حمّى الإنقلابات وإعدام الديمقراطية
بقلم صبري الرابحي
كان هتلر يعتقد أن الدعاية السياسية أو البروبغندا بإمكانها أن تحمي الرايخ المنبني على القومية وميثولوجيا التفوق على الآخرين فرسم لنفسه حدوداً إعتبارية لعرشه ما بين المدّ الشيوعي والمدّ الرأسمالي اللذين حاصرا تفوقه العسكري وجعلا تسويته بالأرض أمراً مفروغاً منه بمجرد إقناعه بأنه لا يهزم عسكرياً وعرقياً فإنتهى إلى كائن محاصر بتبدد وهم القوة الصلبة التي لم تستطع الصمود أمام الواقعية السياسية التي فرضتها الأقطاب الكبرى أنذاك.
بمعنى أن سياسة الهروب إلى الأمام وتبني وهم السيطرة يجر صاحبه إلى إخفاقات كبرى لا يمكنه تجاوزها إلا بتحسس الوضع الإجتماعي والفهم الصحيح والواقعي للمتغيرات الداخلية والخارجية للبلد.
من هذا المنطلق أخفقت جل الزعامات العربية التي كانت منتشية بجماهير المصفقين ولم تستوعب الدرس من التاريخ ولم تمكن المعارضة من دورها الأساسي كقوة معاكسة وتوازن أو تعديل في تجربة البناء المستدام وتحولت إلى أهواء فردية بدون بوصلة أو في أقصى الحالات إلى دوغمائية فردانية للزعيم الأوحد المتكفل بالتخطيط والتنفيذ بأي ثمن.
كان الهدف دائماً هو إفراغ المعارضات من محتواها وتحويلها إلى معارضات سجنية أو سرية أو متحررة تخدم النظام من حيث لا تعلم بشرعنة ممارساته والإكتفاء بالوجود في العلن.
لا يخفي الواقع السياسي اليوم في العالم إعادة تشكل الأنظمة على قاعدة التسلّح والتكتلات الإقتصادية مما يجعلها إما تابعة لهيمنة القوى الكبرى من حيث الموارد أو سوقاً منتعشة للأسلحة تخلق أعداءًا وهميين للتغطية على فشلها في التوحيد والنهضة مما خلق بيئة مستقرة للإصلاحيين الذين يحبذون التعامل مع النظام على مناوئته بالأساليب المشروعة للمعارضة.
مرّت الإنسانية بحروب أهلية جعلت من التفاوت الإقتصادي واقعًا مفروغًا منه وأفسحت المجال إلى إعادة تشكل الخرائط الجغرافية بين أقاليم واسعة تستفيد من التوتر وأخرى تداوم على عرقلة تقدمها في كل مرّة من خلال صناعة عدوّ وهمي تضيع الزمن السياسي المستحقّ للبناء في محاربته وتوليد العنف من وسط الخلافات الداخلية أو حتى الخارجية.
لماذا كل هذا السعي إلى حروب وهمية؟
لا يمكن لأي نظام سياسي فشل في تأسيس منوال تنموي متين أن يغطي عجزه ويتحمل مسؤوليته بالتخلي عن السلطة أو الإستنجاد بالتفكير الجماعي معارضة وموالاة لإقتسام أعباء الحكم. لذلك يصبح الحل الأسهل هو صناعة عدوّ وهمي سواءًا لمعارضته الفكرية أو حتى المسلحة والتي يدفع ضريبتها أتباع الطرفين دون الإنتباه إلى أن الخاسر الأكبر هو الوطن.
لذلك نجد دائماً العقل السياسي قاصراً على توليد الفكرة وتنفيذ المشاريع المستدامة لقناعته بأن الحكم دائم وأن التخلي ليس وارداً خاصة إذا ما داوم على سرديتي الإستقرار السياسي المقنّع والولاء الدائم للقوى الكبرى التي يأتمر بأمرتها للحفاظ على الحكم.
حمى الإنقلابات وعنف السلطة:
أصبحنا نسمع كثيراً عن الإنقلابات بعد أن صرنا نؤمن بتجذّر الممارسة الديمقراطية التي أظهرت التجربة أنها أقلّ كلفة على الدول.
لكن قيادات هذه الإنقلابات المبنية على القوى الصلبة تؤسس بالضرورة إلى غياب الرؤية الإقتصادية وتنبني فقط على إعادة تشكيل النظام أو ترميمه على قاعدة التوازنات العائلية أو القبلية أو حتى على قاعدة توازنات القوى داخل القوى الصلبة نفسها وهو ما كشفته التجربة السودانية مؤخراً.
أما عن عنف السلطة فإن الإجراءات الموالية للإنقلابات تنبني على قواعد الإستثناء الأمني والعسكري من حيث تمكين القوات المسلحة من الأخذ بزمام المبادرة السياسية التي تنشغل بالضرورة في مرحلة أولى بالترويج الديبلوماسي للإنقلاب لإكتساب الشرعية الدولية ثم الإنطلاق في التمكين السياسي وتنظيم الإنتخابات التي تبني بالضرورة الديمقراطية المعطوبة التي يكون هدفها بالضرورة "تمدين" سلطة الإنقلاب ودحر الصفة العسكرية عنها أو الترويج لكسرها للديكتاتورية في حالة الإنقلابات الدستورية التي عادة ما تحمل في طياتها مغالطة كبرى مبنية على المزاج المواطني المتقلب بين الحرية وسدّ حاجياته الغذائية لتتحول الديمقراطية إلى مطلب نخبوي يدخل في خانة الرفاهية وهو ما رأيناه في دول الربيع العربي.
دخول الإمبريالية على الخط:
جلّ الخطابات الإنقلابية تنبني على إعادة تشكيل المدّ الإمبريالي حيث فشلت أغلب السرديات المغتصبة للسلطة في التحوّل إلى حركات تحرّر تنفصل عن القوى الإستعمارية الكلاسيكية.
الدليل على ذلك ما حصل مؤخراً في بوركينا فاسو والتقارب المعلن بينها وبين روسيا كقطب عسكري مهم ومن ورائه المجموعة الإقتصادية "البريكس" التي وجدت طريقها إلى العمق الإفريقي الذي مازال أرضية خصبة للإنتفاع بموارده وفتح أسواق جديدة للتجارة العالمية والتسليح.
لكن التجربة أثبتت أن الدعم السياسي للإنقلابات يتحوّل سريعاً من شرعنته دوليًا إلى الهيمنة عليه وتوجيهه بما يخدم القوى الكبرى لا غير وأن التحرّر الحقيقي يبقى رهين القدرة على صناعة هويّة منفردة تفرض نفسها وتتخلص من التبعية الإستعمارية وتشاكس النظام العالمي الذين لن يسمح بظهور زعامات جديدة سواءً تلك المبنية على القومية أو على العمق الإستراتيجي لبعض الدول لتلعب أدوارًا أكبر من حجمها في عالم إختار أقطابه مبكرًا وإنتقى بيادقه بعناية متناهية ويداوم على إكسائها بالديمقراطية للتغطية عن أطماعه المتزايدة في زيادة النفوذ وبسط الهيمنة بواسطة لاعبين جدد إختاروا إستنساخ تجربة هتلر مع فارق طفيف في التاريخ والمصير أحيانًا.