عطلة الأمومة في قطاع أعوان الدولة: تشريعات تمييزية لا تكرّس مقومات العمل اللائق وغير منسجمة مع معايير العمل الدولية
الشعب نيوز / صبري الزغيدي - حوالي 40 سنة مرّت على اصدار الفصل 48 من قانون عدد 112 لسنة 1983 المتعلق بعطلة الامومة في قطاع أعوان الدولة والجماعات العمومية المحلية والمؤسسات العمومية، ومع مرور كل هذه السنوات لازالت الدولة تتمسك بهذا القانون الى الان رغم تغيرات عالم الشغل والتحولات الاقتصادية والاجتماعية في تونس والعالم، ورغم ان هذا القانون غير منسجم مع معايير العمل الدولية ويكرّس التمييز بين النساء والرجال في مسؤولية تربية الابناء .
وبسبب ما تعيشه النساء من معاناة لا توصف بسبب ما يمنحه القانون الحالي للمرأة العاملة في الوظيفة العمومية كعطلة ولادة (شهران)، وما يتكبّدنه من مشاق لضمان تربية الابناء والتوفيق بين عملهن ومسؤولياتهن تجاه الابناء، فقد بات من الضروري تطوير التشريعات المتعلقة بعطلة الامومة لتكون مكرّسة لمقتضيات وشروط العمل اللائق وموائمة لتحولات عالم الشغل وايضا منسجمة مع توصيات منظمة العمل الدولية ومحترمة للمساواة الفعلية والتامة بين الرجال والنساء.
عهد السلطاني تعمل أستاذة تعليم ابتدائي باحدى مدارس العاصمة، واجهت عدة صعوبات صحية منذ الأشهر الأولى من الحمل الأول السنة الفارطة كارتفاع ضغط الدم والسكر، وهو الأمر الذي تطلب عطلة استثنائية فرضها عليها طبيبها المباشر نظرا لخطورة الوضع على الجنين مما أدى بها إلى الخروج في عطلة بشهر واحد قبل حلول موعد الولادة.
بعد انجابها لابنها وتمتعها بعطلة الولادة بشهرين التي يوفرها لها القانون، تبيّن ان هذه المدة لا تكفي لرعاية رضيع لم يتجاوز عمره الشهرين، الأمر الذي اضطرها مكرهة إلى التمديد بشهرين كعطلة طويلة الأمد بنصف الأجر.
تقول الاستاذة عهد السلطاني للشعب نيوز:" لقد اضطررت لاتخاذ هذا الخيار باعتبار الصعوبات الصحية والنفسية خاصة وأن الرضيع يتطلب تفرغا وعناية".
واضافت: " أرجو من المشرّع التونسي ونحن على أبواب الاحتفال بعيد المرأة أن ينصف المرأة التونسية الموظفة بتطوير القانون الحالي نظرا لأهمية مرافقة الأم لابنها الرضيع في الاشهر الأولى ومدى حاجة الإبن للعناية الخاصة علما وأنني قد باشرت العمل اثر انتهاء عطلة الأمومة، وطُلب مني أن أتقدم بمطلب لمصلحة الموارد البشرية بالمندوبية لتمديد عطلتي بنصف أجر لمدة أربعة أشهر قبل 15 يوم من انتهاء عطلة الأمومة ولكن لم يتسن لي ذلك مما اضطرني الى الدخول في عطلة طويلة الأمد بشهرين مشفوعة بالعودة إلى العمل ومباشرته".
* ماذا تتضمن التشريعات المحلية؟
القانون المشار اليه سبّب معاناة حقيقة لعشرات الالاف من الموظفات في القطاع العام والوظيفة العمومية.
فكيف ومتى تُمنح عطلة الأمومة ؟
تنتفع الموظفات بعد الإدلاء بشهادة طبية بعطلة ولادة مدتها شهران مع استحقاق كامل المرتب ويمكن الجمع بين هذه العطلة وعطلة الاستراحة.
وفي نهاية هذه العطلة يمكن أن تُمنح للموظفات بطلب منهن عطلة أمومة لمدة لا تتجاوز أربعة أشهر مع استحقاق نصف المرتب وذلك لتمكينهن من تربية أطفالهن وتمنح هذه العطل مباشرة من طرف رئيس الإدارة.
كذلك ينص الفصل 48 مكرر على راحة الرضاعة، وهي فترة زمنية مدتها ساعة واحدة في بداية حصة العمل او في نهايتها تتمتع بها المرأة من أجل ارضاع صغيرها وذلك لمرة واحدة اذا كانت حصة العمل حصة واحدة لا تقل عن اربع ساعات، واذا كان العمل موزعا على حصتين في اليوم تُمنح للموظفة راحتان مدة كل واحدة منها ساعة واحدة وذلك في بداية كل حصة او في نهايتها شريطة ان تكون المدة الجملية للعمل مساوية لسبع ساعات على الاقل في اليوم.
