وعدت نفسي أن لا أبكي: من قتل سد ملاق العظيم ؟
بقلم كمال الشارني
منذ أن رأيت الصور الصادمة لبحيرة ملاق وقد جفت وأصبحت بحيرة طين وأسماك متعفنة وخيالات سيئة، صرخت: "إن أحدا ما قد قتل بحيرة ملاق"، قفزت في ذهني صورة "الفلوكة" الشراعية التي رأيتها بنفسي في طفولتي تمخر عباب البحيرة ونحن أطفال نتقافز حولها مثل الدلافين الصغيرة.
وعدت نفسي أن أكتب، على أن لا يغلبني بكاء الحنين والذكريات، إذ أن الموت المعلن لبحيرة ملاق هي احدى خيباتي الشخصية الأكثر عمقا، أنا الذي قضيت هناك أجمل سنوات عمري، إنما كم لاحقتني أمي بعصا الخضراية لكي تمنعني من الموت السنوي الذي يأكل كل صيف واحدا من رفاق الطفولة، إنما أيضا، عندما صنع سد ملاق العظيم أمجاد الحياة وحبها، كم أبحرت فيه من عائلات، كم عاشت على ضفافه وخيراته مجتمعات سعيدة، لقد كان يختزل قوة الحياة في السيطرة على الفيضان وتحويله إلى بحيرة زرقاء جميلة، كان في قمة ضفته الشرقية مطعم وحانة منذ سنوات الخمسين نبيع لها ما نصطاده من أسماك بولقباص والبوري والقاردون، وأذكر أني في ليالي الصيف أحصي أضواء السيارات التي تذهب في اتجاه واحد إلى المطعم على قمة الجبل المتوهج ضوءا، تفوق الثلاثين قبل أن يغلبني النوم،
لا شيء أوجع فرنسا أكثر من ترك هذا السد العظيم قبل إتمام إنجازه عندما قررت مغادرة تونس، هندسيا، هو شيء أكبر مما يمكن تخيله، يشبه في حجمه الأهرام، البناء الوحيد في تونس الذي تحس نفسك ضئيلا جدا إزاءه، حين تقف أمام احدى أعمدته الجبارة، تحس بالحاجة إلى الخشوع والصمت، لما يمكن أن يبلغه البشر من الحكمة،
الصور الأولى الصادمة نشرها ابن ابن خالتي، العزيز هيثم الشارني، حيث يمكنك أن ترى هياكل السمك المتآكل وتتخيلها وهي تتخبط في أنفاسها الأخيرة قبل أن تستسلم للطين ولأسراب ذباب الموت، تذكرت أسبوعا في سنوات الثمانين قضيته مع مجموعة سياح فرنسيين خيموا على ضفاف البحيرة كانوا مغرمين بصيد أسماك المياه الحلوة، إنما مختصين في صيد أصعب حيوانات الماء ليلا: "صنّار الحوت"، أو حنش الماء، anguille الذي يصل طوله في ملاق مترا ونصفا، 12 كغ من الوزن، وهو مقاتل شرس في الماء وخارجه، غريزة الصيد في المياه الحلوة لا تقل متعة وإثارة عن أي نوع من صيد الفرائس، كنا نقضي الليل ننصب فخاخا بالشصوص لتلك الكائنات غير المرئية في أعماق الماء، عندما كان عمق الماء عشرات الأمتار، قبل أن يأكلها الطين،
لقد حذر بناة السد من الطين قبل إنجازه في 1952، وكانت الخطة تقتضي تشجير كل الضفاف المحيطة بالسد والوادي حتى الحدود الجزائرية، وخصوصا تجفيف البحيرة كل 15 عاما وجرف الطين، دفعني حب السد إلى تاريخ الصينيين الذين اخترعوا السدود واكتشفوا أن الطمي فيها ثروة فكانوا يجمعونه ويصنعون منه الفخار الصيني الشفاف الثمين، ومنذ نهاية الثمانينات، كشف لي أحد مهندسي وزارة الفلاحة أن مستوى الطين بلغ 18 مترا، قرابة نصف عمق السد وأنه يموت، عندما دخلت الصحافة، لم أترك وزيرا ولا مسؤولا دون أن أسأله: "هل ستتركون سد ملاق وبحيرته تموت؟"، كلهم كانوا يتركونه لمصيره، بحجة أن كلفة جهره أكبر من كلفة إنجاز سد جديد، وهو ما يتم حاليا، مع ملاق الثاني، إنما سيكون مجرد "قلتة ماء" وسط التلال القفراء، بلا أمجاد ولا قصص سد ملاق الذي كانت حوله قرية وحياة جميلة،
هل تموت السدود؟ نعم، عندما يتركها أهلها بلا مقاومة، عندما يفقدون ذكرياتهم ورغبتهم في الحياة قرب الماء،