آراء حرة

قراءة في حركة 25 جويلية التصحيحية (2) : تغوّل وتهميش للرئيس وتحالف مع مراكز الثقل الاقتصادي

بقلم سالم الحداد / باحث ومؤرخ  
يجازف الأستاذ سالم الحداد بتقديم الجزء الثاني من قراءة في حركة 25 جويلية التصحيحية ( 1) علّها تساعد على إدراك ما حدث بل على تصور ما سيحدث، وصولا إلى الجمهورية الثالثة
، فكيف ستكون خارطة الطريق الممهدة لإرساء قواعدها؟ فالأمم الحية لا يهمها ان تعرف الماضي كيف كان إلا بقدر ما يساعدها ذلك على معرفة ما يجب أن يكون.
IV ــ تمكّن النهضة والرغبة في التغوّل
يبدو ان النهضة ـ بعد تهميشها للباجي قايد السبسي ــ لم تعُد تكتفي  بشعار "وُجدت لأبقى" بل  صار لها هدف أبعد هو "وجدت لأحكم " وقد شجعها على ذلك  الفراغ السياسي  بعد تفكك النداء فوضعت استرتيجية متكاملة  لامتلاك السلطة لها منطلقاتها واهدافها وآلياتها فيم تتمثل ؟
 أولا ـــ المنطلقات
1 ــ النهضة مركز ثقل سياسي رئيسي
اعتقدت النهضة انها الفاعلية السياسية الوحيدة القادرة على إدارة اللعبة السياسية  في تونس  فهي الحزب الاغلبي المتماسك  المالك لمخزون انتخابي والمتوغل في مفاصل الدولة والقادر على المناورة السياسية
2 ــ أن هناك فراغا سياسيا في تونس وأن الخصوم السياسيين غير قادرين على منافستها فهي تفتقر إلى عوامل الاستمرارية والبقاء مثل الهيكلة والايدولوجيا والتمويل وعليها ان تضعهم بين خيارين اما الاحتواء او التهميش
3 ـــ إن النهضة تتمتع بسند اقليمي ودولي فهي جزء لا يتجزأ من المحور القطري التركي الاخواني الذي سجل حضوره سياسيا وماليا وعسكريا في ليبيا ونسج علاقات متينة مع الجارة الغربية الجزائر كما أنها تحظى بدعم العم سام الذي يعتبرها الإسلام المعتدل لمقاومة الاسلام المتطرف
 ثانيا ــ الهدف
 كل هذه المعطيات تجعلها تعتقد إنها الفاعلية السياسية الوحيدة القادرة على  التحول من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل من" وجدت لأبقى لوجدت لأحكم " ولعلها اعتقدت  أن قيس سعيد لا يشكل قوة منافسة قادرة على الصمود رغم ما يتمتع به من شعبية عفوية  واسعة لكن نقطة الضعف لديه انه لا يتوفر على جهاز حزبي يستده وحتى الاطياف التي تدعمه فليس لها حجم برلماني فاعل لذا يمكن سحب البساط من تحت  أقدامه بتفعيل عدة آليات تتحكم فيها الحركة
ثالثا ـــ الآليات
1 ــ باردو سلطة موازية لسلطة قرطاج
كان الشيخ راشد ــ خلال  الشرعية الأولى والثانية ــ يدير اللعبة السياسية من وراء الستار من مقر النهضة أو حتى من بيته بل إنه لم يكن مرتاحا  لتولي محمد مرسي رئاسة جمهورية مصر العربية  باعتبارها عبئا ثقيلا وكان الأولى ان يتركها لغيره ، هذا ما نقله عنه صافي سعيد، لكن هذه القناعة تتغير بمقدار 180درجة مع انتخابات2019 فيتحول إلى حيوان سياسي بامتياز يبحث عن السلطة بكل الوسائل الأخلاقية وغير الأخلاقية فيتحالف مع حزب"قلب تونس" الذي كان يعتبره رمزا للفساد <<حزب المعقرونة>> فاعتلى كرسي البرلمان وحوّله إلى مقرلسلطة موازية لرئيس الجمهورية وصارت الدولة تدار برأسين:
