قراءة في حركة 25 جويلية التصحيحية (6/6): إنعاش الدولة بدماء جديدة تعيد الامل للمواطن
بقلم سالم الحداد باحث ومؤرخ
في هذه المرحلة تبدأ عملية إنعاش الجسم المنهك حتى يستعيد عافيته وحيويته فكان لزاما على الدولة وعلى الفعاليات الوطنية ان تضخّ فيه دما جديدا يعيد الامل للمواطن في مستقبل أفضل للوطن تتولاها حكومة مستقرة تنكبّ على المشاغل اليومية الاقتصادية والاجتماعية التعليمية والصحية المعطلة ومتابعة الملفات الكبرى بمعية رئاسة الدولة.
في هذه المرحلة ،على رئيس الدولة أن يختار رئيس حكومة يكون مستوعبا لطبيعة المرحلة الانتقالية وإشكالاتها الصعبة وهو ليس امرا ميسورا فهي تتطلب مواصفات لا تتوفر دائما ومنها:
1 ــ التزام نضالي بمحاربة الفساد والدويلات التي تسعى لتفكيك الدولة
2 ــ خبرة واسعة بالوضع الاقتصادي والاجتماعي وانتظارات المعطلين والشغالين ومطالب المنظمة الشغيلة وعلاقات تونس بالمؤسسات الدولية واملاءاتها
3 ــ قدرة على التأقلم مع رئيس الدولة الذي صار مرجعية الحكومة وهو المسؤول المباشر على النجاح أو الفشل أمام الشعب فهو أقرب إلى الوزير الأول
ولا يقل الحيز الزمني لهذه المرحلة عن سنة تستعيد فيها ثقة الشعب والمؤسسات المالية وتضع أسس مرحلة الإقلاع
المرحلة الثالثة: إعادة صياغة الدولة الديمقراطية
وهي مهمة صعبة لا ينجزها فرد مهما كانت عبقريته ولا مسؤول سياسي مهما كان موقعه وهذا يتطلب مشاركة واسعة من الفعاليات الوطنية التي تعيش يوميا تحت جمر الأحداث ولا يمكن تغييبها عن تصحيح المسار. لذا على الرئاسة أن تسهم المجتمع المدني والسياسي في الإعداد والانجاز والمتابعة. ستكون المرحلة مجالا للتجاذب بين أطروحتين ونظامين:
أولا ــ الأطروحتان: الديمقراطية الحزبية أم الديمقراطية المباشرة
1ـــ أطروحة الديمقراطية المباشرة
لعلّ البعض مازال يتذكّر كيف برّر قيس سعيد ترشحه للرئاسة في إطار النظام البرلماني الذي لم يكن يؤمن بنجاعته فاستشهد بالآية القرآنية << كُتب عليكم القتال وهو كره لكم>> فالنفس البشرية تكره الموت لكن الإنسان يضطر للدفاع عن وجوده المادي والمعنوي، فقد نزّل تحمّل أول مسؤولية سياسية في الدولة منزلة الجهاد فهل كان يتصور أهمية الصعوبات التي سيتعرض لها وقد تؤول به إلى الموت؟
يمكن أن نتبين بعض ملامح هذه الجمهورية من خلال التصريح الذي أدلي به لصحيفة الشارع المغاربي عند ترشحه للانتخابات الرئاسية حيث ذكّر بالمشروع الذي طرحه منذ سنة 2011 ثم اعاد طرحه سنة 2013 تحت عنوان” من اجل تأسيس جديد” فقد<<اقترح انشاء مجالس محلية في كل معتمدية وعددها 265 بحساب نائب في كل معتمدية ويتم الاقتراع بالأغلبية على الافراد>>. ومن المجالس المحلية تتشكل المجالس الجهوية فالمجلس الوطني وبالتالي ليس هناك انتخابات تشريعية كما انه لا يعتقد في جدوى الأحزاب فهي وليدة القرن التاسع عشر وانتهت مع القرن العشرين فصارت << تبيع الاوهام >> بوعودها التي لا تتحقق وقد زادته التجربة قناعة بعبثيتها فقد انتهى دورها التاريخي لكنه لا يحلها فهي ستندثر بانتهاء مهمتها
