رسالة اليوم التاسع من رحلة الصمود إلى غزة: نرحل نحو غزة ولكن الشأن العام التونسي مازال يعنينا

الشعب نيوز/ وسائط: كتب النائب في البرلمان محمّد علي هذه الرسالة من عرض البحر والأسطول يتّجه إلى غزّة
أسطول الصمود: كيف أهدرت التلفزة التونسية فرصة تاريخية للتغطية والتوثيق؟
في زمن يندر فيه تميّز الإعلام العمومي العربي، ويكاد يصبح مجرّد صدى باهتًا للبلاغات الرسمية ونشرات الأخبار المعلّبة، كان يمكن لحدثٍ مثل أسطول الصمود لكسر الحصار عن غزة أن يكون لحظة فارقة لإعادة تموضع التلفزة التونسية كمؤسسة وطنية ذات ضمير حيّ. غير أن الحقيقة الصادمة أنّ التلفزة التونسية أهدرت مرة أخرى فرصة تاريخية، مهنية وتوثيقية، للالتحام بقضايا الأمة، ولتأدية دورها كمرفق عمومي يعكس نبض الشارع ويحفظ الذاكرة الجماعية.
في خضم زخم إعلامي وطني وعربي ودولي هام، مرّ أسطول الصمود لكسر الحصار عن غزة من الموانئ التونسية دون أن يثير حماسة التلفزة الوطنية ولا فضولها المهني. هذا الحدث، الذي حمل بعدًا دوليًا وإنسانيًا وتونسيًا بامتياز، كان من المفترض أن يتحول إلى لحظة إعلامية فارقة تثبت فيها التلفزة التونسية أنها لا تزال على صلة بالوجدان الشعبي والضمير التحريري الحيّ.
فقد شارك في الأسطول عشرات الشخصيات التونسية البارزة ونشطاء عرب وأجانب مهمين، متحدّين الحصار المفروض على غزة منذ أكثر من 17 عامًا، في قافلة دولية انطلقت من ميناء برشلونة، المدينة التي تعد رمزًا عالميًا للتضامن مع فلسطين. كل ذلك، ولم تتحرك كاميرات التلفزة الوطنية لتوثيق أو تحليل أو حتى تقديم تغطية تليق بحجم الحدث.
الأسطول في الموانئ التونسية: فرصة ميدانية ضُيّعت
ما يزيد من عمق الفشل الإعلامي أن الأسطول مكث لأكثر من أسبوع في الموانئ التونسية، متوقفًا في موانيء سيدي بوسعيد وقمرت وبنزرت. وقد كان ذلك كافيًا لتحويل الموانئ التونسية إلى ورشات إعلامية مفتوحة: تغطيات ميدانية ولقاءات مع المشاركين وريبورتاجات عن استعدادات الرحلة، ولقاءات مع نشطاء وتحاليل سياسية وحقوقية.
لكنّ التلفزة التونسية ظلت غائبة تمامًا. لم ترسل فرقًا صحفية، ولم تنسّق مع الجهات المنظمة، ولم تفتح المجال حتى لشهادات المشاركين التونسيين في الأسطول، رغم أنّ بعضهم من الشخصيات العمومية ذات الرمزية السياسية.
لا تغطية ميدانية… ولا حتى عن بُعد!
لم يقتصر غياب التلفزة التونسية عن أسطول الصمود على عدم إرسال طاقم صحفي ميداني إلى الموانئ التونسية أو على متن السفن، رغم أنّ الأسطول كان يضم عشرات الشخصيات التونسية الوازنة، من برلمانيين ونشطاء ومثقفين معروفين، بل إنّ الغياب شمل أيضًا أبسط أشكال التغطية عن بُعد.
ففي عصر تتوافر فيه آلاف الوسائل للتواصل والتغطية اللحظية — من مكالمات فيديو، إلى صور من الميدان، إلى شهادات تُبث عبر تطبيقات مجانية — لم تبادر التلفزة الوطنية حتى بتخصيص فقرة حوارية أو نشرة موسعة تُتابع تطوّرات الأسطول وهو يبحر أو يعترض عوائق، رغم أن القنوات الأجنبية والمنصات البديلة مازالت تنقل هذه الأخبار لحظة بلحظة.
لم يُبذل أي جهد لاجتلاب صوت من داخل السفن، ولا تم عرض صور أو فيديوهات، ولا حتى تقديم خريطة تُبيّن خط سير الأسطول. مازالت التغطية “صفرية” على كل المستويات، وكأن الأمر لا يعني تونس، رغم أن من على متن السفن كانوا يُخاطبون العالم باسمها.