أ ـ رأس في باردو تسنده أغلبية برلمانية، تتمتع بسلطة واسعة على
 ــ حكومة يرأسها  عصفور نادر طوع البنان  رئيس البرلمان فيمرر ما شاء من قرارات التعيين  والعزل
 ــ المؤسسة التشريعية التي صارت مهمتها الاساسية هي تحجيم دور رئيس الجمهورية تمهيدا لعزله مرورا بتهميشه وشيطنته
 ــ التواصل الدبلوماسي مع الخارج فالشيخ الغنوشي صار طرفا فاعلا في العلاقات الإقليمية والدولية والوفود الخارجية الشقيقة والصديقة التي صارت مقتنعة بأن القرار الوطني صار موزعا بين باردو وقرطاج  بل إن الشيخ راشد هو الماسك بخيوط اللعة السياسية
ب ــ رئيس شرفي  في قرطاج يشرف على الخارجية والدفاع تماشيا مع مقتضيات النظام البرلماني  وما لبث قيس سعيد يؤكد  ان الدولة رئيس واحد وهو القائد للقوات الحاملة للسلاح وهو  المسؤول  عن علاقتها الخارجية  لكن  لا من مستجيب .
2ــ الشرعية البرلمانية             
 البرلمان هو صوت الشعب يعبر بصوت مرتفع عن آلامه وآماله من خلال نخبه السياسية غير أنه تحول إلى حلبة للصراع  لتبادل العنف المادي والمعنوي وانقلبت فيه الصراحة إلى وقاحة ولم تسلم منه حتى المرأة بل سالت فيه الدماء وكان رئيس  الجمهورية اول ضحية لسياسة الشيطنة التي توخاها الحزام الحكومي تمهيدا للتخلص منه . فبعد ست سنوات من التغييب استحضرت الاغلبية البرلمانية المحكمة الدستورية قصد استخدامها كآلية لإبطال فاعلية الرئيس في قراءة النص الدستوري
3 ــ التحالف مع مراكز الثقل الاقتصادية والسياسية
بعد الثورة صار لمراكز الثقل الاقتصادية دور فاعل في الحياة السياسية داخل البرلمان أو عبر الأحزاب التي يمولونها أو حتى وسائل الإعلام التي يمتلكونها لذا حرص الحزام البرلماني على استقطابهم سواء بتجاوز جرائم الاقتصادية أو بإشراكهم في الغنيمة او بالتدخل لدى القضاء الذي تحول جزء منه إلى مرز نفوذ للأسلام السياسي
4 ــ   تمتين نسيح العلاقات مع الدول النافدة.
 بالإضافة إلى الآليات الداخلية فقد حرص الحزام البرلماني على تمتين علاقته الاقليمية والدولية وأن يشعرها بأنه القوة الفاعلة في الدولة ومؤسساتها وهو القادر على حماية مصالحها وما لبث الشيخ راشد يتصل بالقوى الخارجية ويعبر عن موقف تونس دون استشارة رئيس الجهورية أو حتى البرلمان.
تلك هي الإستراتيجية التي ازعم ان النهضة أعدتها لافتكاك السلطة والتي إ  إنهاك الدولة وعجزها  على التعاطي مع الأزمات الحادة والتي حفزت قيس سعيد لتصحيح المسار.فيم يتمثل ذلكّ؟
V ـــ العوامل الحافزة لتصحيح المسار
أولا ــ تراكم الأزمات
تفاقمت في تونس بعد الثورة عدة أزمات كبرى مترابطة ومتصاعدة
 1ــ أزمة اقتصادية اجتماعية خانقة شملت مختلف القطاعات: حيث تعطل الانتاج المحلي والتجأت تونس لاستيراد أولويات عيشها من الخارج فارتعت الأسعار وتقلصت المقدرة الشرائية وأغلقت العديد من الشركات أبوابها وتفاقمت المديونية، فصار المواطن تحت رحمة لولبيات الفساد التي تغلغلت في كل مفاصل الدولة فهم يتحكمون في التوريد والتصدير وفي الإنتاج بل في مسالك التوزيع التجارية فتحولت الحياة إلى جحيم لا يطاق.
