الجزائر: دائرة منع الاضرابات والاحتجاجات تتوسع والبلاد لم تعد في حاجة إلى أحزاب أو نقابات أو مؤسسات إعلامية
الجزائر/ جريدة العرب - تراجعت وتيرة الإضرابات والاحتجاجات العمالية بشكل لافت خلال السنوات الأخيرة بالجزائر، وسط تساؤلات حول الأسباب الحقيقية الكامنة وراء ذلك، بين من يرجعها إلى استقرار الجبهة الاجتماعية، ويستشهد أصحابها بحزمة الزيادات التي أقرتها الحكومة، بإيعاز من الرئيس عبدالمجيد تبون، في سلّم الرواتب والمعاشات والمنح، وبين من يرجعها إلى حالة الغلق السياسي والاجتماعي السائد في البلاد، حيث لا زالت الحكومة تستنجد بالقضاء لإبطال شرعية أيّ احتجاج عمالي.
كان إضراب عمال قطاع البريد نهاية جانفي الماضي، حركة احتجاجية نادرة للجبهة الاجتماعية خلال السنوات الأخيرة، قبل أن تستفرد بها الحكومة وتصنفها في خانة الأعمال غير الشرعية وغير القانونية، بموجب قرار قضائي، بينما أدرجه الرئيس تبون في دائرة المؤامرة التي تستهدف أمن البلاد واستقرارها، واعتبره مبررا للمراجعة التي عرفها قانون العمل النقابي والحق في الإضراب.
ممنوعون من الاضراب
وأخيرا كشفت الجريدة الرسمية، عن محتوى النص المذكور، حيث تم ضم فئات اجتماعية جديدة إلى صفوف الممنوعين من الإضراب، ولم يسلم من هؤلاء حتى أئمة المساجد الذين يعتبرون من الطبقات الهشة في نسيج الوظيفة العمومية، ورغم احتجاجاتهم وتلويحهم في بعض المناسبات بالإضراب، إلا أن المجتمع لم يكن مستعدا لقبول الفكرة وتصور الذهاب إلى المسجد من أجل الصلاة، لكن الإمام يرفض إمامة المصلين بدعوى الإضراب، ثم كيف يتصرف هؤلاء، هل يحضرون إلى المساجد ولا يصلون؟ ثم كيف يوفرون الحد الأدنى من الخدمة؟
باسم السيادة والمصالح الإستراتيجية وضمان الخدمة، أخرجت العديد من الفئات الاجتماعية من دائرة الحق في الإضراب، في تراجع غير مسبوق عن المكاسب الديمقراطية المتهاوية تباعا، وبات من الصعب تنفيذ حركة احتجاجية، خاصة وأن المشرّع أغلق جميع المنافذ أمام المدافعين عن حقوق العمال والمناضلين النقابيين، بتركيزه على ما أسماه بـ”التسوية الودية” بين الفروع النقابية وبين الإدارات الرسمية.
مراجعة شاملة للمشهد السياسي والاجتماعي والإعلامي
هناك اتجاه داخل السلطة، يعتقد أن الدولة تختزل في مؤسسات معينة، وليس كما كان سابقا، أو كما هو معمول به في تصفيف مكوناتها، ولذلك يبدو أنها لم تعد في حاجة إلى أحزاب سياسية أو نقابات عمالية أو تنظيمات غير حكومية أو مؤسسات إعلامية مشاكسة، لقناعة متنامية لدى منظريها بأن صداع الرأس والاختراق يتمّان دائما عبر تلك الأجسام للنيل من استقرار الدولة في هذا المناخ المتوتر.
وتحت مسمّى “أخلقة الحياة السياسية” الذي يمثل واحدا من تعهدات الرئيس تبون الـ54 التي وعد بها أنصاره في حملته الانتخابية، يجري تنفيذ مراجعة شاملة للمشهد السياسي والاجتماعي والإعلامي، وسط قناعة راسخة لدى رموز السلطة، بأن الدولة لا تقوم إلا على مؤسسات معينة ومحدودة، بينما يتوجب تحوير أو غلق المجال أمام تركة الديمقراطية حتى ولو كانت شكلية، لأنها سبب “البلاوي”، بداية من الفساد السياسي والمالي، إلى القابلية للاختراق والتآمر والمناورة وتنفيذ أجندات خارجية.