عشرات الثواني فقط… كل ما سُمح به
رغم كل الزخم الرمزي والسياسي والإنساني الذي حمله أسطول الصمود، فقد كاد حضور هذا الحدث في التلفزة التونسية يقتصر على مقتطف لا يتجاوز عشرات الثواني، تم خلاله بث محتوى بيان لوزارة الداخلية بخصوص الاعتداء على احدى سفن الأسطول بميناء سيدي بوسعيد تم تعديله ضمنيا وزاريا ولم يتم تصويبه صحفيا.
وهكذا تم اختزال حدث دولي إنساني ـ كان يمكن أن يُحوّل تونس إلى محطة رمزية في طريق التضامن مع غزة ـ في زاوية أمنية ضيقة، بينما غابت كل الأبعاد السياسية والإنسانية والوطنية للموضوع.
لم نرَ تحليلًا، ولا تقريرًا، ولا حتى لمحة عن طبيعة الأسطول أو خلفية المشاركين فيه. لم يُفتح المجال لنقاش عمومي، ولا لمواكبة شعبية أو رسمية. وهو ما يكشف حجم الركود المهني، أو ربّما التوجيه التحريري المبطّن، الذي يفرمل تلقائيًا كل ما يتعلّق بفلسطين حين يخرج عن النسق التقليدي.
عندما يتحوّل الإعلام العمومي إلى أداة نسيان
الأخطر من ذلك كلّه هو الغياب التوثيقي الكامل. لم تُنتج التلفزة الوطنية أي مادة أرشيفية عن مشاركة التونسيين في الأسطول، ولا وثائقيًا يخلّد هذا الحدث، ولا حتى تسجيلات لشهادات المعنيين وعائلاتهم . بل تُركت المبادرة للاذاعات الخاصة والصحافة المستقلة، أو محتوى منصات رقمية بديلة.
بهذا المعنى، لم تخسر التلفزة فقط فرصة التغطية، بل تخلّت عن أحد أدوارها الأساسية: حفظ الذاكرة الوطنية. إن لم تُوثَّق مثل هذه الأحداث، فمتى؟ وإن لم تُمنح فلسطين هذا الحضور الاستثنائي في الإعلام العمومي، فمتى؟
هل هو تقصير أم موقف ضمني؟
حين تُهمل مؤسسة عمومية حدثًا بهذه الرمزية، فلا يمكن اعتبار ذلك مجرد سهو أو ضعف لوجستي. بل نحن أمام اختيار تحريري واعٍ بالتغييب، قد يكون محكومًا بموازين داخلية، أو توجيهات فوقية، أو خضوع لتوازنات سياسية غير معلنة.
لكن مهما كانت الأسباب، فإنّ الثمن يُدفع من رصيد المؤسسة ومصداقيتها. فمن لا يواكب لحظات التضامن الإنساني، لا يمكنه أن يدّعي لاحقًا دوره في قيادة الرأي العام أو التعبير عن نبض البلاد.
فلسطين ليست ملفًا خارجيًا… بل مرآة للهوية
لطالما شكّلت القضية الفلسطينية عنصرًا جامعًا في الوجدان التونسي، وقد أظهرت كل التحركات الشعبية والسياسية ذلك عبر العقود. وبالتالي فإن تغييب أسطول الصمود من التلفزة التونسية ليس فقط تجاهلًا لحدث دولي، بل ضربٌ لمكوّن من مكونات الهوية الوطنية.
تونس التي استقبلت قيادة منظمة التحرير، وتتظاهر باستمرار من أجل غزة وابدعت قافلة الصمود واحتضنت العالم في أسطول الصمود، لا تستحق إعلامًا يتعامل مع هذه القضايا بحياد بارد أو تجاهل مريب.
إنّ ما حصل مع تغطية أسطول الصمود ليس سهوًا بسيطًا في نشرة أخبار، بل مؤشّر على خلل عميق في الخيارات التحريرية للإعلام العمومي. والمؤسسة التي لا تعي حجم اللحظات التي تمرّ من أمام كاميراتها دون أن تُوثّق، تفقد تدريجيًا شرعيتها ودورهاً ومكانتها في الذاكرة الوطنية.
التلفزة التونسية اليوم أمام مسؤولية حقيقية: إما أن تُراجع ذاتها، وتُحرّر خطّها التحريري من منطق الحذر والخوف والتهميش، أو أن تُسلّم بأنّ الجمهور التونسي ـ الذي صار أكثر وعيًا وارتباطًا بمنصات بديلة ـ لم يعد ينتظر منها شيئًا.
لقد مرّ أسطول الصمود من تونس حاملاً الأمل والتحدّي والتضامن.
لكن كاميرات التلفزة لم تكن حاضرة، والتاريخ لا يرحم الغائبين
ملاحظة: بلغنا ان مشاركين في أسطول الصمود وهما حفيد مانديلا والنائبة في حزب فرنسا الأبية ماري ميسمور قد سجلا حوارين للقناة الوطنية التونسية قبل ان يغادر أسطول الصمود الأراضي التونسية لم يريا النور
26 سبتمبر 2025