حروب الماء والسيطرة على الممرات المائية والموانئ.

الشعب نيوز/ رياض الشرايطي: 1. المقدمة: الموارد كمفاصل للصراع الطبقي العالمي
منذ فجر الرأسمالية، كانت السيطرة على الموارد الطبيعية، سواء الأراضي الزراعية، المعادن، النفط، أو المياه، ضرورية لبقاء النظام الرأسمالي. ومع تطور الإنتاج الصناعي والتوسع الاستعماري، أصبحت السيطرة على الممرات البحرية والموانئ عنصرًا أساسيًا في إعادة إنتاج النظام الإمبريالي، حيث تتحكم القوى الكبرى في سلاسل التوريد والتجارة العالمية، ما يضمن التبعية الدائمة لدول الجنوب العالمي.
اليوم، باتت الصراعات حول المياه والممرات البحرية تأخذ أشكالا جديدة أكثر تعقيدا، فهي لم تعد تُحسم فقط عبر الغزو العسكري المباشر، بل يتم فرضها عبر آليات السوق، الديون، العقوبات الاقتصادية، والشركات متعددة الجنسيات، مما يجعل الدول الفقيرة أسيرة لهذه المنظومة.
- تونس في سياق حروب الماء والاستعمار الجديد
تونس، رغم مساحتها الصغيرة نسبيًا، تحتل موقعا استراتيجيا في حروب الموارد المائية والبحرية، حيث تتعرض لنهب مواردها المائية من قبل الشركات متعددة الجنسيات، وتخضع موانئها وممراتها البحرية لتأثيرات الهيمنة الرأسمالية العالمية. كما تواجه مخاطر التغير المناخي، وشحّ المياه، وخصخصة الموارد، مما يجعلها نموذجًا مصغرًا للصراعات المائية والبحرية في دول الجنوب العالمي.
2. حروب الماء: كيف أصبحت المياه سلاحا للإمبريالية؟
2.1. الماء سلعة: من حقّ إنساني إلى أداة للنهب الرأسمالي
المياه، التي كانت تُعتبر موردا طبيعيا مشتركا، خضعت منذ القرن العشرين لعملية تحويلها إلى سلعة يمكن بيعها، وخصخصتها، واحتكارها. هذا التحوّل لم يكن مجرد تطور اقتصادي، بل كان جزءا من آليات إخضاع الطبقات الفقيرة، وجعلها تعتمد على السوق بدلا من امتلاك وسائل إنتاجها الخاصة.
-أدوات الهيمنة الرأسمالية على المياه:
خصخصة شبكات المياه العامة
في الأرجنتين، قامت الحكومة بخصخصة المياه في التسعينيات، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار بنسبة 400%، وإقصاء الفقراء من حقهم في الحصول على المياه النظيفة.
في بوليفيا (2000)، فرض البنك الدولي خصخصة المياه لصالح شركة "بيكتل" الأمريكية، مما جعل المواطنين يدفعون نصف دخلهم الشهري للحصول على الماء، مما أدى إلى انتفاضة "حرب الماء"، انتهت بطرد الشركة وإلغاء الخصخصة.
التحكّم في الأنهار عبر السدود العملاقة
- سد النهضة الإثيوبي: تستخدمه إثيوبيا كورقة ضغط ضد مصر والسودان، مما يهدد أكثر من 100 مليون مصري يعتمدون على نهر النيل.
- سدود تركيا على دجلة والفرات: أدى مشروع "الغاب" التركي إلى تقليل تدفق المياه إلى العراق وسوريا بنسبة 50%، مما تسبب في أزمات زراعية وموجات هجرة.
شركات المياه المعبّأة
شركة "نستله" تحتكر المياه الجوفية في مناطق مثل البرازيل وإفريقيا، حيث تشتري حقوق استغلال الآبار ثم تبيع الماء للفقراء بأسعار خيالية.
2.2. النزاعات المائية كأداة استعمارية
أمثلة على حروب المياه:
- الكيان الصهيوني وفلسطين:
تستولي إسرائيل على أكثر من 85% من مياه الضفة الغربية، وتخصص للمستوطن اليهودي في الضفة 300 لتر يوميًا، بينما يحصل الفلسطيني على 70 لترا فقط، وهو أقل من الحد الأدنى الذي توصي به منظمة الصحة العالمية (100 لتر يوميًا).
