نقابيون – وزراء: معركة التعليم الأساسي لن تتوقف الا بتحقيق مطالب المعلمين.
تركنا الوقت اللازم لبعض القوم حتى ينتشوا بما اعتبروه نصرا، بعد قرار رفع حجب الاعداد الذي اتخذته الهيئة الإدارية للجامعة العامة للتعليم الأساسي، عقب اجتماعها يوم الاحد 23 جويلية 2023.
وزاد البعض من بعض القوم انتشاء، حتى الثمالة، بما انتهى إليهم من أخبار "زفت" لهم استقالة الأخ نبيل الهواشي من الكتابة العامة للجامعة. لكن في نشوتهم تلك، لم يحاسبوا أنفسهم بل لم يبحثوا عن محتوى أي نصر كسبوه طالما ان المطالب باقية كما هي وان الاتفاق المغشوش لم يجد طريقه الى الامضاء.
من يركب البحر
لكن " التخميرة "، كما يصفها سي علي سعيدان او الفاضل الجزيري، لم تدم، لهؤلاء كما لأولئك، أكثر من وقت عبر، غاب فيه الوعي، ونادى لجمع الدائنين فحضر.
واحد من هؤلاء ليس الا نبيل الهواشي نفسه الذي لم يجل بخاطره أن يخشى من الغرق، فتمسك بالمركب الذي ركبه، ["الشقف" في لغة النقابيين،] ورفض ان يغادره رغم انه لم يكن البتة مهددا بالغرق أو بأقل منه من المخاطر.
* نبيل الهواشي، الكاتب العام للجامعة،أبرز محطة في مشواره النقابي، توليه طيلة سنوات عديدة، تدريب النقابيين وتكوينهم في مختلف المجالات
ولمن لا يعرف نبيل الهواشي، فهو منتج اتحادي خالص، بدأ مشواره النقابي منذ التحق بالعمل وارتقى سلم المسؤوليات واحدة واحدة، حائزا على ثقة المعلمين والمعلمات في مختلف المراحل. بل لعل أبرز محطة في مشواره النقابي، توليه طيلة سنوات عديدة، تدريب النقابيين وتكوينهم في مختلف المجالات ومنها تقنيات الاتصال والتواصل ولكن خاصة تقنيات التفاوض.
من هذه التقنيات، أنك كمفاوض لا يمكن ان تقبل باتفاق لا يرتقي الى مستوى النضالات والانتظارات، وأنك لا تقبل بنتيجة مفروضة عليك من أي طرف كان. كما من التقنيات أنك لا تتنازل عن المطالب، رغم عدم الاستجابة لها، إضافة الى عدم الهروب وترك الساحة.
بهذا الصدد، كتب نبيل الهواشي في آخر تدوينة له أنه سوف " يواصل الى آخر رمق أيا كانت الضرائب" باعتبار انه " لا يتنازل عن قضاياه العادلة ولا يغادر ميادين الاشتباك وأن " المعركة لن تتوقف إلا بتحقيق أماني المعلمين"
صف أول من الدّائنين
إن الامر يتعلق بهؤلاء وهم المعلمون طبعا والمعلمات فعلا، فمن أجلهم جميعا خيضت المعركة ورفعت المطالب وجرت المفاوضات. صحيح ان الجامعة لم تتوصل الى تحقيقها لعدة أسباب منها ظلم من حسب نفسه من ذوي القربى، ولكن رغم ذلك، فان المطالب باقية، قائمة وعدم تنفيذ ما اتفق بشأنها وعدم الاستجابة للمستحدث منها ليس معرّة في وجه من رفعها وعبّر عنها بل في وجه وفي وجاهة وفي جاه من تنكّر للمتّفق عليها ورافض لجديدها ومؤجّل لبعضها سنوات تكاد تكون ضوئية.
ليس في وارد هذا المقال مناقشة المطالب ولا تفسيرها وشرحها أو تبريرها طالما أنها معروفة من الجميع ومدروسة كلفتها وانعكاساتها وأبرز هذه الأخيرة، تلك التي كانت ستعم المعلمات والمعلمين، فتعيد لهم بعضا من حقوقهم وتضمن لهم قدرا إضافيا من التقدير والاحترام ولكن خاصة توفر لهم كما لا يقدر بميزان من الشحن المعنوي الكفيل بدفعهم الى مزيد من الإنتاج والاتقان.
أكبر الدائنين
حسبت منظمة العمل الدولية في احدى دراساتها الموثقة عن النضالات العمالية، بما فيها من احتجاج وشارة حمراء واضراب وغيره، ان الشغالين، بعد أي تحرك يقومون به، يعودون أقوى وأشدّ مضاء وأكثر اقبالا على أعمالهم. واخرجت الدراسة أرقاما تؤكد أنهم ينتجون أكثر في كل الحالات وخاصة عندما تسفر تحركاتهم عن مكاسب ما.
* دفاعا عن كرامة المعلم أولا وأخيرا.
وحيث لا جدال في أن انتاج المعلمات والمعلمين انما يذهب مباشرة الى التلاميذ والتلميذات، يصير من نافلة القول الإشارة الى أنهم هم بالذات أكثر المنتفعين من تحسين أوضاع مربّياتهم ومربييهم والاستجابة الى طلباتهم.
