آراء حرة

لماذا تنهار هذه الدول الواحدة تلو الاخرى؟ لماذا كل هذه الهشاشة ٕ؟

لماذا تنهار هذه الدول الواحدة تلو الاخرى؟
لماذا كل هذه الهشاشة ٕ؟ 
لماذا كل هذا العجز الذي رافق كل الانظمة علي تحقيق وحدة الأوطان؟
لماذا يستمر عجز هذه الشعوب علي تمثل قيم الحرية والديمقراطية؟
لماذا يستمر مشكل الهويات؟

في أواسط القرن 19، كان العالم قد تغير كثيرا... وأروبا التي أنهت للتو حروبها الأولي وبدأت تمد يدها إلى كل ما حولها من أراضي السلطان العثماني كانت أيضا تطير من أرضها  أفكارا جديدة لتحط منهكة على ضفاف المتوسط في تونس ومصر والشام وحتى تركيا نفسها...أفكار صغيرة وخطيرة جدا ...لا حكما مطلقا وملكا مقيدا بقانون ... فصل الدين عن السياسة ولا سلطة من السماء... مواطنون لا رعايا  وحقوق إنسان بلا تمييز ... العقل ولا شيء غير العقل.... أفكار في منتهى الخطورة  جاءت من رؤوس كبيرة لفلاسفة ومفكرين وسياسيين دفع بعضهم أثمانا باهظة من أجل فرضها... تعثرت أحيانا...لكنها نبتت وأزهرت وخرجت منها أيضا أشواك مدمية... ومع ذلك ظلت رغما عن كل شيء جذابة....
 كان الغرب قد تخطى النهر الكبير وبدأ يبني المدن الكبيرة... والمدن وحدها مخازن الحضارة والرقي والثقافة والفكر والعلم والهندسة والعمارة والفنون والآداب وقبلها الفلسفة والأديان والأنبياء...كل هذا  بينما كان الشرق حائرا...

قوة فقيرة لفكرة كبيرة

العثمانيون بصولاتهم في الأرض والبحر كان معهم كل شيء...القوة والعزيمة... لكنها كانت قوة فقيرة لفكرة كبيرة  تحتاجها الامبراطوريات كي تسود وتبقى قبل حاجتها إلي المدافع... وحتى الإسلام الضخم وآلة العرب الجبارة التي عبروا بها التاريخ تعطلت وراح العثمانيون يديرونها على نفسها حتي أنهكت ولاحت حولها الشكوك فخرجت إلى الفيافي ووقعت في أيدي الدراويش والسياسيين العابثين ....
خسر العرب في تونس والمغرب عموما والشام والعراق وغيرها من بلاد العرب ما تراكم لبعض قرون من مدنية... ضمرت المدن وعاد الناس إلي البداوة ونصف البداوة لأن الترك أنفسهم كانت لهم روح بربرية وخشونة حافظوا عليها لفرط حاجتهم لها في حروبهم المستمرة ولجوع لا يشبع ونهم لا يروم... وإنها بالنهاية لسنن التاريخ...
قلت إن العرب الذين أعيدوا قسرا إلى صحاريهم وسهوبهم وبداوتهم الأولى قد خسروا روح المدنية  ولئن انتعشت قيم وفضائل البداوة وامتلأت الأرواح خلقا طيبا وأمانة فإن العقل لابد تعطل وعاد إلى الفطرة وفقد القدرة والحاجة إلى فك عقد كثيرة لازمة لإطلاق مراكب التاريخ والحضارة... إنها حالة تضليل ووقوع في زاوية معتمة من خارطة قطع الغرب أشواطا في إعادة رسمها...

مطبعة في بولاق ومعها سؤال

قلت إنه للأفكار أجنحة تطير بها إلى كل مكان... ويمكن ايضا أن تذهب على ظهور الجياد وعلى أسنّة الرماح والسيوف وعلى فوهات المدافع... فعندما وصل نابليون إلى مصر ببزته العسكرية الجميلة وعندما نزل الجنود في صفوف كان المماليك في دهشة... ليكن، إنها صدمة...
لكن نابليون قهرته عكا... ولم يغادر إلا بعد أن ترك مطبعة في بولاق ومعها ترك سؤال... لماذا تخلفنا عنهم...
في تونس... بلد المدن بامتياز فعل الاأتراك نفس فعلهم في كل مكان... لكن المدنية هنا أشد عراقة من اي مكان والمجال ضيق وصغير فكانت خسارات لامحالة لكن المدنية لم تنطفئ وكالعادة في هذا البلد، تتونس الترك أكثر مما استترك التونسيون وهضمت إلى حد ثقافة الغزالة... لذلك كان هذا البلد أسبق من غيره إلى استقبال أفكار الغرب والاطلاع على الأحداث ووجد الوقت والرجال لطرح الأسئلة وحتى لرسم الخطط والمبادرة... حدث ذلك خلال القرن التاسع عشر ... بتعثر لكنه بمنتهى الجد والوعي لولا بعض من قصور عقل آت من الغيابات ولم يكن لنصف قرن ان يحل المشكلة...
التاريخ ليس تاريخ أفكار فقط... ثمة شيء اسمه الصراع والعنف والاستعمار...وقود آخر ثقيل وخانق من أجل سير القاطرة وقانونه قاس يأكل فيه القوي الضعيف... إنه ذئب الاستعمار...
أنهكنا لقرن... وترك العرب لمصيرهم وفر الاتراك إلى الاناضول موطن سلالاتهم القديمة...

