قراءة متأنية في الخارطة السياسية الجديدة او تداعيات القضية الفلسطينية على الداخل التونسي
الشعب نيوز (أبو إبراهيم) - شهدت شوارع العاصمة وكل المدن التونسية خلال الأيام القليلة الماضية عشرات المسيرات والتظاهرات الاحتجاجية تنديدا بالعدوان الصهيوني وانتصارا للحق الفلسطيني. والتقى الشباب بالكهول كما حضرت المرأة في مسيرات حاشدة وامتزج العلم التونسي بالعلم الفلسطيني حد التماهي.
وراء هذا المشهد العام المتجانس من النضال العام المساند للقضية الفلسطينية، تختفي الكثير من التفاصيل المهمة والحقائق التي تحمل مؤشرات حول الخارطة السياسية الحالية ومسار التغيرات في المستقبل. ورغم وحدة الهدف المعلن من المسيرات والخروج الى الشارع وهو الانتصار للمقاومة تفرقت السبل بالشعارات والهويات السياسية للمحتجين والسائرين على درب نصرة فلسطين. ومع تفرق السبل ظهرت ملامح خارطة سياسية جديدة سيكون لما يحدث هناك في فلسطين دور في اعادة تشكلها
اليسار يراكم ولا يتقدم
عند متابعة المسيرات الاحتجاجية، سنلاحظ ان اليسار في معناه الواسع ( يسار وقوميين وبعث) قد حضر بشكل دائم في مختلف المسيرات التي خرجت بشكل عفوي وانه شارك في صياغة مضامين شعارات بعض المسيرات. ولعل السجل اليساري (سجل الشعارات والمقالات والمواقف) للحركات الاحتجاجية التونسية يمثل مؤشرا على نجاح اليسار التونسي في المراكمة الى حد ما. وبفعل المراكمة والتاثير في سجل الحركة الاجتماعية، تلونت الكثير من المسيرات المتضامنة مع المقاومة بالهوية اليسارية رغم ضعف أداء اليسار عموما.
فاليسار كان حاضرا بما له من سجل نضالي وليس بوصفه ماكينة تعبوية. وتجسد الحضور اليساري الميداني من خلال قياداته ووجوه المعروفة والتاريخية ومن خلال بعض الحساسيات الشبابية التي اختارت التموقع خارج التنظيمات الكلاسيكية او المنظمات ذات الهوية التقدمية الديمقراطية. وقد كانت السمة البارزة لمشاركة اليسار هي الحضور الحزبي الضعيف.
ومقابل ذلك هيمن الحضور الفردي الشخصي أي ان الافراد المنتمين الى اليسار الحلقي (الحلقات الفكرية والسياسية القاعدية) او اليسار دون روابط تنظيمية كانوا أكثر بكثير من التجمعات ذات الطابع الحزبي الصرف. ونتيجة هذا الضعف التنظيمي برزت نقيصة القدرة على التأطير والتأثير في شعارات ومقولات الحركة الاحتجاجية العفوية التي برزت بقوة.
ان هذا الضعف التنظيمي جعل اليسار التونسي قادرا على المراكمة بما له من مقولات نقدية واضحة سريعة التقبل من ناحية، وعاجزا عن التقدم ليتشكل في قوة اجتماعية تقدمية مؤثرة من ناحية أخرى. إضافة الى الميزة الاولى والنقيصة الثانية فان اهم ما يمكن ملاحظته من خلال مشاركة اليسار في الاحتجاجات الشوارعية هو بداية التقاربات خاصة داخل اللجنة الوطنية لدعم المقاومة. وهو ما يفتح افق تحالفات سياسية داخلية جديدة قد تمكن اليسار من إعادة التشكل في اطار قوة اجتماعية. وستنتظر الفترة القادمة بما سيخوضه التونسيون من معارك اجتماعية ضد اوليغارشيا الريع (على معنى المفكرالان توران) والهيمنة الاحتكارية لمراكز النفوذ المالي وضد خيارات حكومية لاتزال غامضة.
ولا يستبعد ان تكون المعركة الاجتماعية اهم اختبار لمدى تعلم اليسار الدرس من الحركة الجماهرية العفوية التي خلقتها مشاعر التونسيين المنتمية دون قيد او شرط الى الحق الفلسطيني.