2ـــ أطروحة الديمقراطية الحزبية
يطرح أنصار الديمقراطية غير المباشرة شعار" لا ديمقراطية دون تعددية حزبية "
وقد ظهر بعد الثورة ثلاثة أطياف من الأحزاب
أــ الطيف الدستوري : ارتبط وجوده بالزعيم فالحزب ينتعش كلما تألق نجم الزعيم ويتقلص بل يضمحل كلما أفل نجمه ،غاية أنصاره لا تتجاوز التموقع والغنيمة وهو مستعدون للتحوّر بحثا عن مصالحهم . وهو يعيش فراغا فكريا وتسوده امية سياسية لذا كان فوزه قائما على مخزونه التاريخي النفعي وعلى ما يقدمه من رشوة مالية للناخب. هذا ما عرفه الدستور مع بورقيبة، والتجمع مع ابن علي والنداء مع الباجي. وقد شكل هذا الحزب ــ بكل سلالاته بما في ذلك الدستوري الحر ــ الثورة المضادة التي تسعى لجذب تونس إلى مربع الاستبداد والفساد.
ب ــ طيف الإسلام السياسي
يستقي فكره من حركة الإخوان المسلمين وتشترك كل السلالات في الإعلان على ان الإسلام هو مرجعيتها وتتمايز النهضة بالقول على انها حزب مدني بخلفية إسلامية لكن الممارسة السياسية الميدانيةــ طوال عقد من الثورة ــ أكدت أن الإسلام بحمولته القيمية ما هو وسيلة وظيفية لاستقطاب الجماهير والتلاعب على النزعة المحافظة للشعب التونسي . والفرق بينه وبين العائلة الدستورية هو فرق بالدرجة وليس بالنوع فكلاهما يسعى للتموقع والغنيمة. حاربا معا رئيس الجمهورية وعملا على عزله وهو السلطة الوحيدة القادرة على التصدي لهما
ج ــ اليسار بكل أطيافه
وفرت عملية اغتيال الشهيدين أول فرصة تاريخية لليسار لكي يتوحّد ويشكّل الجبهة الشعبية ويسجّل حضوره بالبرلمان ب15 مقعدا لكنه ارتكب خطأ استراتيجيا بالتحالف مع الثورة المضادة وهذا ما اربكه داخليا فانفرط عقده واستطاعت حركة الشعب ــ التي كانت تقف على نفس المسافة من الثورة المضادة والاسلام السياسي ــ أن تقتحم المؤسسة التشريعية وأن تزاحمهما وان تنهكهما إلا أنها لم تستطع أن تغيّر موازين القوى وكانت في ذلك تتقاطع مع رئيس الجمهورية في التصدي لتغوّلهما
هذه الأطياف الثلاثة رغم ما يباعد بينها فإنها ستتمسك بأطروحة الديمقراطية غير المباشرة وستكون في صدام مع أطروحة الديمقراطية المباشرة التي يدعو لها قيس سعيد. وفي تقديري لا يمكن اعتبار فشل التحالف بين الاسلام السياسي والثورة المضادة ــ التي حكم قبل الثورة ومعها ــ معيارا لعبثية المنظومة الحزبية. فقد تربّت جميعا على الإقصاء في الحكم أو المعارضة ولم تعرف قيادتها معنى التعايش ولم تمارسه حتى ضمن هياكلها، كما لا يمكن ترك الجماهير مهملة فريسة للمزايدة فالحزب مدرسة سياسية يُثقّف الجماهير ويؤطرها. لكن يجب فرض الانضباط على الاحزاب وعلى الجمعيات من حيث التمويل والارتباطات حتى لا تتحول إلى طوابير تابعة تعمل لفائدة قوى نافذة خارج الحدود.