آخر ورقة... يابسة ... لكنها مليئة بالرموز والأسحار
في 1924 طوى أتاتورك آخر صفحة من تاريخ العرب الذي لم يبق منه غير مؤسسة الخلافة الإسلامية... كانت آخر ورقة... يابسة ... لكنها مليئة بالرموز والأسحار والاحلام والتراتيل وعامرة بالقصص والعبر والأمجاد... إنه الإسلام في صورة من صوره... قد تكون صورة  مبهمة لكنها مفهومة في الضمير الجماعي للناس... مفهومة باعتبارها مركب هوية وبطاقة يتعرف بها الناس علي الناس...
كان حدثا كبيرا... وقاسيا...
ولأن التاريخ لا يحب لي الأعناق بهذه الطريقة فإن الأمر لم يمر بسلام كما يعتقد... إذ لم تمض إلا أربع سنوات حتى أعلن في مصر عن تنظيم قال في اول بياناته... الخلافة والشريعة... والجماعة... ومن يومها كانت قصة أخرى...
في كل وقت كان الاستعمار  يصب الزيت على النار ويوغل في التوحش  ويوم غادرت الجنود تركت لنا الأرض محروقة... وهذا تفصيل مهم. 
كان العالم قد تغير مرة أخرى... ويلات الحروب في منتصف القرن العشرين كانت كبيرة... حتى إنها كانت مخجلة في الكثير من أطوارها وموحية بأننا نحن البشر كذابون وأننا مازلنا في الحقيقة نسكن الغابة وأننا مازلنا نتقاتل على الطعام كما كنا نفعل أولا... نشأ بفعل ذلك وبسبب ويلات الحرب  ما نسميه الضمير الإنساني وقررنا أن خلاصنا في حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية... الحقيقة نحن العرب وشعوب أخرى ايضا لم نقرر ذلك لسببين أولها اننا كنا في الأثناء نجري من مكان إلى مكان بحثا عن الطعام وثانيها أن الجماعة قالوا لنا إن هذه كذبة وإن الله لا يحب هذا الكلام...
في تونس مرة أخرى كانت القصة مختلفة قليلا... ومرة أخرى نبتت في هذه الأرض أفكار جاءت ببذورها رياح الشمال... حول العدالة والحرية والمساواة والوطن والنساء والفن والأدب والمسرح والعلم وحتى 

الفقه والدين والحكم والسلطة... قصص في كل شيء.. 
فجأة بدأت الخرائط ترسم... هذا العراق... هذه  سوريا وهذا لبنان وهذه بوادي الشام الأردن.. وهذي فلسطين مع حكاية... وهذه مصر القديمة وهذه جزيرة العرب واليمن وووو... وهذه تونس التي يعرفها الناس دوما... دوما. 
الخرائط لم تكن موافقة لمزاج الشعوب... والحق أنه لم يكن من الضروري إضاعة الوقت للأخذ بجبر الخواطر مع الطوائف والأعراق التي وجدت نفسها في حقق الخرائط كسمك السردين... لم يكن ثمة ما يمنع طبخة كان يمكن أن تكون لذيذة وصحية لو...
لو ماذا...؟؟
في التاريخ لا ينصح بقول هذا اللفظ... فالتاريخ هو حاصل ما حدث وحسبنا معه فهم الأسباب وتفهم كل شيء لأنه لو أمكن غير ما حدث لكان قد حدث...
عندما غادر الاستعمار الذي ترك قصدا وبغير قصد وكلاء، تكونت في البلاد العربية دول وطنية وحكومات مستقلة وفق قواعد القانون الدولي الذي نشٱ وتهيكل بشكل كاف وخطير علي أي حال...
ذكريات الاستعمار الأوربي والحضور العثماني كانت تشبه القروح على صفيح العقل العربي... ولأن الأمم تشبه شجر السدر القاسي لا تلبث أن تخبو عروقها ثم إنها تعود إلى البزوغ من قلب الأرض لفرط نفاذ عروقها في الأرض وأقل ما يلحقها من بلل وطل وماء... ولأن ذكرى الاستعمار كانت مرة فقد كانت الدولة القاسية التي تجر الناس جرا الي الجنة...وبناء وإعمار وجسور وطرق سيارة وسكك حديد وسيارات ومباني ونوافير ومحلات حلاقة ونساء سافرات وساحات واسعة فيها تماثيل الزعماء يحييون شعوبهم السعيدة... كل هذا بينما لم تحل المشكلة الأصيلة...

