آراء حرة

بعيدا عن لغة التجريم والتحريض الاعتذار من فضيلة العقلاء وقوة الإرادة

الشعب نيوز/ وسائط -  رسالة مفتوحة وجهتها الأخت سهام بوستّة الامينة العامة المساعدة للاتحاد العام التونسي للشغل المسؤولة عن قسم التكوين النقابي والأنشطة الثقافية دفاعا عن المربين وانتصارا للمدرسة العمومية..

هذا نصّها: 

--------

كنت أود بدل خطاب التحريض والتجريم كلمة حقّ فيها اعتراف أنّ هذا التألّق والتميّز لأبنائنا وبناتنا التلاميذ في الامتحانات الوطنية هو نتاج تضحيات جسام لإطار تربوي كامل يسهر على توفير ظروف عادية للعمل في ظلّ تراجع خطير وغير مسبوق للمؤسّسة التربوية بجعلها لا تستجيب لمعايير المدرسة الحديثة والمعاصرة في القرن الواحد والعشرين والتي تواجه تحديات رقمية وتقنية كبرى إلى جانب المتغيّرات المناخية والبيئية.

إنّ الإيمان بقداسة الرسالة التربوية جعل العاملين في المدرسة العمومية يتزوّدون بصبر أيّوب أمام تردّي ظروف العمل ووضعهم المادي وقد آثروا على أنفسهم البعد عن المطلبية إبّان الثورة وناداهم الواجب إلى الانخراط في المسار الثوري بتأمين سير عادي للمؤسّسة التربوية والإسهام في إنجاح الامتحانات الوطنية في وقت صعب على البلاد والعباد فأثبتوا أنهم فعلا "حرّاس و حماة العرين في حقّ تونس والمدرسة لا يخشون البلاء".

إن الاعتذار فضيلة العقلاء لمن يكابدون يوميا متحدّين الصعاب نتيجة سياسة الإهمال واللامبالاة الممنهجة التي تعيشها المؤسّسة التربوية:

*نقص في إطار التدريس والإطار التربوي والعملة والالتجاء إلى سياسة التشغيل الهشّ والتعاقد لسدّ الشغورات التي تعدّ بالآف وأصبحنا نتحدّث عن إعفاء التلاميذ من دراسة عدد من المواد.

*اكتظاظ فصولها وخراب أسقفها وجدرانها وأبوابها وشبابيكها وطاولاتها وسبوراتها ولا تسـأل عن فضاءاتها الرياضية والصحّية إن وجدت. في غياب أجهزة التدريس وموادها إلى جانب ما يدور حول المحيط المدرسي وفضاءاته من عنف وتعاطي الممنوعات وتهديد الكلاب السائبة وتراكم النفايات والتجهيزات المهشّمة...

كنت أتمني أن يتضمّن خطاب رأس السلطة التنفيذية دعوة لتحفيز الهمم في مواجهة هذا الواقع المتردّي لأنّ تجاهله يعدّ جريمة نقترفها جميعا في حقّ أبنائنا التلاميذ والطلبة وهم الثروة الحقيقية لبلد شحيح الثروات.

مع الأسف هذه الثروة مهدورة في ظلّ تردّي البنية التحتية للمدرسة العمومية عموما وعلى وجه الخصوص والخطورة استمرار غياب ملائمة البرامج والهيكلة وطرق التدريس وعدم مواكبتها لما يطرأ من ثورات علمية ورقمية وتقنية عمّقت الهوّة بين منظومة التعليم في تونس وغيرها من البلدان الغربية وحتّى عدد من البلدان العربية والإفريقية.

كان من الأجدر الاعتراف بمعاناة الإطار التربوي اليومية وخاصّة في ظلّ تدنّي الأجور وارتفاع تكاليف المعيشة بشكل غير مسبوق فالأجور أصبحت بالكاد تغطّي أيّاما معدودة من الشهر لذا كان من الأجدى الاستناد إلى دراسات وإحصائيات موضوعية تقدّر نسبة العجز والعمل على اقتراح الحلول لهكذا معضلة.

كنت أتمنّى الاعتذار إلي الأسرة التونسية التي أصبحت تتحمّل أعباء مالية كبيرة لتوفير تعليم مناسب لأبنائها وغالبا ما تلجأ إلى الاقتراض من البنوك لتسديد مصاريف الدراسة نتيجة تنصّل الدولة من واجباتها إزاء المدرسة العمومية التونسية.