هذا بخصوص قانون الوظيفة العمومية، لكن تجدر الاشارة ايضا الى نصّ اخر يتعلق ايضا بصيغة من صيغ الامومة او حماية الامومة في القانون التونسي يتعلق بالقانون عدد 58 لسنة 2006 والمتعلق باحداث نظام خاص للعمل نصف الوقت مع الانتفاع بثلثي الاجر لفائدة الامهات، ويتم العمل بهذا النظام الخاص عن طريق مطلب تقدمه الام وذلك للانتفاع بالدخول تحت نظام العمل لنصف الوقت لمدة ثلاث سنوات يمكن أن تُجدّد لفترتين، يعني تسع سنوات في الحد الاقصى.
والام التي من الممكن ان تنتفع بهذا النظام الخاص هي تلك التي لها طفل دون 16 سنة، وهذا الشرط لا يقع اعتباره اذا تعلّق الامر بطفل من ذوي الاعاقة.
ويتمثل النظام الخاص للعمل مع الانتفاع بثلثي الاجر في القيام بعمل اسبوعي تساوي مدته نصف المدة المطلوبة من الاعوان القائمين بالوظائف نفسها كامل الوقت، وينص هذا القانون في القصل 4 منه على انه يُرخّص للامهات العمل بهذا النظام لمدة 3 سنوات تُجدّد مرتين فقط طيلة المسار المهني بناء على طلب منهن.
كما ينص هذا القانون على ان الامهات المنتفعات به يتقاضين ثلثي الاجر من مرتباتهن الاصلية حسب الوضعية الادارية ويحتفظن كذلك بحقوقهن كاملة في التدرج والترقية والعطل والتغطية الاجتماعية.
ولا بد من الاشارة الى ان هذا القانون في علاقة بالاقتطاع الضريبي من الاجر والتغطية الاجتماعية فهو ينص على ان تتم على اساس الاجر لكامل الوقت، وتتم تصفية جراية التقاعد باعتبار نظام العمل يكامل الوقت ايضا، فيقع اقتطاع هذه المساهمات من ثلثي الاجر على اساس الاجر الكامل.
* أين نحن من معايير العمل الدولية؟
هذه التوضيحات قدمها الاستاذ عبد السلام النصيري الخبير بقسم الشؤون القانونية للاتحاد للشعب نيوز وابرز انها تمثل الاطار القانوني لعطلة الولادة ولعطلة الامومة وتبعاتها من تربية الاطفال وحقوق الام الموظفة في مادة تربية اطفالها.
ومقارنة بمنظومة معايير العمل الدولية، أشار الاستاذ عبد السلام النصيري الى ان اهم اتفاقية العمل الدولية متعلقة بحماية الامومة هي الاتفاقية عدد 183 بشأن مراجعة اتفاقية 1952 المتعلقة بحماية الامومة، واهم ما تنص عليه هذه الاتفاقية يتمثل أولا في الحماية الصحية والتي تُّوجب على كل دولة بأن تتشاور مع ممثلي منظمات العمال واصحاب العمل لاتخاذ تدابير مناسبة لضمان ان لا تضطر المرأة الحامل او المرضع الى اداء عمل تعتبره السلطة المختصة ضارا بصحة الام او الطفل، ثم تكرس هذه الاتفاقية في المادة 4 منها اجازة الامومة والتي تؤكد ان من حق امرأة الحصول على اجازة امومة لا تقل مدتها عن 14 اسبوعا بمجرد تقديمها لشهادة طبية تبيّن التاريخ المفترض للولادة.
وتنص الاتفاقية في نفس المادة المذكورة على انه مع المراعاة الواجبة لحماية صحة الام وصحة الطقل تشمل اجازة الامومة فترة اجازة الزامية بعد ولادة الطفل مدتها 6 اسابيع على الاقل، واذا كانت الفترة الفاصلة بين التاريخ المفترض للولادة وتاريخ وقوعها الفعلي فإن ذلك الفرق يُعطى في شكل اجازة دون التخفيض من الاجازة الالزامية بعد الولادة.
اما المادة 5 من الاتفاقية فتنص على انه من حق الام الموظفة التمتع بإجازة قبل فترة اجازة الامومة او بعدها بناء على شهادة طبية في حالة الاصابة بمرض او حدوث مضاعفات او احتمال حدوث مضاعفات ناجمة عن الحمل او عن الولادة.
وتنص المادة 6 من الاتفاقية على حق الام المتمتعة باجازة الامومة ان تحصل على ما يساوي كسبها السابق اثناء عملهان يعني ان لا تكون اجازة الامومة سببا لحرمان الام من دخلها من عملها، فتنص على الحصول على مقدار لا يقل عن ثلثي الكسب السابق الذي كانت تتقاضاه مقابل عملها.
