11 سنة على استشهاده شكري بلعيد حيّ لا يموت
بقلم الاستاذ الطايع الهراغي
على جداريّة الزّمن ينحت الشّهداء أسماءهم .شكري بلعيد،ما صلبوه وما قتلوه. وإنّما صريعا للعشق أراد أن يكون.فكان القتيلَ، وكان الشّاهدَ وصار الشّهيدَ. مجنون بحبّ البلد . امتطى صهوة الزّمن المستحيل لتظلّ البلاد مفتوحة للفرح الآتي، وتظلّ تغنّي. مهووس حدّ الكفر بتونس أخرى حالمة، وردة تُزفّ إلى عاشق ابتلي بحبّ لا يريد منه شفاء. بعشق الحياة متيّمة،وثّابة كغزال،تدرك الفروق بين من أقبل عليها بكثير من الحنوّ ومن أدبر عنها بكثير من العتوّ.
افتحوا قبره.
وحاذروا أن توقظوه من غفوة حالمة. دعوا للهذيان مكانا.فهذيان الشّهداء مذهل كخطرفة العاشق،كنسيم الحياة. أغنية شاردة ولا مكان فيه للنّشاز.هم موغلون في نبض النّصّ، إذا مرقوا عن تعاليمه ولزموا ما لا يلزم فإلى نصّ أبدع. هي بعض لحظة ويغمر النّور المكان. تنجلي العتمة وتنكسر الظّلمة فتقفز الفكرة بيضاء ناصعة كما الحقيقة. تثبّتوا جيّدا وانظروا بالبصيرة لا بالبصر. فماذا تراكم واجدين؟ ستجدون شكري يتوسّد قلما . يحتضن كتابا. يعلو محيّاه فرح شارد شرود تكسوه مسحة حزن حيرى تضفي عليه كثيرا من البهاء الأّخّاذ.أنصتوا إلى نبض القلب تهتدوا إلى وخز الجرح، فتّشوا الجرح تعثروا على الحلم. تأمّلوا بهاء الحلم تفهموا معنى الوطن. ذاك زاده وزوّاده به ينحت عقلا للتّدبير(لا عقلا للتّفجير): وردة وقرطاس،عليه خطّ الزّمان تفاصيل تضاريس المدينة. تنبّهك إلى أنّ الرّجل ماثل فينا ذاكرة وقّادة، حلمًا يغالب النّسيان.ولا يرتاح على راحة أيّ يقين باهت. يتقن افتعال لعبة التّناسى ليضمن أنّه لن ينسى.
أسألوه يُجبْكم.
لا تنتظروا منه انتظاما في ما يتدفّق من الأفكار.فسبيله أن يتقيّأ الحقيقة دفعة واحدة كمن ينوء بحمل ثقيل: دعوا الشّهيد وشأنه. فهو أولى بترتيب أموره. وهاتوا نحصِ أفعال الموتى بالمجان. لم يبق بعد أن استكمل الاغتيال طابعه الاحتفاليّ مكان لنصف الحقيقة. كلّ الشكر للأعداء. استعجلوا قتل الفرح فأراحونا من عناء التّدبير ومشقّة التّفكير. فلا صلح ولا مصالحة. نحن خوارج هذا الزّمان.
دونكم الجرح وما يقول: دمي يا دمي لا تصالح . وليقولوا ما شاؤوا عن فنون التّسامح. مادام في القلب نبض يطلب ثأرا فليس على الشّهداء أن يبيعوا دمي. لا حاجة لي بالمراثي. وليتبرّعوا بها للبعض من الأحياء. فهم بها أولى. من راودته نفسه عن نفسه فما استطاع لشهواته صدّا ولا للإغراءات مقاومة، تراءى له الوهم حلما فطلّق القناعة ولم يرتعب من التّاريخ ليس منّي. قد أكون عرفته يوما ما(قد). ولكنّي أجزم أن لا مكان له في دفاتر أيّامي. مرعب هو حضورك يا صاحبي. وأكثر منه رعبا، الحديث عنك وعن الشّهداء بصيغة الماضي. الشّهداء لا يرحلون. وكيف لهم أن يرحلوا، والشّهيدّ ساعة يؤبّن رفيقه الشّهيد لحظةً قبل الغيب الأخير يوضي توأم روحه أن لا شأن لهم بعالم الأموات، وبالأحياء يوصيه خيرا؟؟. ويظلّ يجزم في شدوٍ هو إلى التّرتيل أقرب بأنّ يوم الانبعاث مهما طال واستطال وتوزّعت به الدّروب جدّ قريب ما حنّت إليه القلوب، و"طمحت للحياة النّفوس".