في غزة، تمنع إسرائيل الفلسطينيين من حفر آبار مياه عميقة، مما يجعلهم يعتمدون على مياه ملوثة، ويؤدي إلى ارتفاع معدلات الأمراض المرتبطة بالمياه.
-مصر وإثيوبيا (سد النهضة):
سدّ النهضة يهدّد الأمن المائي لمصر التي تعتمد بنسبة 97% على مياه النيل، مما قد يؤدي إلى انخفاض الإنتاج الزراعي بنسبة 30% وزيادة البطالة.
تدعّم الولايات المتّحدة والصين مشروع السدّ لضمان نفوذ اقتصادي أكبر في المنطقة، ما يفضح كيف يتمّ استخدام "مشاريع التنمية" كسلاح جيواستراتيجي.
3. السيطرة على الممرات المائية والموانئ: الهيمنة البحرية كأداة استعمارية:
3.1. الممرات المائية كمفاصل للاقتصاد الرأسمالي العالمي
الممرّات المائية ليست مجرد طرق بحرية، بل هي شرايين الاقتصاد العالمي التي يتم التحكم فيها عبر القواعد العسكرية، الشركات الملاحية العملاقة، واتفاقيات التجارة غير المتكافئة.
أهم الممرات المائية الخاضعة للصراع الطبقي:
- مضيق هرمز: يتمركز فيه 40% من صادرات النفط العالمية، وهو تحت الحماية العسكرية الأمريكية لضمان تدفق النفط إلى الأسواق الغربية.
أي محاولة استقلالية لدول الخليج تؤدي إلى تهديدات عسكرية أمريكية (كما حدث مع إيران).
- باب المندب: تتحكم فيه القوى الكبرى عبر الحرب في اليمن، حيث دعمت السعودية والإمارات التدخل العسكري لضمان السيطرة على طرق التجارة.
- قناة السويس: رغم كونها تحت السيادة المصرية، إلا أن إيراداتها مرهونة بالديون الأجنبية، مما يجعل استقلال مصر الاقتصادي صعبا.
3.2. خصخصة الموانئ: استعمار جديد بآليات السوق.
أمثلة على خصخصة الموانئ:
-الموانئ الإفريقية:
تستولي الشركات الصينية والغربية على إدارة الموانئ في كينيا وتنزانيا ونيجيريا، مما يمنع الدول الإفريقية من التحكم في اقتصادها البحري.
-ميناء بيروت:
خاضع لهيمنة النخب المالية الفاسدة، وتم استخدامه كمركز لتهريب الأموال بدلا من تنمية الاقتصاد المحلي.
4. تونس: نموذجا لمقاومة الاستعمار المائي والبحري.
4.1. نهب الموارد المائية في تونس: شركة " ديليس" كنموذج للهيمنة الرأسمالية .
تعد شركة "ديليس" واحدة من أبرز رموز الاستعمار الاقتصادي الحديث، حيث تستغل المياه الجوفية في تونس ودول أخرى عبر شراء حقوق استخراج المياه المعدنية بأسعار رمزية، ثم تقوم ببيعها بأسعار مرتفعة، مما يؤدي إلى إفراغ الموارد المائية المحلية، وإفقار الفلاحين، ورفع كلفة المعيشة.
كيف تسيطر "ديليس' على المياه في تونس؟.
- استخراج المياه من منابع طبيعية:
تستغل "ديليس" مصادر المياه الجوفية في تونس دون رقابة صارمة، مما يؤدي إلى استنزاف المخزون المائي على حساب الأجيال القادمة.
-خصخصة المياه المعدنية:
بدلا من أن يكون الماء ملكا عاما، تبيع الحكومة التونسية حقوق استغلاله لشركات أجنبية مثل "ديليس"، مما يحرم المواطنين من الحصول على المياه الطبيعية بأسعار معقولة.
-تحكم في السوق المحلي:
"ديليس" تسيطر على جزء من سوق المياه المعبأة في تونس، مما يدفع الشركات المحلية إلى منافسة غير عادلة، ويدفع المستهلك إلى شراء المياه بسعر أغلى رغم كونها موردا وطنيا.