كما تنص هذه الاتفاقية على مبدإ مهم متعلق بحماية الام اثناء فترة اجازة الامومة من التمييز، فقد نصت المادة 8 من الاتفاقية على انه يمنع على صاحب العمل ان ينهي استخدام أي امرأة اثناء حملها او اثناء تغيبها بمناسبة الاجازة او خلال فترة تعقب عودتها الى العمل تقررها القوانين المحلية، ويقع على عاتق صاحب العمل ان يثبت بأن اسباب الفصل من العمل لا تمت بأي صلة بالحمل او الولادة ومضاعفاتها او الارضاع، فهذه الاتفاقية تضع قرينة مفادها ان عملية فصل للمرأة اثناء اجازة الولادة او بعدها بفترة معينة تحددها القوانين المحلية سنة او سنتين مثلا، تضع قرينة مفادها ان هذا الفصل عن العمل سببه مرتبط بالحمل او بالولادة او بالارضاع وتبعات الولادة، وما على صاحب العمل الا ان يثبت العكس، أي ان يثبت ان سبب الفصل لا علاقة له بتاتا بالحمل او بالولادة.
كما تكفل الاتفاقية في المادة 8 ايضا عودة المرأة بعد الاجازة الى نفس وظيفتها اوالى وظيفة مماثلة بالاجر نفسه عند انتهاء اجازة الامومة.
وتنص المادة 9 من الاتفاقية على ان كل دولة تصادق على هذه الاتفاقية عليها ان تتخذ التدابير المناسبة لكي لا تشكّل الامومة سببا للتمييز في الاستخدام بما في ذلك فرص الحصول على العمل.
من ناحية اخرى لفت الاستاذ عبد السلام النصيري الى ان الفصل 40 من قانون الوظيفة العمومية ينص على عطلة بيومين للموظف الاب بمناسبة الولادة خلال العشر الايام الاولى من تاريخ الولادة، بينما في معايير العمل الدولية نجد ان عطلة الابوة تصل الى 15 يوما.
ومقارنة ببقية الدول العربية ودول العالم، يؤكد الاستاذ النصيري ان الوضعية القانونية للامومة ولحقوق المرأة ارتباطا بالولادة في مرتبة متدنية جدا بالنسبة للدولة التونسية، اذ تحتل تونس المراتب الاخيرة في ترتيب منظمة العمل الدولية ارتباطا باجازة الامومة لأن الاتفاقية 183 تمنح عطلة امومة لا تقل عن 14 اسبوعا بينما في تونس الموظفة العمومية تتمتع ب 8 اسابيع فقط، وحتى بالمقارنة بالدول العربية توجد تونس في المرتبة قبل الاخيرة بالنسبة لاجازة الامومة، حيث ان اغلبية الدول العربية تبدأ اجازة الامومة من 10 اسابيع وفيها حتى من تمتع موظفاتها بأكثر من 14 اسبوعا.
الاستاذ النصيري بيّن للشعب نيوز ان قانون الوظيفة العمومية وقانون 58 لسنة 2006 المتعلق بنظام العمل بنصف الوقت يكرّسان نظرة دونية تمييزية للمرأة، ويختزلان النظرة المجتمعية التقليدية بكون مكان المرأة هو البيت ووظيفتها هي انجاب الاطفال، فهذع القوانين تعكس لصورة واضحة فكرة ان الانجاب هي مسؤولية الام وليست مسؤولية مشتركة بين الام والاب وليست ايضا مسؤولية الدولة، وانما بدرجة اولى مسؤولية ملقاة على عاتق المرأة وعليها ان تتحملها لوحدها وهذا ما يفسر انها يجب ان تمتنع عن شغلها او ان تعمل بنصف الوقت او بنصف الاجر من اجل ان تتحمل مسؤولية تربية الابناء.
وهذا ما يفسر، يقول الاستاذ عبد السلام النصيري، ان المشرّع التونسي لا يعترف بعطلة الابوة ولا يعترف بالمسؤولية المشتركة في تربية الابناء، وانما المشرّع يلقيها على عاتق الام، على خلاف عدد من الدول العربية واغلب الدول الاوروبية التي تقرّ بعطلة ابوة وبالمسؤولية المشتركة ومسؤولية المجتمع في تربية الابناء.
