آراء حرة

فيما الظاهرة العنفيّة تستفحل وتتجدد في الوسط التربوي: أي دور للفاعلين التربويين؟ (1)

علي الجلولي: المستشار في الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي -  أثارت عملية حرق أستاذ التعليم الثانوي بإعدادية ابن شرف بالشابة (ولاية المهدية) فاضل الجلولي لنفسه مما أدى إلى وفاته يوم 28 نوفمبر 2024 الجاري من جديد ملف العنف في الوسط المدرسي وتداعياته مرورا بمحاولة رصد أسبابه ومظاهره.

لقد تحرك الأساتذة بدعوة من هياكلهم النقابية في اليوم الموالي بالتوقف الاحتجاجي عن العمل لمدة ساعة، فيما دخل أساتذة المؤسسة الأصلية للأستاذ الراحل في اعتصام مفتوح للضغط على مسارات البحث الإداري منه والقضائي.

في المقابل نظم التلاميذ في أكثر من مؤسسة حملات لتوزيع الورد على أساتذتهم لتبليغ رسالة ايجابية .

وفيما دخل كل التلاميذ في امتحانات نهاية الثلاثي التي تستمر لما بقي من شهر ديسمبر (الأسبوع ما قبل المغلق والأسبوع المغلق وأسبوع الإصلاح) تتواتر الأخبار عن حالات عنف متتالية حدثت في مؤسسات تربوية أخرى كان ضحيتها أساتذة أو إداريون أو تلاميذ مثلما حدث في أحد معاهد جربة (ولاية مدنين) أين تعرض تلميذ للاعتداء من قبل أستاذه بمجسم خشبي على رأسه مما تسبب له في جرح وغرز .

إن هذه الأخبار التي يتم تداولها بسرعة قياسية على شبكة التواصل الاجتماعي هي بصدد تصعيد مشاعر الإحباط واليأس من أي معالجة لهذا الداء الذي ينخر المدرسة كما ينخر بقية خلايا المجتمع وهو ما يعزز التطبيع مع الظاهرة التي أصبحت اليوم ركنا أساسيا من أركان المؤسسة التربوية.

وللتذكير فان العام الدراسي الحالي افتتح بابه يوم 15 سبتمبر 2024 على إيقاع العنف الشديد باستعمال سكين و الذي كان ضحيته تلميذ في إعدادية بمقرين (ولاية بنعروس) وفي إعدادية ببنزرت أين مارس تلميذ عنفا ضد زميله. 

ـ أستاذ يموت حرقا: الدلالات والرسائل

أثارت حادثة إعدادية الشابة جدلا قديما/جديدا في الشارع التربوي والشعبي وتداولت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي الخبر والتعليق عليه والذي اتجه في الغالب نحو القراءة التقليدية التي تفسر الظواهر وتقترح الحلول لها بشكل جامد يستعيد نفس المعجم والبراديقم الأخلاقوي ذي الاتجاه الزجري/القمعي. وهذا "الحلّ السحري" هو الحلّ الجاهز والصالح لمعضلة الأخلاق وتدهور القيم وعدم احترام المدرّس وانتشار مظاهر الانحراف في المجتمع ، وكلها مظاهر تتطلب استعادة دور العائلة والمؤسسة التربوية والدينية والسلط الأمنية والقضائية...والمقصود بهذه "الاستعادة" هو ممارسة الأدوار القمعية، أدوار "المراقبة والمعاقبة" كما سمّاها الفيلسوف الفرنسي "ميشال فوكو". 

إن المطلوب اليوم من الجميع وفي المقدمة مجموع الفاعلين التربويين هو حسن فهم ما يستجد أمام أعيننا و تحت أرجلنا من ظواهر ومظاهر كخطوة أساسية لصياغة تصورات المعالجة والتدخل.

إن إقدام أستاذ على حرق نفسه على خلفية سلسلة أحداث تمت له ومعه بحكم مهنته هي حادثة تستحق التوقّف. وأن يكون الأستاذ الراحل مدرسا لمادة "التربية الإسلامية" بما تحمله من خصوصيات تتعلق بمضمون المادة الذي يرتبط بمجال العقيدة وأحكامها التي تتراوح بين الحلال والحرام والمندوب والمكروه.

هذه العقيدة/الدين التي تتفق كل مذاهبها الفقهية دون استثناء، كما تتفق مع كل العقائد السماوية بتحريم قتل النفس أي الانتحار، تحريما بيّنا وقطعيا. إن هذا الفعل (فعل قتل النفس) هو الحالة القصوى التي يمكن أن يصلها الإنسان، وأن يكون هذا الإنسان مرتبطا عضويّا ويوميّا بمجال اهتمام عقائدي ، فهذا في حد ذاته يتطلب الوقوف والتمعن.

صحيح أن تدريس مادة ما لا يعني ضرورة التكريس الفعلي ل"تعاليمها" على الحياة الخاصة للمدرس، وهذا يتعلق بالمواد "الإيديولوجية" أو المؤدلجة بمعنى الحاملة لمضامين فكرية صريحة ومباشرة وهو ما يهمّ المواد الإنسانية عموما (الفلسفة،التاريخ،الأدب...) أو المواد التي ينسب إليها "الحياد" أي المواد العلمية والتقنية.

