ثقافي

جلال الرويسي يكتب عن افتتاح مهرجان قرطاج: " تهذريب " ما فيه ما يحفّل

" تهذريب " ما فيه ما يحفّل بقلم الاستاذ جلال الرويسي

لم أكن أتصوّر أنّ الفاضل الجزيري يستطيع تخييب الظن فيه بهذا القدر وبهذه القدرة. كم تراه بذل من الجهد حتى يحقق هذا الهدف، وهو الذي يؤكّد كلّما سُئِلَ عن نجاح حقّقه: "ما فمّاش سرّ. الحكاية وما فيها شْغُلْ مْعاوْدة". كم يا تراه ظل يكرّر هذه الرداءة حتى خرجت على هذا القدر المتقن من الرداءة؟

لا يمكن على الاقل في ما يخصني قراءة آخر أعمال الفاضل الجزيري، أقصد عرض المحفل الذي افتتح به الدورة 57 لمهرجان قرطاج، بمعزل عن مجمل مشروعه الإبداعي والثقافي عموما. هذا المشروع الهادف إلى فرز المدونة الموسيقية التونسية وربطها بعمقها الاجتماعي (الطبقي) والمجالي (مدينة/بادية) والثقافي (موسيقى صوفية، موسيقى عالمة، موسيقى شعبية، الخ). مشروع تصنيفي توثيقي مخرجه النهائي بمثابة انطولوجيا للموسيقى الشعبية التونسية النابعة من الحياة الفعلية للناس ولا الحياة المتخيلة أو المنشودة: أغاني السجون والكافيشانطات والمزود في أرباض الحاضرة والبدوي والإنشاد الصوفي في زوايا الأولياء والصالحين. ومن هنا الطابع التوثيقي والتصنيفي. وقد جعل هذا من كل فصل ينجزه الفاضل في مشروعه، عملا تأسيسيا ومرجعا يقتدى به ويستوحى منه. فتناسلت الأعمال الإبداعية والبحوث الأكاديمية التي توظف المزود أركستراليا او تفجّر المساحات الصوتية التي يخلقها الإنشاد الصوفي بما يسمح لها بتجاوز الخطية المقامية إلى الأداء الاوبرالي حتى.

الرجة التي عاشها الوجدان العربي

سمعت الفاضل الجزيري أكثر من مرة يشرح أنّ مشروعه هو الإجابة التي اهتدى إليها شخصيا إثر تلك الرجة التي عاشها الوجدان العربي إبان حرب الخليج وما خلّفته من انكسار وضياع. اعتبر الحل في إعادة تأسيس شخصية متصالحة مع وجدانها ونبضها المخزّن في جيناتها دون أن تكون واعية به. دعانا إلى أن ننتبه إلى نبضنا الداخلي وطاقاتنا الكامنة.فلسنا تخلّفا كلنا. فينا إحساس قوي، فينا إيقاع حي، فينا رهافة إنسانية، فينا فكر جريء ومتفلسف. لا يتعلق الأمر بالنخب، بل بالشعب وبثقافته التي يتنفسها في حياته اليومية.

هذه هي الرؤية الفكرية التي قام عليها مشروع الفاضل الجزيري الإبداعي والثقافي، والتي بها نقرأ (أقرأ) كل أعماله.

نجحت النوبة نجاحا منقطع النظير. ومثلها أو ربّما فاقتها الحضرة. ولكنّ في كلا العملين كان هناك هرم موسيقي اسمه سمير العقربي. ليس الفاضل الجزيري من ركّب البيانو على المزود أو الساكسوفون على الابتهال الصوفي أو نسج التعدّد والتداخل الصوتيين (البوليفوني) في الإنشاد الديني. قد يكون الفاضل الجزيري من قدح شرارة المشروع الإبداعي وجمّع الفنانين الكبار حول فكرته بفضل ما يتمتع من كاريزما. ولكن سمير العقربي هو الذي نفخ على تلك الشرارة وحوّلها إلى لهب فني متأجّج.

