشيئة العباد بل قضت السياسة ان تكونا مظهرين من مظاهر حيوية عنصرين، عنصر غالب سياسيا وعنصر مغلوب ...ما ينبغي ان نفكر في وجوه التخلص منه بالسلامة. ولذا يجب ان تكون الجامعة المعهد العالي لبحث مسائل الثقافة العامة ومصيرها في هذه البلاد وتوجيهها ويجب ان تعالج جميع المسائل المتعلقة بالتعليم في بلادنا بحثا ونظرا وتحقيقا حتى يمكننا ان نلقى كل طارئة بعدّة مهيأة وكل حادثة براي سابق وكل سؤال بجواب ويجب حينئذ ان نتناول جميع أنواع التعليم من ابتدائي وثانوي وعال وقرآني وان ننظر في كل أمر يهمها من حيث النظام القانوني والإداري ومن حيث النظام البيداغوجي ومن حيث مواد التعليم ومن حيث عدد المدارس وعدد التلامذة. ويجب آخر الامر ان تنسق البحوث في جميع أنواع التعليم هذه حتى يستخلص منها جملة مبادئ عامة فيما يتعلق بحالة التعليم والثقافة."

 

وجاء في خاتمة التقرير الادبي للجامعة المقدم الى مؤتمرها المنعقد في جانفي 1948 بقلم الأستاذ محمود المسعدي " أظهرت التجربة ان مشاكل تعليمنا لن تحل الا إذا كان الساهر عليها تونسيا ومؤتمركم الذي اقتنع بان هاته المعضلة هي ام المشاكل، سيتخذ موقفا حاسما بهذا الصدد." (تقارير النشاط النقابي المقدمة الى المؤتمر الوطني الرابع للاتحاد المنعقد من 29 الى 31 مارس 1951)

وهنا الخبر

تقرير جامعة التعليم المعدّ منذ سنة 1948 ومن بعده التقرير الاقتصادي والاجتماعي للاتحاد الذي اعتمدته حكومات الدولة المستقلة راعت ان يكون المسؤول الأول عن التعليم في البلاد لا فقط تونسيا بطبيعة الحال وانما أيضا وبالخصوص نقابيا.

فقد كان النقابي الأمين الشابي اول من تولى وزارة التربية من 11 افريل 1956 الى 5 ماي 1958. وخلال تلك الفترة اشتغل فريق من النقابيين على وضع ما يعرف بقانون 1958 بقيادة نقابي آخر هو محمود المسعدي، الذي كلف اذن بتنفيذ ذلك القانون من خلال ادارته للوزارة من ماي 1958 الى جويلية 1968.

وعرف ميدان التعليم خلال تلك الحقبة من الزمن عناية خاصة، جهدا وتمويلا، لتثقيف الشعب التونسي. وقد مكن البرنامج - النقابي من فضلكم – من إرساء دعائم التعليم العصري وركز مناهج تعليمية توفق بين العلوم والآداب وتنفتح على الحداثة واللغات. وما النخب القائمة الان في البلاد الا نتاج لذلك البرنامج، الذي يمكن القول انه مازال مستمرا رغم ما ادخل عليه من إضافات وتعديلات.

إثره، تولى الوزارة من جويلية 1968 الى نوفمبر1969 النقابي أحمد بن صالح وهو الذي كان امينا عاما للاتحاد من 1954 الى نهاية 1956، وقد أضيفت اليه وزارة التربية مع ما كان عنده من وزارات آنذاك أي المالية والتخطيط والاقتصاد بما فيها من تجارة وصناعة وطاقة.

بمعنى ان الوزارة بقيت مدة تفوق 13 سنة متواصلة ودون منافس بأيدي النقابيين. وان محمود المسعدي يحتفظ بالرقم القياسي التونسي في تولي وزارة التربية وهو عشر سنوات وشهرين.

بعدها انتقلت في عهد الوزير الأول السابق الهادي نويرة – وهو الاخر نقابي - الى ايدي عدد من الدستوريين الذين كانوا، رغم تحزّبهم، قريبين من الاتحاد ومن النقابيين ويشرّكونهم في كل الإصلاحات. ولم تخل الفترة الممتدة بين نوفمبر1970 وجانفي 1980 من الخلافات بين الطرفين ومن الإضرابات لعلها أبرزها اضراب التعليم الثانوي سنة 1975 واضراب 26 جانفي 1978 الشهير.

من وزراء التربية في عهد الهادي نويرة نذكر كلا من احمد نورالدين ومحمد مزالي (صاحب أطول فترة) والشاذلي العياري وادريس قيقة. أما في الفترة المتراوحة بين أفريل 1980 ونوفمبر 1987 (3 وزراء أولين محمد مزالي ، رشيد صفر والزين بن علي )  فقد تداول على الوزارة كل من فرج الشاذلي وعبد العزيز بن ضياء وعمر الشاذلي ومحمد الصياح مع عبد القادر المهيري والهادي خليل ككاتبي دولة.

