قراءة عجولة في الحياة الثقافية في تونس، التهميش، الفساد، والمركزية.

الشعب نيوز/ رياش الشرايط: الثقافة التونسية بين الخطاب الرسمي والواقع المهمّش
على امتداد العقود الماضية، لطالما روّجت السلطة في تونس لشعارات تدّعي دعم الثقافة وجعلها ركيزة أساسية في بناء الهوية الوطنية والتنمية الاجتماعية. لكن واقع الأمر يكشف تناقضا صارخا بين هذا الخطاب الرسمي والممارسات الفعلية التي تكرّس التهميش البنيوي لهذا القطاع، سواء من خلال ضعف الميزانية، هيمنة البيروقراطية، أو انتشار الفساد داخل الوزارة والهياكل الثقافية.
إلى جانب ذلك، تتجلّى أزمة المشهد الثقافي التونسي في مركزية الفعل الثقافي، حيث تظل العاصمة تحتكر أغلب التظاهرات والمبادرات، بينما تعاني الجهات الداخلية من إقصاء شبه كلي. كما أن التعامل مع المثقفين والمبدعين يتم غالبًا وفق منطق المحاباة أو الولاءات، وليس بناءً على الكفاءة أو القيمة الإبداعية.
تتداخل كل هذه العوامل لتنتج واقعا ثقافيا مشلولا، حيث تهيمن الرداءة والتكرار على المشهد، بينما يتم إقصاء الأصوات الجادة التي تحاول تقديم مشاريع ثقافية ذات بعد نقدي أو تقدمي. وفي هذا السياق، يصبح من الضروري قراءة لهذه الأزمات، مع طرح حلول جذرية لإعادة بناء الثقافة الوطنية على أسس أكثر عدالة وديمقراطية.
1. الثقافة في تونس: قطاع ثانوي في حسابات السلطة.
لعلّ أحد أبرز المؤشرات على تهميش الثقافة في تونس هو الميزانية الضعيفة المخصصة لوزارة الثقافة، والتي لم تتجاوز تاريخيًا 1% من الميزانية العامة للدولة. في المقابل، تحظى وزارات مثل الداخلية أو الدفاع بحصة الأسد من الموارد المالية، كما يتم تخصيص ميزانية ضخمة لوزارة الشؤون الدينية، رغم أن الفعل الثقافي يفترض أن يكون أكثر تأثيرا في بناء وعي المواطن وتقدمه الفكري.
هذا التوزيع المختل للموارد يكشف عن رؤية السلطة للثقافة بوصفها قطاعا ثانويا، يمكن الاستغناء عنه أو تقليص دعمه متى اقتضت الحاجة. فالرهان السياسي ظلّ موجّها نحو ضبط الفضاء العام أمنيا، بدل الاستثمار في بناء وعي نقدي لدى المواطن. ولعلّ هذا ما يفسّر تراجع الدولة عن سياسات دعم الكتاب، تقلّص عدد الفضاءات الثقافية، وغياب أي مشاريع جادّة لتعزيز الإنتاج الفني والمسرحي خارج الدوائر الضيقة للمهرجانات الرسمية.
إلى جانب ذلك، يتم التعامل مع الثقافة كمجرد أداة للترويج لصورة الدولة، لا كمجال مستقل يجب دعمه وتشجيعه. لذلك، تضخّ الأموال في تظاهرات ذات طابع فولكلوري أو استعراضي، بينما يتم تهميش المشاريع ذات البعد النقدي أو التقدمي.
2. الفساد داخل وزارة الثقافة: ملفات مغلقة بلا محاسبة.
إذا كانت الثقافة التونسية تعاني من نقص في الموارد، فإن المشكلة لا تتوقف عند هذا الحد، بل تتجاوزها إلى تفشّي الفساد داخل المؤسسات الثقافية، حيث تحوّلت الوزارة إلى فضاء تحكمه المصالح الشخصية والمحسوبيات.
ويتجلّى هذا الفساد في عدّة مظاهر، أبرزها:
-التلاعب بالمناصب الثقافية:
يتم تعيين مسؤولين على رأس المؤسسات الثقافية وفق معايير الولاء والعلاقات الشخصية، وليس بناءً على الكفاءة.
-سوء إدارة الموارد المالية:
رغم ضعف الميزانية، فإن جزءا كبيرا منها يهدر بسبب غياب الشفافية في توزيع التمويلات ودعم المشاريع الثقافية.
-تهميش المبدعين المستقلين:
بدل دعم المشاريع الجادة، يتم منح التمويلات لشبكات محسوبة على دوائر السلطة، مما يعمّق الرداءة في الإنتاج الثقافي.
قمع الموظفين والنقابيين الذين يكشفون ملفات الفساد:
بدل التحقيق في قضايا الفساد التي يفضحها بعض العاملين في الوزارة، يتم طردهم أو إقصاؤهم من مناصبهم و حتّى سجنهم بتلفيق قضايا لهم، مما يعكس غياب أي إرادة حقيقية للإصلاح.