اليميني يتدارك على خلاف اليسار
مثلت المظاهرات العفوية المساندة للمقاومة والمناهضة للعدوان الصهيوني فرصة مواتية للقوى اليمينة وفي مقدمتها اليمين الديني لتدارك واقعه وتعزيز تواجده الشوارعي. وقد كانت المسيرات الخصوصية ذات الهوية السياسية القريبة من الاسلام السياسي الأكثر تنظيما ووضوحا رغم عدم مشاركة الوجوه القيادية البارزة. وقد بدا التنظيم المحكم للمسيرات لافتا وواضحا سواء تعلق الامر بالتجهيزات ولوجستيك المسيرات والسجل اللغوي الخاص بالإسلام السياسي او من حيث الأهداف والتوجهات والرسائل.
وقد تم اختيار الشعارات بعناية فائقة تجعلها تبدو جامعة ولكنها الم تنجح في إخفاء طابعها السياسي الصرف. فإضافة الى حسن تنظيم المسيرات ذات الهوية الخاصة بالإسلام السياسي، تمكن اليمين الديني في كثير من الأحيان من صبغ المسيرات العفوية بالشعارات السياسية الخاصة به، أي انه تمكن من السطو على جزء من حركة الشارع وهو ما قد يمكن هذا الطرح السياسي المحافظ (الرجعي وفق بعض الاطروحات السياسية) من تدارك جزء من شعبيته المضروبة بسبب سلوكه الانتهازي في الحكم طيلة العشرية السوداء.
والحقيقة ان التدارك قد لا يكون على مستوى تونسي وطني محلي بل على مستوى إقليمي دولي عام. وقد ساهم الدور الواضح الذي يقوم به المحور القطري التركي كوسيط قادر على التوسط لدى المقاومة لإطلاق سراح أسيرتين امريكيتين في تعزيز قدرة الإسلام السياسي في المنطقة على تدارك ادواره وقليلا من انتشاره والتخلص من رواسب تجارب الحكم الفاشلة.
الشباب مفاجأة ولكن..
لا شك ان العنوان الأبرز لكل المسيرات والتحركات الاحتجاجية المناصرة للمقاومة والمدينة للعدوان الصهيوني هو الشباب. وقد بعث الشباب التلمذي والطلابي وجزء غير يسير من العاطلين عن العمل رسالة قوية مفادها انهم حملة قضية. واذا كان احمد فواد نجم قد كتب للشيخ امام "ان لا الكروة نفعت ولا اونطة ولا المناقشة جدل بزنطة ولا الصحافة والصحفجية شاغلين شبابنا عن القضية" فانه من الممكن أيضا إضافة التيكتوك والانستغرام والفايس بوك، الى قائمة الاليات الفاشلة في تسطيح الوعي الشبابي وفي تمييع الوعي بشكل عام.
فنحن إذن اما حالة احتجاج شبابية لها موقف رافض لاغتصاب الحق ومساند للمقاومة. هذا الامر رائع في حد ذاته. وانه لمن دواعي الفخر لكل التونسيين ان يتم تخصيص حيز كامل للحديث عن الشباب ودورهم الفاعل.
التوقف عند المميزات النقائص بدل التحسر على غيابهم.
وفي قراءة أولى لحركة الشباب المحتج، فانه يمكن القول انه مازال وفيا لسجل الحركات الاجتماعية والاحتجاجية التونسية. واتخذت كل المسيرات الشبابية سمات مشتركة. ومن ناحية شكلية، تشابهت "مسارات" التظاهرات الاحتجاجية في كل المدن وتمثلت في الخروج من المعاهد والكليات والتوجه الى مقرات الاتحاد العام التونسي للشغل قصد الالتقاء ثم التحول في مسيرات حاشدة تجوب المدينة وتتوقف عند مقرات السيادة. كما تميزت المسيرات الشبابية بالمشاركة البارزة للفتيات.
اما الميزة الشكلية الثالثة فهي الطابع السلمي لكل المسيرات ما يؤكد ان الاهتمام منصبّ على القضية دون غيرها. وإذا كانت الناحية الشكلية تبعث على الارتياح لوجود جيل جديد بضمائر حية تنبض انحيازا للقضايا العادلة فان المضمون يستوجب التوقف والتأمل.