ثانيا ــ النظامان: هل هو نظام برلماني أم نظام رئاسي؟
ذاك هو المحور الأساسي للاستشارة الشعبية الواسعة، فهل سيختار الشعب النظام البرلماني الذي يعطي السلطة للأغلبية البرلمانية لتحكم أم سيختار نظاما رئاسيا يكون مرجعيته رئيس الجمهورية ويوحّد رأيْ السلطة التنفيذية ؟
ثالثا ــ الاستفتاء
لا يمكن إجراء الاستفتاء قبل ان يستعيد المواطن ثقته بالدولة وبالثورة وهذه رهينة توفر ثلاثة معطيات
1 ـــ انتزاع مخالب الثورة المضادة والاسلام السياسي اللذين لوثا الحياة السياسية بالمال الفاسد والاعلام الضال المضلل
2 ــ انتعاشة اقتصادية تضخ فيه أملا جديدا للعمل والاطمئنان على المستقبل
3ـــ استشارة شعبية واسعة تتخللها تجاذبات فكرية وسياسية حول :
أ ـــ أطروحتين: الديمقراطية المباشرة والديمقراطية الحزبية
ب ـــ نظامين: النظام البرلماني والنظام الرئاسي
ج ــ قوانين الأحزاب من حيث مصادر التمويل ومدى التزامها بقيم الثورة والديمقراطية فلا يمكن ان تصبح تونس مرعى خصبا لأصحاب الثروات في الداخل والخارج ولا مجالا لمن يأخذه الحنين لعهود للحزب الواحد والزعيم الأوحد
رابعا ــ الانتخابات :حتى تكون نزيهة
أفرز نظام الانتخابات في تونس عدة اشكالات تتعلق بالمترشح والناخب ،العتبة والتناصف. غير إن أهمها هي
1 ـــ إشكالية الهيئة المشرفة على الانتخابات : من ينتخبها؟ ومن يحاسبها؟
2 ـــ إشكالية العملية الانتخابية: هل يكون الانتخاب على الأفراد أم على القائمات الحزبية. وهو إشكال صعب بالنسبة للناخب والمنتخب.
أــ عملية الانتخاب على الإفراد: تقوم على العلاقة المباشرة وتوفر امكانية تحميل المسؤولية للنائب ومتابعته لكنه يعمل منفردا معزولا
ب ــ الانتحاب على القائمات الحزبية تجبر الناخب على اختيار عناصر لا يعرفهم وتجعل النائب اسيرا لحزبه ويصعب متابعته وتحميله المسؤولية لكنه يعمل ضمن إطار جماعي وروية موحدة
XII ــ دروس من أيام الجمر
بقطع النطر عم نوعية النظام الذي سيحتار الشعب فإن على الجمهورية الثالثة أن تؤكد على أمرين
أولا ــ النظام السياسي للجمهورية الثالثة
لست مؤهلا لتقديم نصائح لأصحاب القرار الذين سيسهرون على إعداد خارطة لتصحيح المسار لكني سأغامر بتقديم بعض الملاحظات التي استخلصتها من تجارب الخطأ والصواب التي مر بها الشعب التونسي طيلة 65 سنة ، 55 سنة من الاستبداد الفساد و10 سنوات من انهيار الدولة نتيجة لسياسة التموقع والغنيمة
1ــ لا سبيل لإعادة العمل بدستور 1959 الذي مكّن السلطة التنفيذية من التغوّل على حساب السلطة التشريعية والسلطة القضائية و قُدّ على مقاس بورقيبة الذي عملق نفسه وقزّم الشعب وكل الفعاليات والمؤسسات فتماهى مع الدولة حسب مقولة لويس الرابع عشر "انا الدولة والدولة هي انا" هذا التغوّل كان السبب في إسالة الدماء بغزارة في عهد بورقيبة وفي تفشى ظاهرة الفساد في عهد خلفه ابن علي.هذا النظام صادر إرادة المجتمع فكمّم الأفواه وفرض على الشعب امية سياسية فأوقع تونس في منظومة الاستبداد والفساد طيلة 55سنة .ومهما كان قصور المجالس التشريعية وتقصيرها بعد الثورة لا يمكن مقارنتها بمجالس فترة الاستبداد فهي إفراز لخيارات السلطة التنفيذية المتغولة .