لكن بما أن العكس هو الذي حصل، فلسنا بحاجة الى القول ان مسؤوليته انما تقع على كاهل من تسبّب فيه، كما لسنا في حاجة الى التدليل على أن كبار الدائنين ليسوا الا أولئك التلميذات والتلاميذ.
ولأن صاحب هذه المسؤولية بالذات، أخذته العزة، وأغرته الأبّهة، فقد زاد على دين ارتهان التلاميذ من خلال رفض مطالب معلميهم، دين تجويع الالاف من هؤلاء، غير مكذّب لقراره بل مؤكد له لما قال "مزهوا" انهم 12 الفا وليسوا 17 الفا. يقول مثلنا الشعبي: " ما تحرقش، غير لشلش."
لاحق على السابق
الوقت واحد من العناصر الكاشفة لحقيقة المعادن، فمن كان يصدّق أن من جعل الطهورية لباسا يقبل – على نفسه – ان يدنس ذلك اللباس بأسوإ ما يمكن ان تختزنه النفس – الحاقدة - من سوء بما يترجم نزوعا الى العفس والرفس والانتقام والتجويع والتركيع وبما يفضح رغبة مكبوتة في التعويض عن خسارة تبين اليوم ان صاحبها حقيق بها.
تفرض المدرسة النقابية المستقلة على مرتاديها ومنتسبيها بان لا يقبلوا مناصب في السلطة لان لها منطقا مغايرا ومختلفا. فلها، كما يقول المثل الفرنسي، حجج لا يدركها العقل.
فالسلطة ترفض ان ينازعها أي كان في اختصاصها، وترفض أن يناقشها أحد فيما تفعل، وترفض ان يطلب منها أحد أي شيء مما لا تريد أن تعطيه بإرادتها.
تحتكر كل شيء تقريبا، ولا ترضى من أحد أن يفكّر، وأن يرى غير ما ترى، وأن يبتدع غير ما تتصور أنه ابداع.
لذلك، فإنها لا تصلح للنقابيين المجبولين على الحرية والحركة ورفض السائد، ومن قبلها منهم وقع في شراكها وتلبّس بلباسها وخضع الى اغراءاتها ونواميسها، فصار جزء منها، لا يتورّع، ان لزم الامر، عن معاداة رفاقه القدامى ومقاومتهم وإلحاق الأذى بهم وبمنظوريهم وبمنظمتهم.
لنا في تونس أمثلة على ذلك، لا نرى فائدة في الاتيان عليها كلّها. سنقتصر في هذا المقال على واحد فقط هو المرحوم أحمد بن صالح. ولمن لا يعرفه فهو أحد أبرز الأمناء العامين للاتحاد (1954-1956) وصاحب أول برامجه الاقتصادية والاجتماعية وهو الذي " افتكه" الزعيم الحبيب بورقيبة من الاتحاد وضمه الى فريقه الحكومي وأسند له عددا غير مسبوق من الوزارات، متفرقة ومجتمعة.
* احمد بن صالح، أحد أبرز الامناء العامين للاتحاد، "افتكّه " الرئيس بورقيبة من المنظمة وولاه على عدة وزارات مجتمعة ومتفرقة
هو أب التجربة الاشتراكية التي شهدتها البلاد في الستينات وقد بدأها بضم مؤسسات الاتحاد الأربع وأربعين (44) الى الديوان القومي للتعاضد ليقدمها كنموذج للتعاضديات التي تصوّرها. اصطدمت سياسته إزاء العمال والموظفين بمواقف الاتحاد ومنها مطلب الزيادة في الأجور تعويضا عن الخسارة الناتجة عن تخفيض الدينار.
ظروف قاسية
نتيجة لذلك، نشأت أزمة اندلعت منذ مؤتمر الحزب الدستوري في أكتوبر 1964 وتواصلت صيف 1965 بمحاكمة الزعيم الحبيب عاشور الأمين العام أنداك والزج به في السجن في قضية تعرف باسم قضية الباخرة الرابطة بين صفاقس و قرقنة وابعاده بطبيعة الحال وتنصيب قيادة موالية.
بقي الرجل في السلطة مدّة ما سمحت له به ومضى في ظروف قاسية، فيما بقي الاتحاد وعاد عاشور على رأسه.
* الحبيب عاشور الامين العام الذي أبعد عن الاتحاد 3 مرات وعاد الى قيادته بعد سجنه
بمرور الزمن، طوى النقابيون صفحة الماضي وعفوا عن أحمد بن صالح ورفعوا عنه الحرج بل وأكرموه عديد المرات ولكنهم لم يمكنوه من شرف إضافة صورته الى صور القادة الاربعة الكبار (محمد علي – فرحات حشاد – احمد تليلي – الحبيب عاشور) رغم أنه أعاد الاتحاد الى الصفوف الامامية بعد اغتيال مؤسسه فرحات حشاد.
" أنت تحدّث مخاطبك عن القمر وهو ينظر الى اصبعك".
بقلم أحمد البرجي/ نقابي قديم.