المدرسة مكان لبناء الإنسان، القادر على التمييز بين المعلومة والمعرفة، وبين الإيمان الحر والتوظيف الإيديولوجي

الشعب نيوز/ باقلام النقابيين - في الأسابيع الأخيرة، عادت إلى الواجهة ظاهرة مطلب بعض تلاميذ المدارس والمعاهد الثانوية تخصيص فضاء للصلاة داخل المؤسسات التربوية. وقبل إصدار الأحكام، لا بدّ من تفكيك هذه الظاهرة موضوعيا، بعيدًا عن الأحكام الجاهزة، ومنطلقات الاستقطاب الإيديولوجي…
1- من حيث المبدأ، تضمن الدساتير والقوانين حرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية، ضمن ضوابط واضحة تضمن السلم الاجتماعي وتحترم المؤسسات.
ولا يمكن بأي حال من الأحوال إنكار أن فئة من التلاميذ – وخصوصًا من الجيل الحالي (الجيل Z وألفا) – تعيش تحوّلات هوية عميقة، تدفعها إلى البحث عن إجابات وجودية، من بينها الدين. ومن حيث الحق الفردي، من الطبيعي أن يسعى التلميذ إلى ممارسة قناعاته، ومنها الصلاة، خاصة إن شعر أن ذلك يساعده على إيجاد معنى أو توازن نفسي في عالم مضطرب.
ولكن، هل هذا كافٍ لجعل المدرسة فضاءً لممارسة تلك الشعائر؟ هذا ما يقودنا إلى.
2 - المدرسة – بحكم دورها ووظيفتها – ليست فضاءً للعبادة، بل فضاء للعلم وتكوين العقل النقدي، وفق مقاربات علمية وتربوية. هي مكان لبناء الإنسان المواطن، القادر على التمييز بين المعلومة والمعرفة، وبين الإيمان الحر والتوظيف الإيديولوجي.
لكن، لا يجب أن ننسى أيضًا أن هذه المدرسة، في كثير من المناطق، فقدت وظيفتها الأساسية وبريقها فلم تعد جاذبة كفضاء وبرامج ..
وعندما تُفرَّغ المدرسة من معناها كفضاء للعلم والنقد والارتقاء، يبحث التلميذ عن المعنى في مكان آخر. أحيانًا في التدين، أحيانًا في الانزواء، وأحيانًا في العنف وأخري في تعاطي المخدرات .
3 - يجب أن نرفض بشدّة تلك الموجات التي تسعى إلى شيطنة كل تعبير ديني يصدر عن الشباب،
لكن في المقابل، علينا أن نحذر من تحويل المدرسة إلى فضاء استعراضي ديني، أو إلى حلبة للصراعات الإيديولوجية باسم الدين. والمبدأ يقتضي تحييد المؤسسات التربوية عن هكذا تجاذبات. لا لافتعال المشاكل الجانبية فالمساجد موجودة قرب المدارس، ومواقيت الصلاة مرنة، ولا أحد يمنع التلميذ من أداء شعائره خارج زمن الدروس.
4 - جيل اليوم، جيل Z و Alpha، ليس مشروعًا للتمرد على المؤسسات فقط، بل هو جيل يعيش أزمة هوية حقيقية. هذا الجيل تمّ تهميشه، وتفريغه من أدوات العقل والنقد، مقابل إغراقه في عالم رقمي استهلاكي، يختلط فيه الدين بالترفيه، والذكاء الاصطناعي بالغيبيات.
هذا الجيل لم يجد في المدرسة أجوبة لأسئلته، ولم يجد في المناهج ما يشبع تطلعاته ويعزز قدراته . تركناه في مواجهة فراغ، فملأه كما استطاع. أحيانًا بالدين، وأحيانًا بالعنف، وأحيانًا بالمخدرات وأخري باللامبالاة. ومطالبته اليوم بمصلّى ليست دائمًا تعبيرًا عن تدين صادق، بل أحيانًا عن بحث يائس عن معنى وعن انتماء.
5 - لا تحلّ أزمة الهوية في المدارس بمنع الصلاة، ولا بتحويل المدارس إلى زوايا، بل بإصلاح جذري للمنظومة التربوية:
• إعادة الاعتبار للفكر والنقد والعقل؛
• تحسين البنية التحتية للمؤسسات؛
• توفير نواد ثقافية وعلمية ورياضية؛
• تكوين المربين تكوينًا يتماشى مع حاجيات الجيل الجديد؛
• إرساء مناخ قيمي يحترم التعدد ويكرّس روح المواطنة دون قمع أو إقصاء.
المدرسة مهمتها أن تُعلّم التلميذ كيف يفهم نفسه والعالم ويؤسس موقفه حول ما يمكن معرفته وما يجب فعله وما المسموح بالأمل فيه، نحن أمام ظاهرة معقّدة تتقاطع فيها الأزمة التربوية مع أزمة الهوية. ولا يجوز أن نختزلها في مجرد مطلب مصلّى داخل مدرسة. بل يجب أن نعيد طرح الأسئلة الكبرى:
• ما الذي حدث حتى أصبح التلميذ يبحث عن الصلاة داخل المدرسة بدل أن يبحث عن نادٍ علمي أو مسرح أو مكتبة؟
• لماذا لم تعد المدرسة فضاءً آمنًا للتكوين والتوجيه وتعزيز القدرات ودعمها؟
• ومتى سنفهم أن تحصين التلميذ من التطرف والانغلاق الفكري لن يكون الا بمدرسة ترتقي الي معايير العصر العلمية والحقوقية والإنسانية ؟
* سهام بوستة الأمينة العامة المساعدة للاتحاد