دولي

بعد صدمة البرلمان الأوروبي : هل ينقذ الدور الثاني للانتخابات الجمهورية الخامسة الفرنسيّة ؟

الشعب نيوز / خليفة شوشان - إلى حدود بداية التسعينات من القرن الماضي ،  كان اليمين المتطرّف مجرّد ظاهرة سياسيّة على هامش المشهد الحزبي الأوروبي تجد لها فرصة لنفث سردياتها العنصريّة ونزعاتها الهوية المنغلقة والشعبوية تزامنا مع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وبعض الحوادث المعزولة الإرهابية وخلال الاستحقاقات الانتخابية لكنها ما تفتأ أن تتوارى نسيا منسيّا، قبل أن تتحوّل خلال العقد الأخير مع تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وتتالي العمليات الإرهابيّة وتفاقم أزمة اللجوء والهجرة غير النظامية وتراجع دور الدول الاوروبية الاجتماعي ونفوذها وسطوتها الخارجيّة إلى حقيقة واقعية ورقم صعب يحظى بحاضنة شعبيّة ولا يمكن الاستهانة به وبحضور إعلامي بارز.

 ومع التصدعات الكبرى التي ضربت النظام العالمي الجديد وتراجع مشروع العولمة الليبيرالية وانتكاسة مشروع الاتحاد الأوروبي وصدمة خروج بريطانيا منه ، تمكنت قوى اليمين المتطرف من التحوّل إلى أحزاب وازنة وإلى طرف ثابت في المعادلات الانتخابيّة الأوروبية، سواء في البرلمان الأوروبي أو داخل دول الاتحاد.

تلك مسيرة اليمين «المتشدد» أو «المتطرف» الأوروبي كما يحلو لخصومه السياسيين وصفه وكيف تحوّل من الهامش الى دوائر التأثير قبل أن يتحول في السنوات الأخيرة إلى فاعل سياسي رئيسي يتزايد تأثيره وفعله في توجيه وصياغة الرأي العام الأوروبي عموما والداخلي على وجه الخصوص، وفي إعادة ترتيب خرائط النفوذ والهيمنة الجيوسياسية في أوروبا وفي العالم. 

* وسط حالة الإنكار والتعالي اليمين «المتطرّف» يجتاح أوروبا

حالة الانكار والتعالي التي تعاملت بها النخب والقوى السياسية الكبرى الاوروبية اليسارية او الديمقراطية والمحافظة أو المسماة «يمين الوسط» والجمهوريون مع صعود تيار اليمين المتطرف بكل فروعه طيلة العقود الأخيرة واعتبارها مجرد ظاهرة هامشيّة لم تقدر على كبح صعوده وانتشاره واكتساح خطابه الأوساط الشعبيّة والمدن الداخليّة.

وتمدد داخل الطبقة الوسطى اولى ضحايا الأزمة الاقتصاديّة ونهاية طفرة «دولة الرفاه»، وتحول أحزاب اليمين بكل منابتها الاجتماعية ومرجعياتها الايديولوجية وتمظهراتها الشعبويّة خلال الدورات الانتخابية البرلمانية الأوروبيّة الأخيرة 2014، 2019 وبالأخص 2024 الى حقيقة انتخابية ثابتة فرضت نفسها على الجميع وحُقّقت اختراقات غير مسبوقة داخل البرلمان الأوروبي وحصدت مراكز متقدمة في كلّ من النمسا وإيطاليا وإسبانيا والمجر وبولندا وهولندا، وبالأخصّ في ألمانيا حيث مُني التحالف الحاكم الألماني بهزيمة قاسية أمام الحزب اليميني المتطرف «البديل من أجل ألمانيا» الذي جاء الثاني في الترتيب بارتفاع 11 % عن النتائج التي حققها في انتخابات البرلمان الأوروبي 2019.
 

* فرنسا من صدمة البرلمان الأوروبي إلى كابوس الجمعية العمومية
في فرنسا تبدو ارتدادات صدمة الانتخابات البرلمانية الأوروبية الأكبر والأشدّ وقعا، سواء على المستوى الرمزي بكسرها نهائيا سردية بلد الأنوار والتسامح والاختلاف والتعايش، أو على المستوى السياسي بوضعها الفرنسيين في عين الإعصار أو لنقل في لحظة تمفصل وجودي حادة، جعلهم يستفيقون على حقيقة انتخابيّة مفادها أن ثلث الناخبين الفرنسيين  قرابة 31.37 % من الناخبين  اختاروا في انتخابات البرلمان الاوروبي منح ثقتهم «للتجمع الوطني» الحزب اليميني المتطرف الذي طالما اعتبروه ظاهرة سياسية عابرة. صدمة بقوة زلزال دفع الرئيس الفرنسي «ايمانويل ماكرون» الذي تعرض حزبه «النهضة» إلى هزيمة قاسية وإذلال سياسي غير مسبوق الى إعلان حل البرلمان الفرنسي والدعوة الى إجراء انتخابات مبكرة بكل ما فيها من رهانات محفوفة بالمخاطر.