2 ــ أزمة صحية تجلت في فشل الدولة ــ وخاصة حكومة مشيشي ــ على الحد من انتشار الوباء حيث لم تعدّ خطة إستراتيجية لكيفية التعامل معه مما جعلها تفقد سيطرتها على الوضع الصحي فلم تُوفر اللقاحات حتى تفشى الوباء ولم تكن البنية التحتية قادرة على استيعاب المصابين وتزايدت الوفيات واحتلت تونس المرتبة الثانية عالميا وهذا ما دفع رئيس الدولة إلى إطلاق صيحات فزع والاستنجاد بالأشقاء والأصدقاء فتوفرت في حيز زمني محدود مما خفّف من إحساس المواطن بالإحباط وكان بداية تضاعف شعبيته وقد تكون شجعته على المبادرة
3 ــ أزمة سياسية
تمثلت في أزمة الثقة التي سادت بين القيادات السياسية وتجلت بوضح في :
أ ـ الحكومة العرجاء
  كانت الحكومة محل تجاذب بين رئيس الجمهورية الذي عيّن مشيشي والحزام البرلماني الذي أسال لعابه واختطفه فصارت لا تملك الإرادة ولا القدرة على الفعل بعد أن اتهم بالغدر فهي أسيرة المخدة الخادعة فتعطلت المشاريع بل عجزت عن التعاطي حتى مع الوباء.
ب ــ المؤسسة التشريعية :
 إن البرلمان الذي كان حلم أجيال وأجيال، تحوّل إلى ميدان فسيح للعنف المادي وتبادل الشتائم والإهانة ولم يسلم من ذلك رئيس الجمهورية والاتحاد العام التونسي للشغل والمرأة. بالإضافة إلى ما هو أسوأ لك فقد وقع توظيفه لتمرير أسوأ المشاريع وآخرها مشروع الاتفاق مع صندوق قطر للتنمية المنتهك للسيادة. وقد شهد الصراع عدة تجاذبات حادة بين الرئيس والأغلبية البرلمانية:
 ـ اعتراض الرئيس على  تمرير المحكمة الدستورية للتغلب علىه في شهر فيفري  2020 بعد ست سنوات  من التغييب المتعمد
ــ اعتراض الرئيس على  تمرير وزراء في الحكومة عليهم شبهات فساد
ــ تقزيم دور الرئيس حيث أزاح مشيشي عدة وزراء محسوبين عليه استجابة لمخدته:وزير الثقافة ،وزير الداخلية وزير الصحة  ...
4 ــ تعطّل الحوار الوطني
ما لبث المجتمع المدني والسياسي يؤكد على ضرورة الإسراع  في التئام الحوار الوطني  قصد الوصول لحلول تخرج البلاد من أزماتها دون أن يكون لها رؤية حول الأطراف التي ستساهم  فأزمة الثقة سائدة لدى الجميع لكنها مسكوت عنها بما في ذلك رئيس الدولة وإن كان أكثر وضوحا فهو ما لبث يؤكد ألا حوار مع الفاسدين دون أن يحدد من هم الفاسدون ،فهو يعتقد أن إسهامهم في الحوار سيشرّع وجودهم كعناصر فاعلة في الحياة السياسية واقترح مشاركة الشباب وهو مقترح ضبابي لم تتحمس له الفعاليات الوطنية . ومن المعروف أن قيس سعيد له موقف نقدي من حوار 2013 الذي أفضى إلى صياغة دستور توافقي قيل <<إنه قُد بصيغة العقود >>  أي أنه أخذ بعين الاعتبار مصالح الأطراف المتعاقدة .
