أمام تخلي الدولة عن مساعدة الصحف: مخاطر اندثار الصحافة التونسية
لم تشهد الساحة الصحفية التونسية حالة تصحر وضمور صحفي مثل التي تعيشه هذه الأيام وهذه السنوات الماضية بعد اندثار أغلب العناوين الصحفية التي صنعت تاريخ الصحافة التونسية وربيعها، في حين يتهدد الموت البطيء ما بقي من العناوين المتبقية، بسبب انسحاب الدولة الكامل من المشهد الصحفي وتخليها عن دورها التعديلي في ضمان صحافة جيدة وتكريس حق المواطن في إعلام متوازن. و الصورة المرافقة تبين ضمور عدد عناوين الصحف التونسية وفقر الاكشاك.
وطوال تاريخها الطويل لأكثر من قرن ونصف من الوجود، لم تعرف الصحافة التونسية سواء تحت الاستعمار أو مع الاستقلال، حالة فراغ واندثار في العناوين الصحفية التي لم يبق فيها سوى عدد محدود من اليوميات يعد على الأصابع ، في حين اضمحلت تقريبا كل الأسبوعيات على الساحة، كما بينته في كتابي الأخير الصادر السنة الماضية تحت عنوان "قرن ونصف من الصحافة في تونس :مسارات الحركة الإصلاحية والحرية والتعددية ".
عدة عوامل عدائية جعلت من الصحافة التونسية "صحافة منكوبة حقا وليست صحافة مكتوبة"
فقد اندثرت خلال السنوات الأخيرة العناوين الأسبوعية البارزة مثل "الصدى" و"الأنوار" و"الاعلان" و"البيان" والتي يزيد عمر كل منها على أكثر من أربعين سنة من الوجود والرواج الواسع . كما اندثرت في نفس الوقت الأسبوعيات الناطقة بلسان الأحزاب السياسية مثل جريدة "الموقف" و"الفجر" و"البديل" و"مواطنون" و"الطريق الجديد". وأصبح مظهر الأكشاك في تونس بائسا وبدائيا لاتزينه غير عناوين الصحافة الأجنبية .
وإذا كانت هذه الصحف المعارضة التي ناضلت واستبسلت في الوجود رغم ضغوطات السلطة السياسية لما قبل 2011 وحصارها المالي والميداني لها، فإن لامبالاة الحكومات المتعاقبة منذ 2011 قد أجهزت عليها ودفنتها تباعا وهي حية، في مناخ سياسي لانتقال ديمقراطي في بلد يفاخر بأنه الأفضل في ترتيب حرية التعبير على الصعيد العالمي والاقليمي، ويدعي تصدير التجربة إلى الخارج.
لقد تكالبت على الصحافة التونسية خلال السنوات القليلة الماضية عدة عوامل عدائية جعلت منها "صحافة منكوبة حقا وليست صحافة مكتوبة"، كما عنونت إحدى الصحف اليومية وهي تطلق صيحة فزع إلى الجهات الرسمية من أجل التحرك وإنقاذ ما يمكن إنقاذه وحتى لا تتحول الساحة الصحفية التونسية المزدهرة على مدى العقود الطويلة الماضية ، إلى صحراء قاحلة لامثيل لها في البلدان المتقدمة أو السائرة في طريق النمو، أو القريبة منا على غرار الجزائر أو المغرب التي لازالت تتوفر على صحافة مزدهرة كميا ونوعيا بفضل تحمل الدولة مسؤولياتها في مساعدة صحفها على ضمان البقاء والتطور وتقديم منتوج صحفي جيد يبتعد عن الرداءة والتفاهة ويمنع تحكم لوبيات المال والسياسة فيه.
انسحبت الدولة من الساحة الصحفية وتركتها تغرق في فوضى العجز المالي ووحل المديونية
لقد وصل الوضع إلى مداه السلبي بعد أن انسحبت الدولة من الساحة الصحفية وتركتها تغرق في فوضى العجز المالي ووحل المديونية حد الإفلاس لأغلب العناوين المتبقية والتي تهدد اليوم بالغلق كرها مثل يوميتي "الصباح" و"الصحافة" وشقيقتيهما بالفرنسية "لوطون" و"لابراس"، معلنة بذلك نهاية الصحافة التونسية، في الوقت الذي تعيش فيه الصحافة الورقية والالكترونية ازدهارا في بلدان أخرى حولنا بفضل استمرار دور الدولة التعديلي وتوزيع المساعدات والإشهار، وهو أمر لايتناقض مع احترام حرية التعبير واستقلالية الصحف. ولكن التفسير الأعرج للديمقراطية والأبتر لحرية التعبير، يجعل البعض يمزجه بجرعة زائدة من اللامبالاة السائدة لتحوله إلى سم قاتل لكل ما هو نور الحياة.
ففي البلدان الديمقراطية العريقة التي سبقتنا في ذلك، تقدم الدولة العادلة والراعية لأبناءها ومؤسساتها مساعدات عدة مباشرة مثل تخفيضات في النقل البريدي، أو الإرتباط بشبكة البث الإلكتروني بأسعار تفاضلية عن الجاري بها العمل في السوق، والتخفيض في نسبة القيمة المضافة، مما يسمح بتخفيض كلفة إنتاج الصحيفة الورقية أو الإلكترونية سواء في صفحاتها التحريرية أو الإشهارية..
ويساهم هذا الدعم الحكومي في ضمان استمرارية الصحف ومنع احتكارها من قبل أصحاب المال والأعمال وشرائها من طرف البعض منهم، مما يهدد تعددية الصحافة وتنوع اتجاهاتها الفكرية والسياسية وتعددية خطها التحريري.
("لوموند"تحصل سنويا على خمسة مليون يورو مساعدات من الحكومة)
وفي فرنسا القريبة منا ونطالع صحافتها يوميا ونعجب بجودتها وحضورها الكاسح في أكشاكنا، يخضع توزيع الدعم لمبدإ النجاعة والحضور في السوق ونسبة السحب. وتحظى الصحف والمجلات التي تلقى إقبالا جماهيريا وتحترم أخلاقيات المهنة الصحفية بنسبة هامة من الدعم الحكومي، حسبما تشير إليه الإحصائيات الصادرة عام 2019 عن وزارة الثقافة والاتصال الفرنسية. وتشير هذه الأرقام إلى أن الدولة الفرنسية وزعت عام 2018 مبلغا يقارب نصف مليار أورو على 326 صحيفة ومجلة . وجاءت صحيفتا "ليبيراسيون" و"أُوجُورْدْوِي" على رأس القائمة حيث حصلت كل منهما على أكثر من 7 ملايين يورو مساعدة مالية. وحصلت "لوفيغارو على 5 مليون أورو، و"لوموند" على خمسة مليون أورو مساعدة من الدولة.
كما حصلت وكالة "فرانس براس" العالمية (أفب)، وهي واجهة فرنسا في الخارج، وحاملة لوائها الوطني ، على مبلغ مائة مليون أورو، في شكل اشتراكات المؤسسات الرسمية الفرنسية في كل نشراتها بالداخل والخارج، وهو ما يمثل أربعين بالمائة من رقم معاملاتها ، وذلك للمساهمة في "ضمان تقديم أخبار كاملة وموضوعية"، حسب نفس المصدر الرسمي الفرنسي.
بقلم الاستاذ الصحراوي قمعون.
* العناوين الفرعية من وضع التحرير.