ودعا الاستاذ النصيري الى السعي وراء تحقيق هذه القيم باعتبارها تمثل مقوما من المقومات الاساسية للعمل اللائق، الذي تعرّفه منظمة العمل الدولية هو العمل الذي يوفّر حماية اجتماعية ويكرّس الحقوق الاساسية كاملة ويمنع أي شكل من اشكال التمييز بين العاملات والعاملين، وفيما يخصّ مسألة الامومة وانجاب الاطفال فهي مسألة تعالجها معايير العمل الدولية على انها مسؤولية مشتركة في اطار الاسرة، ويجب ترتيب قوانين العمل حتى توفّق الاسرة بين النشاط المهني وبين ضرورات تربية الابناء، وان يتيح القانون فرصة للطرفين ليشتركا في تربية الابناء دون معاقبتهما بتقليص الاجر او من بقية المستحقات المالية وتوابع الاجر، وهذا ما يجب السعي اليه عبر المصادقة على الاتفاقية رقم 183 وتنزيل احكامها في القوانين المنظمة للعلاقات المهنية في كافة القطاعات.
* في صميم نضالات المنظمة الشغيلة
مطلب المصادقة على الاتفاقية الدولية عدد 183 كان ولا يزال من صميم نضالات الاتحاد العام التونسي للشغل منذ مؤتمر المنستير سنة 2006 ، وخاضت حوله هياكل المنظمة الشغيلة العديد من الحملات للضغط على السلطات التونسية للمصادقة عليها.
وفي هذا الصدد أبرزت الاخت ليلى الصديق عضوة الاتحاد الجهوي للشغل بتونس ان أقسام المرأة والعلاقات الدولية والهجرة نظمت عديد الندوات والملتقيات حول ملائمة عطلة الامومة في قانون الوظيفة العمومية مع التشريعات الدولية وخاصة اتفاقية منظمة العمل الدولية عدد 183 الخاصة بحماية الامومة، الى جانب اهتمام خبراء الاتحاد بنقاش مشروع القانون المقترح من طرف وزارة المرأة الساعي إلى توحيد عطلة الامومة فى كل القطاعات وملائمة التشريع التونسي مع الاتفاقية الدولية عدد 183 .
واضافت محدثتنا أنه تم تنظيم العديد من ورشات تفكير لصياغة مقترحات تعديل وإضافة مقترحات للمشروع قبل عرضه على مجلس النواب، وقد تم الاطلاع في هذه الورشات على الاتفاقية 183 وعلى القوانين المعتمدة في البلدان المتقدمة للمقارنة، وقد كانت المخرجات حينها مقترح تعديل بعض الفصول والوقوف على بعض النقائص كذكر عطلة الابوة ومقترح توحيد عطلة الامومة في كل القطاعات الخاص والعام والوظيفة العمومية.
الاخت ليلى الصديق وهي ايضا تعمل في قطاع القيمين والقيمين العاميين، تحدثت ايضا للشعب نيوز عن معاناة النساء العاملات في قطاعها وفي قطاع التربية ككل، وقالت : " قطاع التربية وهو من القطاعات المصنفة كمهن شاقة تعمل المراة الحامل فيه بين 40 و48 ساعة أسبوعيا، ولا تتمتع بعطلة قبل الوضع فقط 60 يوما كعطلة الوضع، ويبقى حصولها على عطلة الامومة رهين موافقة الرئيس المباشر، وفي ظل النقص الفادح فى الموارد البشرية وايقاف الانتدابات فى قطاع القيمين والعملة والاداريين فإن العطلة تصبح شبه مستحيلة، وهذا يحيلنا إلى تداعيات عدة اولها صحة الام والطفل وثانيها صعوبة النشأة السليمة والتوازن الاسري، وكذلك الأداء الوظيفي في حد ذاته".
واكدت الاخت ليلى أن دور النقابيات والنقابيين في الاتحاد العام التونسي للشغل العمل على إعادة مشروع قانون حماية عطلة الامومة على طاولة النقاش وإيجاد السبل لتطويره.
بدوره، أبرز الاستاذ النصيري للشعب نيوز ان مطلب المصادقة على الاتفاقية 183 طالما دعا اليه الاتحاد العام التونسي للشغل في لوائحه المهنية منذ مؤتمر المنستير سنة 2006، وتواترت هذه المطالبة في جميع مؤتمرات المنظمة الشغيلة لاحقا.
وفي سنة 2019 تم تقديم مشروع قانون من قبل الحكومة التونسية وصادق عليه مجلس الوزراء ومرره الى مجلس النواب، لكن هذا الاخير اعاده لمجلس الوزراء لمراجعته واعادة تنقيحه، وذلك اثر وجود مناهضة ومعارضة قوية من ممثلي الاعراف لفكرة تمتيع العاملات بعطلة لا تقل عن 14 اسبوعا التي نصّ عليها مشروع القانون المذكور الذي تبنى في الحقيقة الحدود الدنيا لعطلة الامومة والابوة المضمنة في معايير العمل الدولية، وما بعد قترة 25 جويلية تعطّل العمل البرلماني، وحتى في المجلس النيابي الجديد لم نشهد مبادرات من السلطة التنفيذية لاحياء مشروع هذا القانون واعادة عرضه من جديد.