5 ــ خطاب مشفّر استشعاري
 كان رئيس الدولة يستعمل أسلوبين: أسلوب التلميح وأسلوب التصريح
 فعلى مستوى التلميح كان يطلق عبارات مشفرة في شكل  جمل بلاغية مجازية      توحي  بوجود دسائس ومؤامرات تحاك في غرف مظلمة وأنه على دراية بها  وأنه مستعد لمواجهتها و"أن الصواريخ جاهزة على منصاتها للإطلاق "  وقد قرأها الكثير من الإعلاميين على أنها أسلوب بلاغي وإسهال لفظي تعوّد عليه الرئيس ، ثم تحول من التلميح إلى التصريح فأطلق تهديدا  قائلا :"اليوم صبر وغدا أمر" وتحدث عن مخطط يهدف إقصاءه  ولو بالتصفية الجسدية بالتعاون مع أطراف خارجية مؤكدا" أنه يعني ما يقول". كل هذه الإشارات تحيل على أنه متيقظ ويعدّ أمرا.
هذه الأزمات وغيرها أحدثت لدى المواطن الإحساس بالإحباط لانسداد الآفاق.
  ثانيا ــ انسداد الآفاق
إن أخطر ما يصيب الشعوب هو أن يغمرها اليأس أفرادا وجماعات يختار البعض من الشباب الهروب من المعركة فيهاجر أو يرتمي في أحضان الرذيلة أو قد ينتحر وفي أحسن الظروف تستكين للواقع وترضى بالموجود ولا يطمح للمنشود وهذا ما حصل لجيل دولة الاستقلال الذي تلقى ضربات متتالية موجعة من النظام : القوميين 1956 اليسار والنقابيين في الستينات والسبعينات الإسلاميين في الثمانينات وأذكر  أن محمد مزالي لما فشل في إنجاز مشروعه الديمقراطي وفر إلى الخارج ستة 1986 سئل كيف ترى التغيير في تونس بوجود بورقيبة أجاب بكل وضوح هناك احتمالان لا ثالث لهما
1ــ أن يقتنع بورقيبة بالإصلاح
2ــ أن يتوفاه الله
فلم يكن يدور بخُلده أن يظهر ضابط اسمه ابن علي وهذا يعكس ثقافة الياس التي سادت البلاد ليس على المستوى الشعبي فحسب بل على المستوى الحكومي بعد فشل محاولات التغيير السلمية والدموية وأخطر ما حدث هو استبطان ثقافة الغلبة" فالمغلوب هو دائما مولع بالاقتداء بالغالب" حتى في الأساليب اللاأخلاقية التي أستعملها وهي المقايضة مع الخارج والعملقة والتقزيم في الداخل.
هذه الثقافة دعمها ونظر لها مؤرخو السلطان بل شرّعوها وكادت أن تتحول إلى مسلمات تاريخية لولا رحمة من الثورة التي أعادت للجماهير دورها في صنع التاريخ. هذا ما كاد أن يحصل بعد عشر سنوات رغم الأمل الذي ضخمته الثورة في الشباب الذي لم يتجرّع ويلات النظام البورقيبي.
فالإسلام السياسي والثورة المضادة أسسا لتحالف جديد ليتحكّما في الحياة  الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، مما جعل الشعب ييأس من التغيير ، ولم يكن رئيس الجمهورية ــ الذي انتخبه الشعب بكثافة للتغلب على هذا التحالف  ــ  يملك  إلا آليات محدودة سمح بها النظام البرلماني ،وهي  الإشراف  على الدفاع والخارجية  كرمزين للسيادة الوطنية. غير أن قيس سعيد كان يمتلك ثقافة حقوقية واسعة عمقّها من خلال متابعته لمختلف محطات الثورة ومساهمته في أنشطة المجتمع المدني المتعلقة بها. عندما صار رئيسا كان على دراية بكل الفعاليات السياسية فعرف كيف يستفيد من الإشكالات الدستورية الضبابية التي غفل أو تغافل عنها المشرّع وخاصة ما يتعلق بمحاربة الفساد والمحكمة الدستورية.


ملاحظة هامة: الآراء الواردة في المقال لا تلزم الا صاحبها