لكن مادة "التربية الإسلامية" بالذات اكتسبت مثلما اكتسب مدرّسوها سورة نمطية مخصوصة نوعا ما (stéréotype)، لذلك فأن يصل مدرس هذه المادة إلى الانتحار ففي الأمر دلالات أعمق وأقصى وجب الانتباه إليها بسرعة.

إن المدرس هو إنسان يؤثر وأيضا يتأثر، وحياة المدرس ليست فقط فكرا وأوراقا ودروسا يتلوها بما يمنح دوره امتيازا معنويا باعتباره منتجا للمعرفة. إن المدرس هو أيضا وضع مادي واجتماعي وعلائقي ومؤسسي محدّد في الزمان والمكان، وهذا الوضع هو على العموم متدهور بما ضرب في العمق المكانة الرمزية للمدرس ولدوره الاعتباري والمعنوي داخل المؤسسة التربوية وخارجها. إن هذا التراجع يجد اليوم تجلّيه فيما عاشه الفقيد "فاضل الجلولي" من انتهاك لكرامته ولخصوصية مهنته من خلال حملات الكترونية تصور التنمّر به وتوثق إهانته في المؤسسة وفي محيطها.

إن الصور الصادمة التي وقع ترويجها على منصات التواصل الاجتماعي تقدم صورة "جديدة" للمدرس أخرجته كليا من دائرة الوضع " الجليل" إلى دائرة "المخبول" الذي يجري وراءه صبيان الحيّ. إنها صورة تقطر فظاعة وتخرج التحول الحاصل في علاقة المدرّس بالمدرّس من المجال الميكروفيزيائي أي الفضاء الخاص/المغلق إلى المجال الماكروفيزيائي أي الفضاء العام/المفتوح. إنها وضعية قصوى عبّدت الطريق إلى وضعية أقصى وهي الموت حرقا.

ولم يكن في المشهد غير الأستاذ وتلاميذه، بل كان للأولياء نصيب من خلال انخراط بعضهم في التنمّر الالكتروني، لذلك أصبح الأستاذ حديث الخاص والعام في المدينة.

في خضم هذا الوضع المهزلي وعوض أن تتدخل الإدارة ممثلة في المندوبية الجهوية للتربية وإدارة المدرسة الإعدادية باعتبار الأستاذ من منظوريها ويُحمل عليها واجب حمايته، وهو ذات الدور المحمول على النيابة العمومية التي كما يدل اسمها يفترض تدخلها لوضع حد لانتهاك كرامة مواطن على قارعة الطريق وأمام الملأ. كما لم تتدخل نقابة الأساتذة بالقوة والحزم اللازمين في الوقت المناسب لوضع حدّ لما يجري خاصة وأن الأستاذ كان موضوع إساءة تعامل من قبل المندوبية الجهوية للتربية أين تعرض للمسائلة على خلفية المادة المنشورة على شبكة الانترنيت وهو ما يشكل في حد ذاته خرقا للقوانين إذ تم اعتماد توجيه "تهم" على أساس "دليل" غير قانوني (فيديو منشور على الشبكة)، كما تعرض للإساءة من قبل المصالح الأمنية لدى إدارة التصدي للعنف ضد الأطفال والمرأة عوض معاملته معاملة محترمة باعتباره "بريئا حتى تثبت ادانته" .

لكل هذا كانت النتيجة كارثية إذ وصل الأستاذ إلى حالة اليأس المطلق فألهب النار في جسده بعد أن نشر هو بدوره تسجيلا صرح فيه أنه يعاني من تنمّر تلاميذه وإهانتهم له كما أنه تعرض لسوء المعاملة من قبل المصالح الإدارية والأمنية. 

إن ما ندوّنه ليس من محض الخيال بل هو إعادة تركيب للأحداث كما جرت واقعيا، وهي أحداث مأساوية تخفي ورائها معضلات جمّة يعيشها القطاع التربوي والمجتمع عموما من تنامي ظواهر العنف بمختلف أشكاله وأساليبه بما فيها المستجدة مثل التنمر الالكتروني الذي أصبح اليوم يخرج الممارسات العنفيّة من فضائها الضيق أي فضاء المؤسسة التربوية إلى الفضاء العام لتشارك في مواكبته والاطلاع على تفاصيله وترويجه أطراف أوسع مثل الأولياء والأقارب وأبناء/بنات الحيّ وعموم جمهور شبكة التواصل الاجتماعي.

وان حادثة مقتل الأستاذ "فاضل الجلولي" تحمل فضلا عن الدلالات المستعرضة رسائل عاجلة وحارقة إلى مختلف الفاعلين التربويين والى الدولة والمجتمع حول حجم العنف وتحولاته .

إن الأستاذ الراحل ليس الأول الذي ينتحر أو يعيش وضعا نفسيا متدهورا لعدة أسباب بما في ذلك مشقة مهنة التدريس، لكن المستجدّ هو الموت حرقا على خلفية حملة تنمّر الكتروني ضده من قبل تلاميذه الذين أظهروه في أسوأ الصور التي يمكن أن يظهر عليها إنسان فما بالك بمربّي. إننا بصدد تحوّل في أشكال العنف و في تداعياته و نتائجه التي لم تكتفي هذه المرة بالإيذاء، بل وصلت حد الموت/القتل. (يتبع)