أكثر الإضرابات وأكبر المكاسب

أما من نوفمبر 1987 الى جانفي 2011، فقد تداول على الوزارة (تارة تجمع مع التعليم العالي) أكثر من 30 وزيرا وكاتب دولة. كانوا دستوريين وتجمعيين ومستقلين من بينهم عدد من النقابيين أو ان شئتم من المقرّبين من الاتحاد. نذكر هنا على سبيل المثال محمد الشرفي أحد مؤسسي النقابة العامة للأساتذة المحاضرين ومنصر الرويسي عضو نقابة مركز الدراسات الاقتصادية والاجتماعية، واحمد خالد، مؤلف احد افضل واضخم الكتب البحثية عن الزعيم فرحات حشاد والدالي الجازي القادم من حركة الديمقراطيين الاشتراكيين وحاتم بن سالم الذي عاد الى الوزارة في السنوات الأخيرة والخبير المعتمد الان لدى الاتحاد.

في هذه الفترة، حصلت الإضرابات في كل القطاعات (ابتدائي – ثانوي – عملة التربية – موظفي التربية – عملة التعليم العالي – موظفي التعليم العالي – القيميين والقيمين العامين – أعوان المخابر،) إضافة الى التعليم العالي (نقابتان) وحققت كل هذه الهياكل مكاسب عديدة وكبيرة. يمكن ان نذكر منها على سبيل المثال درجات معلم تطبيق وتحديد ساعات العمل في الابتدائي(15 على ما أذكر)، تحديد ساعات العمل في الثانوي(18)  واحداث عدد من الرتب منها الأستاذ الاول والاستاذ المميز وفوق الرتبة وغيرها.

من 2011 الى الان

تداول على وزارة التربية عدد من الشخصيات في مقدمتها بعض النقابيين، يشهد لهم التاريخ والوقائع انهم بذلوا جهودا سخية للإصلاح والارتقاء بالتعليم والتربية. وإذا لم يوفقوا في بعض الأحيان، فلأنهم لا يملكون الوسائل التي يمكن لهم بها تنفيذ سياساتهم.  

من بين هؤلاء النقابي الطيب البكوش، الأمين العام للاتحاد من 1981 الى 1986 وأحد مؤسسي نقابة الأساتذة المحاضرين، ومحمد الحامدي عضو أحد مكاتب النقابة العامة للتعليم الثانوي، وفتحي السلاوتي عضو نقابة احدى كليات المركب الجامعي بتونس وسالم الأبيض، المدافع الشرس عن الاتحاد وحاتم بن سالم المشار اليه آنفا. ومع كل هؤلاء، حصلت الخلافات والاضرابات وعدد كبير من الاتفاقيات، إثر جولات طويلة من المفاوضات. كما حصل مع بعضهم عمل شاق وطويل النفس حول اصلاح التعليم وسجّل الجميع تقدّما ملموسا نوّهت به كل الأطراف.

الاشكال الحاصل الى الان ان بعض الاتفاقيات المبرمة لم تجد طريقها الى الحل، وقد عمدت الحكومات المتعاقبة وغير المستقرة الى ترحيلها من سنة الى أخرى، وها هي قد أرست عند الوزير الحالي، محمد علي البوغديري، الأمين العام المساعد للاتحاد من 2017 الى 2022. وبحكم معرفته الدقيقة بالملف، فهو أستاذ، ومفاوض نقابي لبعض الوزراء الذين سبقوه في المنصب، وبحكم حقيبته الوزارية حاليا، تقع عليه، أحبّ أم كره، مسؤولية تجاوز كل الاشكالات وإيجاد الحل الملائم له بصورة نهائية خاصة وانه يحظى بدعم رئاسي غير مسبوق.

يعرف عن محمد علي البوغديري، المفاوض النقابي، قوله " ما لا يأتي بالنضال، يتحقق بمزيد من النضال" ونراه اليوم أو نخاله، كمفاوض حكومي، وهو يصر على النقاش والحوار، قائلا:" ما لا يأتي بالتفاوض، يتحقق بمزيد من التفاوض ". لكن من حقنا ومن دورنا ان نقول" أن ما لا يأتي بمزيد من النضال، يتحقق بمزيد من التفاوض." ذلك ان التفاوض حلقة رئيسية من النضال.

قبل هذا، بعده، وفوقه، لا شيء، لا شيء أفسد للود قضية.

* محمد بن عبد الله، نقابي غير مباشر