كنت أنتظر الاعتذار للإطار التربوي الذي يتعرّض يوميا إلى العنف اللفظي والمادّي ويُنكّل به داخل حرمات المدراس وأمام أبنائه التلاميذ ولا يجد حاميا ولا منجدا ولا مساندا غير زملائه الذين يقفون عاجزين عن ضمان كرامتهم وحماية مؤسّستهم ودفع الأذى عنها.

كنت أود الاعتذار لأبنائنا التلاميذ اللذين أصبحوا يرون في المدرسة سجنا مدمّرا للمواهب وإهدارا للوقت وعليكم الاطلاع على نسبة الغيابات والانقطاع المبكر عن التمدرس. فالمدرسة اليوم فقدت جاذبيتها ولم تعد مصعدا للرقي الاجتماعي ولا فضاء لدعم قدرات الناشئة وصقلها...

تعيش المدرسة العمومية اليوم أزمة غير مسبوقة ومركّبة زادها تعقيدا غياب الخيارات والمشاريع الإصلاحية بالرغم من الصيحات المتعالية لإطارها التربوي والأطراف الاجتماعية والنقابية والفاعلين التربويين ...

أرى من الواجب الاعتراف بمجهود الإطار التربوي والأسرة التونسية وأبنائنا التلاميذ وتثمينه في صناعة النجاح وتربية الأمل وكان من الضروري إعلان مبادرة تدعو إلى حوار جاد ومسؤول يقوم على احترام تعهّدات الدولة التونسية تجاه منظوريها .

إنّ محاضر الجلسات والاتفاقيات الموقّعة من قبل الوزارات ومنها وزارة التربية ليست مجرّد أوراق بل هي قرارات وزارية واجب احترامها في دولة تلتزم بتعهّداتها وتحافظ على مصداقيتها.

إنّ تمسّك الأساتذة والمعلّمين وكامل الإطار التربوي بمكاسبهم المضمّنة في الاتفاقيات ومحاضر الجلسات والمطالبة بحقوقهم المشروعة وفي مقدّمتها تحسين أوضاعهم المادية وتوفير ظروف العمل اللائق ليس انحطاطا عن نبل رسالتهم ولا مسّا من رقيّهم وليس سببا لنفور التلاميذ من المدرسة العمومية، وإنّما الخطاب التحريضي ضدّ الاطار التربوي بكامله وتجريم النضالات الاجتماعية المشروعة إلى جانب تخبّط السياسات ومزاجية الوزارات والرضوخ لإملاءات الصناديق وأجندات الليبيرالية العالمية المتوحشة وخياراتها الاقتصادية التي توصي بوقف الانتدابات وتجعل التعليم مجالا للاستثمار هي التي أنهكت منظومة التعليم في تونس فغابت الدولة الراعية للقطاعات الخدماتية واكتفت بالحضور المشهدي وخطاب الوعد والوعيد والترهيب وكيل التهم.

نحتاج فعلا إلى دولة قوية تجعل قوّتها كامنة في تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة أمام الفرص وأمام توزيع الثروة وذات إرادة فعلية في الإصلاح والتغيير وغيرها من مكامن القوّة ليست إلاّ مجرّد وسيلة لتحقيق غايات العقل القيمية والأخلاقية المتمثّلة في قيم حقوق الانسان والمواطنة (حقّ التعليم والصحة والنقل والسكن والثقافة والبيئة...والحريات العامة والفردية ومنها الحرية النقابية) وكلّ دولة تجعل من قوّتها وسيلة وغاية في نفس الوقت تصبح أداة للتسلّط والاستبداد منتهجة سياسة الهروب إلى الأمام متنصّلة من مسؤولياتها إزاء مواطنيها.

إنّ الإطار التربوي بكامله متمسّك بمكاسبه المضمّنة في الاتفاقيات وفي محاضر الجلسات الممضاة مع سلطة الإشراف وهو عازم على تطويرها وفي مقدّمتها تحسين أوضاعه المادية وتوفير ظروف العمل اللائق الذي يستجيب لمعايير العمل الدولية وجعل المدرسة العمومية رافدا وضامنا للتنمية المستدامة.

لذا كلّ محاولة للتضييق على الحقّ النقابي ونسف الحوار الاجتماعي هو تعميق لأزمة المنظومة التربوية ومضاعفة تعقيدها. ويظلّ الإضراب حقّا أقرّه الدستور وتشريعات العمل بما هو وسيلة وليس غاية في حدّ ذاته عندما تنغلق سبل الحوار علاوة على أنّه واجب محمول على النقابات ومنظوريهم للدفاع عن مطالبهم المشروعة.

وفي الختام تظلّ المدرسة العمومية ضمانة أساسية للتنمية المستدامة كما تظلّ البيئة الأنسب لتنشئة إنسانية الإنسان