آراء حرة

في التعاطي الإعلامي مع إضراب عمال وموظفي المؤسسات البنكية والمالية والتأمين

الشعب نيوز/ رأي - رغم الضغوط المتعددة ومحاولات التشويه الممنهجة، فقد عرف اليوم الأول من اضراب عمال وموظفي المؤسسات المالية والبنكية والتأمين ، الذي يتواصل على مدى يومين، نجاحاً كاسحاً على مستوى المشاركة والانضباط النقابي، سواء في العاصمة او الجهات او في ساحة حمد علي. هذا النجاح أحرج كثيراً من الأطراف التي راهنت على فشل التحرك أو محدوديته.

اختلال مهني واضح

ومع ذلك، فإن الطريقة التي تناولت بها كثير من وسائل الإعلام هذا الإضراب كشفت عن اختلال مهني ومضموني واضح، تجلى في الخلط المقصود بين العمال والمساهمين، وفي محاولات توظيف الإضراب كمدخل لاستهداف الحق النقابي ذاته في الإضراب والتفاوض.

منذ الإعلان عن الإضراب، اكتفت معظم المنابر الإعلامية بنقل بيانات رسمية مقتضبة أو تعليقات اقتصادية سطحية، في حين غابت التحليلات التي تُبرز خلفيات الاحتقان وأسبابه الاجتماعية. وسادت لغة تُحيل إلى الإضراب باعتباره “تعطيلاً للمصالح الحيوية”، وهو خطاب يعيد إنتاج الصورة النمطية القديمة التي ترى في العمل النقابي تهديداً للنظام العام لا أداةً لتحقيق التوازن والعدالة.

خطاب وطني زائف

وفي حالات أخرى، تمّ إقحام مفاهيم الوطنية والمصلحة الوطنية بشكل مباشر في التغطية، لتصوير الإضراب وكأنه عمل مناوئ للوطن.

وبهذا المنطق المغلوط، جرى تغليف مصالح الريع البنكي بخطاب وطني زائف، حيث قُدّمت أرباح المؤسسات المالية ودوام نشاطها دون مساءلة على أنها “مصلحة وطنية عليا” ينبغي حمايتها عبر القبول بالأمر الواقع والصبر على الاختلالات.

هكذا تمّ خلط الاقتصادي بالسياسي، والاجتماعي بالرمزي، حتى صار الدفاع عن الحقوق يُقدَّم كتهديد للاستقرار، في حين يُصوَّر الإذعان للامتيازات كواجب وطني.

تحالف ضمني بين المال والاعلام

هذا الاستخدام الممنهج لخطاب “الوطنية” في غير محله يمثل تحويلاً خطيراً للنقاش العام: إذ يُختزل الوطن في مصالح رأس المال، وتُجرَّم المطالبة بالعدالة داخل القطاع البنكي بوصفها خروجاً عن الإجماع الوطني. وهو ما يعكس تحالفاً ضمنياً بين المال والإعلام والخطاب السياسي المحافظ، هدفه ضبط المجال الاجتماعي وتحجيم أي فعل نقابي مستقل.

ولا يمكن فصل هذا التوجه عن طبيعة البنية الاقتصادية للإعلام نفسه، حيث ترتبط العديد من وسائل الإعلام بعقود إعلانية ومصالح مباشرة مع البنوك والمؤسسات المالية، ما يجعلها تميل ،عن قصد أو عن تبعية اقتصادية، إلى تبني خطاب يبرّر هيمنة رأس المال ويقمع التعبير العمالي.

ومع غياب صحافة متخصصة في قضايا الشغل والعلاقات المهنية، يصبح المجال الإعلامي بيئة خصبة لإعادة إنتاج خطاب السوق، الذي يقدّم الربح باعتباره القيمة العليا، ويُهمّش الإنسان العامل باعتباره تكلفة.

في المحصلة، لم يكن ضعف التعاطي الإعلامي مع إضراب القطاع البنكي والمالي والتأمين مجرد قصور مهني، بل اختياراً أيديولوجياً واعياً في كثير من الحالات: اختيار يهدف إلى نزع الشرعية عن الفعل النقابي، وتحويل النقاش من مسألة حقوق إلى مسألة ولاء، ومن العدالة المهنية إلى الصبر على “الضرورة الوطنية”.

الأخطر أن بعض الخطابات الإعلامية ذهبت إلى شيطنة العمل النقابي نفسه، عبر تصوير النقابات كجهات "تعطل الاقتصاد" أو "تؤجج التوتر"، . هذا الخطاب لا يعكس فقط ضعف الوعي النقابي داخل الوسط الإعلامي، بل أيضاً تأثير المصالح المالية على التوجه التحريري لعدد من المنابر التي ترتبط بالإعلانات البنكية والعلاقات التجارية مع القطاع المالي.

الاعلام يقيد النقاش

وهنا تبرز مفارقة عميقة: فبينما يُفترض أن تكون الصحافة سلطة رقابة وتنوير، تحوّل بعض الإعلام إلى أداة لتقييد النقاش العمومي وتقويض الحقوق الدستورية. فبدلاً من الدفاع عن حرية الإضراب باعتبارها قيمة دستورية محمية، جرى الترويج لخطاب يُفرغها من مضمونها، بل ويُشكّك في مشروعيتها الأخلاقية.

لكن الحقيقة الجوهرية التي يجب التأكيد عليها هي أن الدفاع عن الحقوق الدستورية، وفي مقدمتها الحق في الإضراب والتفاوض الجماعي، هو من صميم مهنة الصحافة ومسؤوليتها الأخلاقية.

فالصحفي الذي يدافع عن حرية التعبير دون أن يدافع عن حرية الاحتجاج يفرّط في جوهر رسالته، لأن حرية الإعلام وحرية العمل النقابي تنتميان إلى الفضاء ذاته: فضاء الحقوق والمواطنة والكرامة.

إن الصحافة التي تصمت عن المساس بحق الإضراب، أو تبرر قمعه، تفقد أحد أعمدتها الأخلاقية، وتتحول من سلطة رابعة إلى أداة لتبرير السلطة والمال.

استثناءات محدودة

ورغم هذا السياق المشحون، لا يمكن إنكار أن عدداً من وسائل الإعلام أظهر قدراً من المهنية من خلال فتح المجال أمام نقابات القطاع البنكي والمالي والتأمين، والخبراء والمختصين للتعبير عن موقفهم وتوضيح خلفيات الإضراب وأسسه وتداعياته، غير أن هذه المبادرات بقيت استثناءات محدودة لم تغيّر الصورة العامة التي غلب عليها الانحياز والتبسيط، بل وأحياناً التبخيس.

إن استعادة التوازن في الخطاب الإعلامي تقتضي إعادة الاعتبار للصحافة الاجتماعية والمهنية، وضمان تعددية الأصوات داخل الفضاء العمومي، حتى لا يبقى صوت رأس المال هو الصوت الوحيد المسموع. فالإضراب ليس خيانة، والنقابة ليست خصماً، والوطنية لا تُقاس بمدى الصبر على الظلم، بل بمدى القدرة على مواجهته.

فاهم بوكدوس

* ملاحظة: العناوين الفرعية من وضع التحرير