-التأثيرات السلبية لاستغلال "ديليس" و الشركات الاخرى للمياه التونسية:
- نقص المياه في المناطق الريفية، حيث يعاني الفلاحون من انخفاض مستوى المياه الجوفية بسبب عمليات الضخّ المكثف من قبل الشركات الأجنبية و المحلّية.
- ارتفاع أسعار المياه المعدنية، حيث تباع للمواطن التونسي بأسعار مرتفعة، رغم أن تكلفتها الحقيقية أقل بكثير.
- تفاقم أزمة الجفاف والتصحر، بسبب الاستهلاك المفرط للمياه الجوفية دون خطط مستدامة.
نستله ونهب المياه في دول الجنوب العالمي
ما يحدث في تونس ليس حالة معزولة، بل هو جزء من استراتيجية عالمية لاحتكار الموارد المائية، حيث تسيطر "نستله و ديليس" على مصادر المياه في عدّة دول:
-البرازيل:
تشتري حقوق المياه الجوفية بأسعار رمزية وتبيعها بأثمان باهظة، ما يؤدي إلى جفاف بعض المناطق الفقيرة.
-الهند:
استغلال المياه الجوفية أدى إلى تراجع منسوب المياه بنسبة 60% في بعض المناطق الريفية.
نيجيريا وجنوب إفريقيا:
يتم استغلال المياه لصالح الشركات الأجنبية، مما يزيد من فقر السكان المحليين.
4.2. السيطرة على الموانئ والممرات البحرية في تونس.
تتمتع تونس بموقع استراتيجي على الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط، وهو واحد من أهم الممرات البحرية في العالم، حيث تمر عبره التجارة بين أوروبا، إفريقيا، والشرق الأوسط. ومع ذلك، فإن الموانئ التونسية لا تخضع بالكامل لسيادة الدولة، بل تتأثر بآليات الهيمنة الاقتصادية للرأسمالية العالمية.
- ميناء رادس:
أهمّ ميناء في تونس، لكنه يعاني من التأخير، الفساد، وسيطرة الشركات الأجنبية التي تستغل الخدمات اللوجستية لصالحها.
الشركات الأوروبية، وخاصّة الفرنسية والإيطالية، تهيمن على التجارة في الميناء، مما يحرم الاقتصاد التونسي من الاستفادة الكاملة من موارده البحرية.
- خصخصة الموانئ:
خطر يهدّد السيادة التونسية
هناك ضغوط من المؤسسات المالية الدولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، لإجبار تونس على خصخصة موانئها كجزء من "الإصلاحات الاقتصادية"، مما يعني عمليًا تحويل الموانئ إلى أدوات في يد الشركات متعددة الجنسيات.
5. المقاومة ضد الاستعمار المائي والبحري في تونس.
5.1. تأميم الموارد المائية:
يجب إلغاء عقود الشركات الأجنبية التي تستغل المياه الجوفية، مثل "نستله"، وإعادة هذه الموارد إلى إدارة وطنية شفافة تخدم الشعب بدلًا من المستثمرين الأجانب.
5.2. استعادة السيطرة على الموانئ:
رفض خصخصة الموانئ، واستثمار الدولة في تطوير بنيتها التحتية بدلًا من بيعها للشركات الأوروبية.
5.3. الضغط الشعبي ضد خصخصة المياه والموانئ:
الحركات الاجتماعية التونسية، مثل الاتحاد العام التونسي للشغل، يجب أن تلعب دورًا في مقاومة الهيمنة الاقتصادية.
5.4. تعزيز التعاون مع دول الجنوب العالمي:
إنشاء تحالفات اقتصادية مستقلة مع دول إفريقيا وأمريكا اللاتينية لكسر احتكار الشركات الغربية.
إنّ ما تواجهه تونس من نهب مواردها المائية والسيطرة على موانئها ليس مجرد مشكلة محلية، بل هو جزء من الاستعمار الاقتصادي الجديد الذي يجعل دول الجنوب العالمي أسيرة للشركات متعددة الجنسيات. لكن المقاومة ممكنة عبر إعادة تأميم الموارد، تعزيز السيادة الاقتصادية، وتنظيم الحركات العمالية والشعبية. الماء والموانئ ليست مجرد سلع، بل هي أدوات تحرر يجب أن تبقى في أيدي الشعوب، لا في قبضة الرأسمالية الإمبريالية..