2 ــ لا سبيل لإعادة العمل بدستور 2014 الذي قلص سلطة الدولة فتحولت الحرية إلى فوضى ، سمحت بالإفلات من العقاب خارج المجلس التشريعي وداخله ومكن المافيات و اللوبيات من التسلل إلى الأحزاب ووسائل الإعلام والسيطرة على مؤسسات الدولة بما في ذلك البرلمان والمؤسسات المنبثقة عنه
فهذا النظام أثبت فشله بعد أن انحرف بالثورة عندما سقط في المقايضات والتحالفات المغشوشة قصد التموقع وجني الغنيمة طيلة عشر سنوات من الثورة على حساب انتظارات الشعب الاجتماعية والسياسية. إن تونس الثورة في حاجة أكيدة إلى دستور
أ ــ يقيم معادلة بين الحرية والأمن
بــ يرسي توازنا السلطة التنفيذية والتشريعية
ج ــ يضمن استقلالية القضاء بعيدا عن إملاءات السلطة او تأثيرات الأحزاب
د ــ يحمي الثورة التي ما زال عودها طريا ويحول دون عودة الثورة المضادة
ومهما كانت نوعية النظام الذي يقع الاختيار عليه فإن المؤسسة التشريعية ضرورية لبلورة المشاريع الحكومية ونقدها وتوجيهها
ثانيا ــ دور الدولة الاجتماعي والاقتصادي في بناء الجمهورية الثالثة
مرت تونس بثلاث مراحل في بناء الدولة
1 ــ دولة الرعية : هي الخمس سنوات الأولى من الاستقلال التي سيرها بورقيبة
2 ــ الدولة الراعية:هي مرحلة التعاضد في الستينات وهي التي وضعت الأسس الضرورية لبناء اقتصاد وطني قادر على المنافسة رغم ما فرضه من اكراهات
3 ــ الدولة الريعية : هي التي بدأت إرهاصاتها مع السبعينات واستمرت مع العولمة فنظام التحول واستفحل مع الثورة
وكانت الدولة الراعية أكثرها عطاء رغم نقائصها فقد أكدت أهمية دور الدولة في التنمية خاصة للشرائح المسحوقة والمناطق المهمشة والافتراب من العدالة الاجتماعية ولا يمكن التعويل على الرأسمالية بكل مكوناتها فهمها أن تربح أكثر ما يمكن في أقل وقت ممكن وبأقل التكاليف الممكنة لذا لابد من إعادة دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي والمحافظة على القطاع العام والمؤسسات العمومية في إطار العودة للقطاعات الثلاث.
قد تكون الخارطة التي أعدتها الهيئة الإدارية للاتحاد العام التونسي للشغل سارت في هذا الاتجاه ،لكنها جمدتها ريثما تستقر الأوضاع ويتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود ويقع تعيين الحكومة الجديدة لأن الدولة يصدد اتخاذ قرارت سياسية استثنائية .
ثالثا ــ الرهان المستقبلي: بناء المواطن
كانت القيادات السياسية تراهن على حماية السلطة وضمان الاستقرار للنظام فلم تظفر بأي منهما فليكن رهاننا المستقبلي على بناء المواطن الحر، المريد، الفاعل الواعي، الذي يضمن معادلة التوازن بين الحرية والأمن للمحافظة على الوطن
سالم الحداد/ زرمدين/ المنستير/ 23أوت 2021
الاراء الواردة في المقال لا تلزم الا صاحبها.