لا أحد من الزعماء حضنها ولا  أحد طبطب عليها
لم تكن الشعوب سعيدة... بل كانت في السر تشحذ السكاكين وتخفي السيوف وتراكم الأحقاد... لأنه لا أحد من الزعماء حضنها ولا  أحد طبطب عليها بصدق وكل ما في الأمر أنها كانت تماثيل...
وحتى لا أغرق في هلام الشعراء /قليلي الشاعرية/ فإني أقصد أن الدولة الوطنية في العالم العربي والتي تكونت بعيد حركات الاستقلال أنما أغفلت أهم أدوارها وهو تفكيك بنى  ما قبل الدولة... هي للتدقيق لم تغفل إنما كان يعوزها العقل الضروري لذلك وقد جاء زعماؤها من  خلف الخيمة البدوية بهوس وجنون وغلمة إلى العيون الفاطمية...
بقيت الطوائف... والأعراق... كأنما الحال في أروبا القديمة... لا فردانية ولا أفراد... لا معنى للفرد والذات المستقلة... الجماعة ولا شيء غير الجماعة... القبيلة... والعشيرة...والطائفة الدينية وغير الدينية... وسلطة دولة معلقة في جيوش نظامية في ظاهرها... انكشارية في حقيقتها وتلتفت إلى الخلف وهي تمشي مكرهة لتفر إلى أوطانها لأول رصاصة... أوطانها الأصيلة في عشائرها وقبائلها... إنها إذن كذبة الدولة... كذبة أوجعت رأس التاريخ الارسطقراطي والجالس بلا مشاعر يراقب كل شيء...
في تونس مرة أخرى كان الجو ملائما لشيء أفضل من هذا... وهذا للتدقيق نتيجة طبيعية وأقصد أنه مرة أخرى يلتزم التاريخ بقواعده... المدينة هي الأصل...
في تونس كان الزعماء قريبين من ينبوع الحداثة الغربية... أقصد من جهة اطلاعهم على مدونات الفكر الغربي وفلسفاته... وزادهم اطلاعهم علي التراث الاسلامي والعربي بعيون الغرب لامحالة انتباها...

في هذا البلد فقط نمنا في أحضان بعضنا 

فكانت التجربة مختلفة وذكية وفطنة إلى مكر التنوع والاختلاف... ساعدت الجغرافيا والعراقة وعبق التاريخ وحقق بعض نجاح ذي قيمة كبيرة وفارقة أيام المحنة... فحين انهارت السلطة في دول الشرق وجد الناس مكانا يفرون إليه ووجدوا أحضان قبائلهم وعشائرهم وطوائفهم ومن خلف الحيطان قتلوا بعضهم بعضا خوفا وهلعا وانتقاما... علنا هنا في هذا البلد فقط نمنا في أحضان بعضنا نحرس بيوتنا من غول اكتشفنا أنه لم يكن موجودا... فعلنا ذلك لأنه لم تكن غير الدولة في رؤوسنا... وهذه فكرة عملاقة...
قصص الذين حاولوا التغيير تافهة وعارضة في هذا البلد... وشخصيا لم أقتنع للحظة بأنه يمكن إيقاف عجلة التاريخ وفعل العقل وفعل الحرية... وأن طلب العود إلى الماضي كان يشبه صراخ بدوي يطلب إيقاف قطار في غير المحطة... مشهد طريف وموجب للشفقة في آن. 
الشعوب التي تصنع التاريخ تقع في التيه والأسر... ولست أغمز إلا إلى الفكرة الكبيرة... والتي هي أن التاريخ يحب الأفكار الكبيرة...
كان الإسلام فكرة كبيرة جدا... أفسدوها... أفسدها الدراويش...
اليوم...
في العراق وسوريا ولبنان وووو... وحيث نشأت الدولة في المكاتب والقصور الجمهورية ولم تنشأ  أبدا في ضمائر الناس انهارت لأول رصاصة...
الشعور بأننا أبناء حرام... يصنع منا مجرمين في التاريخ... قصة الهوية معناها التأصيل... والتأصيل معناه الشرعية... والشرعية من الأجداد...

بقلم:
ابراهيم بن قبلي - أستاذ - زغوان.