بصمة الفاضل في السينوغرافيا والإخراج والأزياء واضحة جليّة، حتى صار أغلبنا لا يعرف إن كانت الفرجة أهمّ ما في هذه الأعمال أم البحث الموسيقي؟ ما الذي يجرد هذه الأعمال من أي قيمة إذا غاب؟ هل هو الفرجة أم السماع؟ حتى جاءنا الجواب الفصل في باقي الأعمال وعلى الأخص في المحفل.

لم يتسنّ لي قراءة البطاقة الفنية لهذا العمل. ولكنّني سمعت بعض منشطين في الإذاعات يقولون أنّ عرض المحفل عبارة على لوحات تجسّد المحفل في مختلف ربوع تونس. وهو خرجة موسيقية شعبية تختلف من جهة إلى أخرى، يُزَفّ بها العريس أو هو الوطيّة التي ينقل خلالها جهاز العروسة.

توقعت بناء على ذلك لوحات استعراضية راقصة، وكرنفالا من الألوان والأصوات والتعبيرات الكوريغرافية.

لكن ما الذي قدّمه لنا الفاضل الجزيري وفريقه على ركح قرطاج؟

تهذريب موسيقي مشكّل من نتف أغان متداخلة لا فرز فيها ولا تصنيف ولا توثّق لشيء وأغلبها لا علاقة له بالمحفل. بل كثير منها إعادة (ريمايك) سمجة وغير متقنة ولا إضافة فيها بأصوات مزعجة وبأداء قبيح لأغاني المنسيات والنوبة مع استضافة لنضال اليحياوي ونور شيبة كما لو أنهما ضيفا شرف جاءا لإنقاذ العرض وحمايته من الهزال.

تخمة من الطبول والدرابك في إيقاع مجنون لإلهاب المدارج. وهندسة صوتية غير متوازنة ولا تليق بعرض محترف يفتتح مهرجان قرطاج العظيم.

هذا يؤكد مرة أخرى أنّ الفاضل الجزيري بدون سمير العقربي يتحول إلى لا شيء تقريبا في "قْلَمْ" عروض الموسيقى الشعبية الفرجوية، إلى الحدّ الذي تختلط عنده عروض الموسيقى الشعبية بالعروض الشعبوية...

حدثت نفسي أنّه من غير الممكن لعمل من إبداع الفاضل الجزيري أن يكون على هذا القدر من الضحالة. فرحت أبحث عن خيط رابط لما يقدّم على الركح وأجهدت نفسي فلم أظفر بشيء يشبع ما خلقه عنوان العرض من انتظارات.

ألهيت نفسي بتأمّل التوضيب الرّكحي (السينوغرافيا) وأنا على يقين أن الفاضل سيبدع في هذا الجانب فوجدته كنجم كرة لا يشق له غبار ولكنّه ليس في يومه. ركح مزدحم ومهيّأ على شكل معيّن (مقروضة)، كأننا إزاء فريق يلعب بأكثر من أحد عشر لاعبا بخطة 2-4-6-6-4-2

حتى الخشبة مفروشة بسجاد أحمر يحيل إلى مناخات الكاباريه ولا علاقة له بالمحفل. كان على الأقل بالإمكان اللعب بالإضاءة لمراوحة لون الركح ما بين الأصفر الصحراوي والأخضر العشبي وفق ما إذا كانت الأغنية جنوبية أو شمالية.

ليس من حقك أيّها الفاضل أن تخيّب ظنّنا فيك

تلمّست مجرّد نية لدى الفاضل الجزيري في الاحتفاء بألوان الرّيف الزاهية. لكنها كانت مجرد نية محتشمة، لأنّ تنورة برتقالية يتيمة أو جمّازة خضراء على ظهر راقص تائه في ذلك الحشد الذي لا مبرّر له، لا يكفيان لتجسيد سمفونية ألوان الريف المشتعلة.

ليس من حقك أيّها الفاضل أن تخيّب ظنّنا فيك. فليس لتونس الكثير ممّن هم في مثل ثقافتك وموهبتك.

وأنت أيضا يا سمير العقربي، ليس من حقك أن تستمرّ في هذا الغياب عن العروض الفرجوية الكبرى. ليس هناك إلّا الفاضل الجزيري من يمكنك التعامل معه في هذا النوع من العروض. أما إذا كنت مغيّبا قسرا فتلك جريمة في حق تونس والفن عموما من يسكت عنها شريك فيها...