صدر قانون العمل النقابي والحق في الإضراب، وسيعقبه قانون الجمعيات والأحزاب السياسية، وقانون البلديات والولايات (المحافظات) التي يسيّرها منتخبون تفرزهم الانتخابات المحلية كل خمس سنوات، وتم تمرير قانون الإعلام وينتظر تعديل قانون المحاماة، وبالانتهاء من هذا الزخم، تكون السلطة قد وضعت يدها على النسيج الشرياني الذي يغذي جسم المجتمع بالدماء والهواء.
تراجع المجتمع عن الدفاع عن مكتسباته
وباستثناء المحامين الذين أجبروا الحكومة على سحب مشروع القانون من أجل المراجعة، فإن باقي المشاريع مرت أو مرشحة للمرور بأريحية، في ظل تراجع المجتمع عن الدفاع عن مكتسباته، أو استقالته من الشأن العام، الأمر الذي زاد في تغوّل السلطة لأنها تتوهم أن الصمت هو عنوان استقرار، ولذلك ما فتئت تفرط في تجريد المجتمع من قنوات التعبير عن نفسه.
طرح الخطاب المثير للجدل الذي وجهته سيدة الأعمال سعيد نغزة إلى الرئيس تبون، عبر شبكات التواصل الاجتماعي بعد أن أصبحت القنوات العادية غير كافية لعملية التواصل بين مؤسسات الدولة، مسألة كانت إلى غاية تجاوزها من طرف السلطة الحالية فضاء لتنفيس الاحتقان واحتواء الغضب الاجتماعي، وهو ما كان يعرف باجتماع الثلاثية السنوي، وهو اللقاء الذي يجمع الحكومة والنقابات وأرباب العمل، عشية كل دخول اجتماعي، لدراسة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وفيه يحاول كل طرف تأمين مصالحه أو تقديم تنازلات توافقية.
فالحكومة في العادة تحاول تفادي الإضرابات والاحتجاجات العمالية، والتباكي أمام الشركاء الاجتماعيين على التوازنات المالية والاقتصادية والمصالح الإستراتيجية، من أجل ضمان دخول اجتماعي دون إنفاق أو التنازل بأقل التكاليف، بينما تهدد النقابات وتشهر ورقة الاحتجاجات والأوضاع الاجتماعية، من أجل افتكاك أقصى ما يمكن من مكاسب للطبقة الشغيلة، في حين يناور أرباب العمل من هذا الطرف وذاك لتأمين وتعزيز مصالحهم.
في الغالب كان الحوار الاجتماعي بين أطراف الثلاثية يخرج بحد أدنى من التوافق، قد لا يرضي البعض في هذا الطرف أو ذاك، لكن عادة ما يكون جسرا لمرور آمن للدخول الاجتماعي في البلاد، لكن طاولة الحوار المذكور لم يعد يتردد فيها إلا صوت الحكومة التي تؤدي الدور ونقيضه، فهي الحكومة وهي الشريك الاجتماعي وهي رب العمل، تقرر كيفما شاءت ومتى شاءت.
السلطة ليست مستعدة لسماع صوت غير صوتها
تقليد الثلاثية صار من الماضي، وهو رمز من رموز الفساد وممارسات المافيا المالية والسياسية، بحسب الرد الذي تكفلت به وكالة الأنباء الرسمية على زعيمة تنظيم رجال المال والأعمال، وذلك مؤشر على أن السلطة ليست مستعدة لسماع صوت غير صوتها، وأن الصمت السائد هو دليل على استقرار الجبهة الاجتماعية بفضل سياساتها الراشدة، وعلى رأسها تحييد بؤر الصداع ومنافذ الاختراق والأجندات المغرضة.
الآن باسم أخلقة الحياة العامة يجري تطويع قنوات المجتمع التقليدية، وترويض مؤسساته الطبيعية التي يمارس فيها حقه السياسي والاجتماعي، وتدعمت المقاربة باستقرار للجبهة الاجتماعية وتراجع كبير لوتيرة الاحتجاجات والإضرابات العمالية، لكن أن تغلق فضاء أو قناة تعبير، أخطر من أن تتركها مفتوحة، ففي الأولى لا تسمع صوتا مزعجا، لكنه يغيب عنك معرفة ما يجري بداخلها، أمّا في الثانية فتسمع وتعلم وتتصرف كما يجب، بدل أن تفاجأ كما تفاجأت منظومة بوتفليقة في فيفري 2019.