مدينة باتت به لصيقة
في لحظة ما يكون الفرح على بعد ميل. دونكم البرهان .تثبّتوا مليّا، فمثله لا يبرح مدينة منذ عرفها هام بها فباتت به لصيقة. هو فقط في سفرة خاطفة مع رفاق ممّن استطابوا الرّحلة وما بدّلوا تبديلا. يلاحق ذات الحلم. ذاك الحلم الذي لبسه صبيحة الأربعاء 06 فيفري 2013. التحف به في لحظة هي الدّهر لوعةً ورعبا كليل أليل، لحظة اغتياله وهو يترنّم بتلاوة بيانه الأوّل وليس الأخير: أبدا. ما كان في وسعنا أن نرحل. اطمئنّوا. ليس من عادتنا أن نرحل ونحن لم ننته بعدُ من ترتيب تفاصيل احتفاليّة الرّحيل. لن نغادر المسرح قبل أن نؤذّن في الكنائس والمآذن وفي بعض الأديرة وفي جلّ المقاهي والحارات أنْ حيّى على الثّورة، حيّى عليها صلاة خالصة من كلّ شائبة، وهَجًـا يتلألأ،غضبا ساطعا، شدوًا جميلا. حيّى عليها عشرا وألفا. ولتكن الصّلاة فجرا أبديّا. لي رجاء يتيم أن لا تبرحوا أماكنكم، فمكان لا تحميه أنّى له أن يحميك؟؟ وعشق لا تفنى فيه من أين له أن يفنى فيك؟؟. نحن عود على بدء عائدون. ابتسامة في وجه العدم. .فرحة شاردة شرود.نغم على نغم. حلم منفلت من دبر التّاريخ، يرى فيه الكثيرون كلّ الخطإ ونصرّ على أنّه كلّ الصّواب .
الذّاكرة؟؟ لعنة الإنسان المشتهاة. حيلته ومتعته في التّحايل على شبح الفناء عندما يعتنق فكرة ويهيم بها فيصبح هو الفكرة. ويظلّ عزاؤه أنّ الفكرة تجفل من الموت ولا تعرف إلى القبر طريقا، يموت صاحبها وهي باقية لا تموت. ترثيه فتحميه فلا تتسلّل إليه آفة النّسيان.
البعض حلّت عليه نقمة التّاريخ
من تصالحوا مع قلّة الحياء وأبرموا مع العفونة زواج متعة، من سكنهم العِيّ وخانتهم الحيلة وفتنهم التّوهّم تخيّلوا في ساعة زهو متسلّل من عقال الغفلة وعقم التّخيّل وبلادة الذّوق أنّهم قد أفلحوا في تغييبه، البعض منهم حلّت عليه نقمة التّاريخ فشيّعته بوابل من أشنع اللّعنات وأرذلها وكسته ثوب الذّلّ ودثّرته بأكاليل العار والصَّـغار، والبعض الآخر اختار صاغرا ذليلا ذلولا أن يكون في عداد الأحياء الأموات. وظلّ بلعيد وسيظلّ - كأيّ شهيد سعيد- يعود بين اللّحظة والحين. أغنيّة للفرح،لا تطرق الأحزان أبدا ساحتها ما ظلّ به شوق إلى الحياة عجيب، وما ظلّ بها إلى الحياة توق جدّ غريب.ويبقى من حقّ المغفّلين أن يعدّوه شوقا مسترابا. عشق للحياة صوفيّ.لحن غجري يحتلّ الأمكنة ويخترق الأزمنة ويسافر في عمق الزّمن ليطرد ما سواه من العفونة والعفن. لا تلوموه. فشأنه شأن كلّ شهيد-إذا رام أن يكون سعيدا- لا وقت له للتّعوّد على مواويل المآتم ولا ركيك المراثي. إذا حلا لكم ذات يوم أن تلعنوه سرّا وعلانيّة، فلا تكلّفوا أنفسكم عناء البحث عن أسباب. وسيكون بذلك منتشيا. فقط ليكن عقابكم له على ذلك الحبّ الجارف للاحتفال بما بدا لكم حلما مجنّحا .
عليك لعنة كلّ عشّاق الحياة يا شكري.كم كنت باذخا في ترصّد الأحلام والكفر بالأوهام. ما أغراك يقين باهت.وما هزّك طرب لجوج.
شكري يذّاكر،يتلذّذ ترصيف الأحلام. يريد أن يقبض على الشّارد من اللّحظة قبل أن تفلت ليمنح الممكن فرصة أخرى. ما كان يوما باللّغو من الكلام مولعا. لم يكن معنيّا بانتظار تنزيل حكيم ممّن انتصب في آخر الزمان داعية لا يُشقّ له غبار،إمام إفتاء يقسم أنّه يحيى الأوهام وهي رميم .
حرب مع تجّار وافدين من الكهوف
شكري- أسوة بالشّهداء- ليس معنيّا باستعجال الموت. من حقّه أن يهذي هذيانا جميلا: لم أكن ولست بالحياة ضنينا.متيقّنا كنتُ –ولا زلـتُ- أنّي مثقل بالأحلام.سأوغل في حراسة بوّابات المدينة حتّى لا يذبل صباحها ويئنّ من الألم فجرها فتتسرّب إليها جحافل زوّار اللّيل في جنح اللّيل المظلم .من حقّي أن لا أكون في حرب مع الله. كنت في حرب مع تجّار وافدين من الكهوف المظلمة، من الأزمة الغابرة، من الكتب القديمة،يخادعون الله بآيات هي آياته. باسمه يروّعون الثكالى وينتقمون من عبث الطفولة وبراءتها .لم أكن معنيّا بلون الرّثاء الذي يليق بحكومات بعضها لا يستحقّ منّا حتّى شهادة الوفاة. كنّا نطارد بسمة متعبة وكانوا يحتفلون بانتصاب المقصلة. آخر الهذيان: الشّهداء يخاتلون الموت، يتماوتون ولا يموتون . ينال منهم أعداؤهم لحظة يتمكّنون منهم ويغتالهم من ينهش جلدهم ويتجرّأ عليهم بتطويع نضالاتهم لتصبح أصلا تجاريّا يُتّكأ عليه لتشريع أرذل الشّناعات. وآخر الكلام. سلام عليّ، سلام إليّ. ولا سلام على من ارتضى لنفسه الذّلّ والهوان.
سلامي إلى الرّفاق.