انتخابات أرادها حبل نجاة وخطّة استباقيّة استغلّ فيها ما بدا له حالة امتعاض شعبي عامة من صعود اليمين المتطرف ليخلق صدمة ايجابية قد تنجح في تعزيز أركان حكمه في الجمعية العمومية التي بات التعايش السياسي فيها مستحيلا. لكن جرت الرياح بما لا تشتهي سفن ماكرون وتحولت الصدمة إلى كابوس، فلم تتأخر الانتخابات في البوح بنتائجها في دورها الأول والتي سفّهت كل آمال «ماكرون» وأسقطت كل انتظاراته، وأدخلت في الجمهورية الفرنسية في حالة انقسام سياسي غير مسبوقة قد تتطوّر الى انقسام اجتماعي في ظلّ الاستقطابات الحدية بين أقصى اليمين المتطرّف واقصى اليسار الراديكالي.

* فشل خطّة ماكرون في الدفع نحو الاستقطاب الثنائي

أسفرت نتائج الانتخابات التشريعية الفرنسية 2024 في دورتها الأولى عن تصدر «التجمع الوطني» الانتخابات، إذ حصد ولأول مرة في تاريخ مشاركاته الانتخابية نسبة 33 % من الأصوات، تليه الجبهة الشعبية الجديدة في المرتبة الثانية بنسبة 28 % من الأصوات، ليتذيل حزب ماكرون القائمة متراجعا إلى نسبة 20 % من الأصوات بعد سبع سنوات من وجوده على رأس السلطة.

 كانت خطة ماكرون بحلّ الجمعية العمومية تعتمد على الدفع بالاستقطاب الثنائي إلى أقصاه بين حزبه والتجمع الوطني مراهنا في ذلك على انقسام اليسار وتشتته ومن تخويف الفرنسيين من صعود اليمين المتطرف، لكنه أساء قراءة المشهد السياسي واستهان بالمزاج العام للناخب الفرنسي الذي خاب ظنه في سياساته طيلة عهدته الرئاسيّة فخسر بذلك أو يكاد الرهان، وألحق بحزبه هزيمة ثقيلة، ومنح خصميه اللّدودين الذين وسمهما بالتطرّف فرصة لتعزيز أقدامهم السياسية في الجمعية العمومية.

* التوافق على تكتيك الانسحابات الانتخابية لعدم تشتيت الأصوات

إلى حدود السادسة مساءا من يوم  الثلاثاء 02 جويلية 2024 الموعد النهائي لتقديم طلب السحب الخاص للترشحات، تمّ تسجيل طلب انسحاب قرابة 214 مرشحا من منافسات الدور الثاني للانتخابات التشريعية الفرنسية.

انسحابات شملت 126 من مرشحي اليسار و78 من المرشحين المقربين من الرئيس ماكرون جاء معظمهم في المركز الثالث في الجولة الأولى يوم الأحد الماضي وما زالوا قادرين على الوصول إلى الجولة الثانية بتجاوزهم عتبة 12.5 %.

والمؤكد أن هذه الانسحابات تأتي في إطار توافق الضرورة الذي يقوم على قاطع انتخابي بين الجبهة الشعبية الجديدة (تحالف اليسار) والماكرونيين وحلفائهم (يمين الوسط)، وهو عبارة عن تكتيك انتخابي يتم اللجوء إليه بين الأحزاب من أجل تجنّب تشتيت الأصوات الذي سيكون المستفيد الأكبر منه في الحالة الفرنسية وفي هذا السياق الانتخابي الدور الثاني حزب التجمع الوطني.

وهو تكتيك سيساهم في حصر التنافس الانتخابي في الدورة الثانية بين ثلاثة أو أربعة مرشحين ويسمح بتعبئة الأصوات للمرشح التوافقي ضدّ مرشح التجمع الوطني ما يضمن حسابيا وبجمع أصوات اليسار والماكرونيين تقدمه وفوزه.

* 7 جويلية 2024، قد تغيّر وجه فرنسا


يتوجه الناخب الفرنسي يوم الأحد 7 جويلية 2024 نحو صناديق الاقتراع في جولة حاسمة لا شك في أنها ستكون مصيرية وتغير وجه الجمهورية الفرنسية وأوروبا.

لكن وفي كلا الحالتين سواء فاز اليمين المتطرف أو اليسار الراديكالي أو تدارك ماكرون ونهضته صفعة الدور الأول وحافظوا على نفس العدد من المقاعد في الجمعيّة العمومية وهو أمر مستبعد، لن تكون فرنسا كما عرفناها لعقود وستجري مياه كثيرة في جداولها السياسيّة قد تتحوّر الى تسونامي من الاضطرابات وعدم الاستقرار والمتغيرات السياسية والاجتماعية الحادة.

ورغم صعوبة الرهانات تبقى الكلمة الأخيرة للفرنسيين الذين تؤكد أغلب استطلاعات الرأي أن نسب إقبالهم على الانتخابات ستكون قياسيّة وغير مسبوقة.

فحسب ما جاء في إعلان وزارة الداخلية الفرنسيّة عن النتائج النهائية للدور الأول من الانتخابات بلغت نسبة المشاركة 66.71 % والمقدرة بحوالي 49.5 مليون فرنسي، تمّ خلالها انتخاب 75 نائبا من أصل 577، حصل التجمع الوطني على 37 مقعدا، والجبهة الشعبية الجديدة على 32 مقعدا٬ في حين حصل المعسكر الرئاسي مجتمعا على مقعدين فقط.