أمام هذا الوضع، يصبح من الضروري فتح ملفات الفساد داخل الوزارة بجدّية، مع تحميل المسؤوليات، وإعادة الموظفين الذين تم طردهم بسبب كشفهم لهذه التجاوزات. فالإصلاح الحقيقي لا يمكن أن يتم دون وضع حدّ للإفلات من العقاب داخل المؤسسات الثقافية.
3. مركزية الفعل الثقافي:
احتكار العاصمة وإقصاء الجهات.
رغم وجود شبكة من المراكز الثقافية في مختلف أنحاء البلاد، إلا أن الفعل الثقافي الحقيقي يظلّ محصورا في العاصمة وبعض المدن الكبرى، بينما تعاني الجهات الداخلية من تهميش ممنهج.
هذا الإقصاء يتجلّى في عدّة مظاهر، منها:
-غياب الفضاءات الثقافية الجادة في الجهات:
المؤسسات الموجودة غالبا ما تكون مجرد قاعات مهملة دون برامج حقيقية.
-ضعف دعم التظاهرات الثقافية في الداخل:
يتم توجيه أغلب التمويلات إلى الفعاليات الكبرى في العاصمة، بينما تظلّ المهرجانات الجهوية تعاني من ضعف الإمكانيات.
-احتكار بعض المؤسسات الثقافية للمشهد الوطني:
مثل بيت الشعر التونسي، الذي لا توجد له فروع في الجهات، مما يحرم الشعراء والمبدعين في الداخل من فضاء ثقافي يمكنهم من خلاله تقديم أعمالهم.
إن إعادة التوازن إلى المشهد الثقافي يتطلب مراجعة جذرية لسياسات التوزيع الثقافي، بحيث يتم إنشاء فضاءات ثقافية فعلية في الجهات، وضمان تمويل كافٍ للأنشطة الثقافية خارج العاصمة.
4. التكلّس الإداري وغياب التداول على المسؤوليات:
إحدى أكبر الأزمات التي تعاني منها وزارة الثقافة هي استمرار نفس المسؤولين في مناصبهم لسنوات طويلة، مما يؤدّي إلى حالة من الجمود والتكلّس داخل المؤسسات الثقافية.
هذه الظاهرة لها عدّة تداعيات سلبية، منها:
-فقدان الديناميكية والتجديد:
غياب التداول على المسؤوليات يجعل المؤسسات تكرّر نفس الأنشطة دون أي إبداع أو تطوير.
-ترسّخ العلاقات الزبائنية:
المسؤولون الذين يبقون في مناصبهم لفترات طويلة ينسجون شبكات مصالح، مما يعزّز الفساد والمحسوبية.
-تهميش الكفاءات الشابة:
استمرار نفس الأسماء في إدارة المؤسسات الثقافية يمنع ظهور جيل جديد من المثقفين والإداريين القادرين على تقديم رؤى بديلة.
لذلك، من الضروري إرساء مبدأ التداول على المسؤوليات الثقافية، بحيث يتم تعيين مسؤولين جدد كل بضع سنوات، مع وضع معايير واضحة لاختيارهم، تضمن الكفاءة والاستقلالية عن الدوائر السياسية الضيقة.
5. نحو ثقافة وطنية تقدمية:
دور التربية والتعليم.
لا يمكن الحديث عن إصلاح المشهد الثقافي دون ربطه بالمنظومة التعليمية، إذ أن بناء ثقافة وطنية تقدمية يتطلب تعاونا وثيقا بين وزارة الثقافة ووزارتي التربية والتعليم العالي.
في هذا السياق، يمكن اقتراح عدّة حلول، منها:
-إدماج الأنشطة الثقافية في المدارس والجامعات، بحيث لا تبقى الثقافة مقتصرة على النخب، بل تصبح جزءًا من الحياة اليومية للتلاميذ والطلبة.
-تطوير البحث الأكاديمي في مجالات الفنون والآداب، عبر توفير منح وتمويلات لدراسات تهتم بالثقافة الوطنية.
-تشجيع الشراكات بين المؤسسات الثقافية والمجتمع المدني، لضمان استمرارية الأنشطة الثقافية خارج الأطر البيروقراطية.
إن أزمة الثقافة في تونس ليست مجرّد مشكلة ميزانية أو سوء إدارة، بل هي نتيجة لرؤية سلطوية ترى في الثقافة مجرد وسيلة لتلميع الصورة، لا كقوة نقدية مستقلة. لذلك، فإن الإصلاح الحقيقي لا يمكن أن يكون سطحيًا، بل يجب أن يكون جذريا، يشمل محاربة الفساد، كسر المركزية، ضمان العدالة الثقافية، وربط الثقافة بالتعليم لبناء وعي تقدمي جديد.
فالثقافة ليست ترفا و ترفيها، بل هي ساحة صراع يجب أن تكون في خدمة التحرر لا في خدمة السلطة.