لا بد من الإشارة الى وجود جهد شبابي مبذول للتعبير عن نفسه كموقف سياسي تقدمي وليس كحالة احتجاجية. وقد برز ذلك من خلال عرض الأفلام في الشوارع والتجمع في إطار احباء الشيخ امام والتأثيث الدائم لشارع الحبيب بورقيبة بمختلف التظاهرات الاحتجاجية. غير ان هذا الجهد لا يمكنه ان يحجب الضعف التنظيمي الذي برز من خلال العجز عن تأطير المسيرات الشبابية التلمذية. ونتيجة لذلك فان الشعارات والمقولات السياسية لعدد كبير من المسيرات الشبابية لم تحمل الشحنة السياسية الكافية.
المجتمع المدني مازال رائدا
لعب المجتمع المدني بقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل دوره التقليدي في رسم البوصلة العامة خاصة وان بيان اتحاد الشغل الذي كتب دون تردد كان واضحا وحاسما في توجيه البوصلة وجهتها الصحية. وقد تتالت اثره مواقف الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان والنقابة الوطنية للصحفيين وعمادة المحامين وغيرها لتؤكد التزامات المجتمع المدني التونسي تجاه فلسطين والمقاومة القضية المركزية.
بعد ذلك تجمع المجتمع المدني التونسي في إطار اللجنة الوطنية لدعم المقامة في فلسطين وانفتح على عدد من المكونات السياسية. ولعل هذا التجمع يمثل الحدث الأبرز في ضفة التقدميين. ومن خلال اللجنة الوطنية تمكن المجتمع المدني من خلال المسيرات المتعددة التي نظمها بشكل معلن ومحدد ومسبق من الانضمام الى حركة الشارع بقوة والمشاركة في صياغة موقف الشارع التونسي شكلا ومضمونا.
ولعب المجتمع المدني بقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل في الجهات الداخلية دورا رائدا في تاطير المسيرات وتنظيمها والحشد لها. وقد اثبتت الاحتجاجات ان المجتمع المدني التونسي مازال رائدا وقادرا على التعبئة والتاطير وعلى توجيه البوصلة نحو الخيارات والمواقف الصحيحة.
الخارطة الجديدة
وبناء على ما سبق فانه يمكن الحديث عن ملامح خارطة سياسية مغايرة لما قبل 07 أكتوبر. وتمكنت قوى مثل جبهة الخلاص والإسلام السياسي من استغلال الحدث لكسر حالة العزلة وهو ما قد يرشحها لاستعادة دور سياسي بارز. وفي المقابل يبقى دور اليسار في المرحلة المقبلة مرتهنا بما أشرنا اليه سابقا من القدرة على التاطير وإصلاح واقعه التنظيمي. ففي حال استمر وضعه التنظيمي بالقصور البادي عليه فان دوره سيكون محدودا.
ان أبرز ما قد يميز الخارطة السياسية الجديدة هو غياب الدور السياسي للعائلة الوسطية (دستوريون وتجمعيون وليبراليون ومحافظون) وقد رأينا ان مسيرات أحد الأحزاب الدستورية يوم 15 أكتوبر كانت معزولة ومعتمدة على الجمهور الحزبي الخاص ولم تنجح في التحول الى مسيرة جماهرية. كما رأينا ان مشاركة الأحزاب الليبرالية في المسيرات كانت محتشمة إضافة الى غموض المواقف في ما يتعلق بالتطبيع وتجريمه. ولذلك فانه من غير المستبعد ان تشهد الفترة المقبلة تراجع دور العائلة الوسطية بمكوناتها الليبرالية والدستورية.
ان الثابت ان السياق العام هو تغيير امزجة ومواقف وتمثلات. سيكون للموقف من القضية الفلسطينية ومن التحرر عموما دور حاسم في قدرة القوى السياسية على الاستقطاب واستعادة الموقع. كما سيكون لعلاقتنا بالغرب تمثلا وادراكا ونقدا تاثيرا كبيرا خاصة امام السقطة الإنسانية الكبرى التي جعلت العواصم الغربية القائدة للنظام العالمي تتواطأ ضد الأطفال الأبرياء وتجيز قتلهم.
ان الديناميكية السياسية التي خلقتها اعتداءات الكيان الصهيوني على غزة سوف يكون لها الأثر الكبير على الخارطة السياسية وسننتظر بعض الوقت لنرى ملامح الخارطة الجديدة وهي خارطة مرتبطة بالقدرات الخاصة لكل فصيل سياسي وخططه وبرنامج عمله واولوياته.