مرسوم الجمعيات: الادارة تخرق القانون وتحول نصا تقدميا الى اداة للرقابة

الشعب نيوز/ نصر الدين ساسي* - نص المرسوم عدد 88 لسنة 2011 المتعلق بالجمعيات في فصله السادس بوضوح على أنه «لا يجوز للسلطات العمومية أن تعرقل نشاط الجمعيات أو تعطّله بصفة مباشرة أو غير مباشرة»، وجعل الفصل الخامس والأربعين من القضاء الجهة الوحيدة المخوّلة لتعليق أو حلّ الجمعيات، بعد إنذار كتابي معلّل.
غير أنّ الممارسة الإدارية والسياسية في السنوات الأخيرة عادت به في اتجاه الوصاية والرقابة ، إذ تحوّل المرسوم تدريجيًا من نصّ ضامن للحريات إلى وسيلة للضغط والتقييد، عبر تأويلات فضفاضة تتعلّق بتمويل الجمعيات أو "نشاطها السياسي".
في مرمى القرارات الإدارية
آخر قرار في الغرض قضى بتعليق نشاط المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية . فقد سبقه قرار مشابه شمل الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، إحدى أقدم المنظمات النسوية في البلاد، وجمعيات أخرى مثل "أصوات نساء" و"منامتي" اشتغلت كلها على قضايا النوع الاجتماعي، والعدالة البيئية، والشفافية الاقتصادية، وهي مجالات تُعتبر اليوم حساسة سياسيًا واجتماعيًا.
تُتهم هذه الجمعيات بتجاوز مجالها الجمعياتي أو بتلقّي تمويل أجنبي دون ترخيص مسبق، رغم أن المرسوم 88 لا ينصّ على أي نظام ترخيص مسبق للتمويل، بل يكتفي بفرض الشفافية والإعلان عنه عبر التقارير السنوية.
وبذلك، تُستعمل بنود المرسوم خارج سياقها القانوني الأصلي لتبرير قرارات تعليق إداري تمسّ جوهر حرية التنظيم.
بين النص والممارسة
من منظور قانوني، كل قرار إداري بتعليق نشاط جمعية هو تجاوز صريح للمرسوم نفسه، لأنّ الفصل 45 يربط مثل هذه الإجراءات حصريًا بالقضاء، ولا يخول لأي جهة تنفيذية اتخاذها من تلقاء نفسها.
أما الحجج المتعلقة بـ"النشاط السياسي" أو "التمويل الأجنبي"، فهي بدورها لا تشكل خرقًا مباشرًا للمرسوم إلا في حالة وجود إثباتات قانونية قاطعة بتمويل أحزاب أو مرشحين، وهو ما لم يحصل في أي من الملفات المطروحة حاليًا.
بهذا المعنى، الخرق الحقيقي اليوم ليس من جانب الجمعيات، بل من جانب الإدارة التي تجاوزت نص القانون، محوّلة نصًّا تقدّميًا إلى أداةٍ للتضييق على العمل الجمعياتي.
انكماش الفضاء المدني
ما يجري اليوم لا يتعلق بملف إداري محدود، بل بتحوّل أعمق في علاقة الدولة بالمجتمع المدني. فتونس، التي كانت تُقدَّم بعد الثورة كنموذج للحرية الجمعياتية في المنطقة بدأت تشهد الآن انكماشًا تدريجيًا في الفضاء المدني المستقل حيث يُعاد تعريف النشاط الجمعياتي بما يتماشى مع منطق الولاء لا الاستقلالية وتُفرّغ الأدوار الرقابية للجمعيات من مضمونها الحقيقي في مراقبة السياسات العمومية، خاصة في ملفات الفقر، والهجرة، والبيئة، وحقوق النساء.
إنّ هذا التحوّل يمسّ مباشرة مبدأ التعددية الذي شكّل إحدى الركائز والمطالب الملحة لما بعد 2011، ويهدّد بالتالي بانغلاق المجال العام في وجه المبادرات المدنية الحرة، ليُختزل العمل الجمعياتي في ما هو "مقبول" سياسيًا وإدارياً.
نحو مقاربة جديدة
تُظهر عديد التجارب بأن الضغط على الفضاءات المدنية والعمل الجمعياتي سيضعف مستويات الثقة بين مختلف الأطراف وسيبني مناخا متوترا بعيدا عن مقتضيات المسؤولية الرقابية بحسب مقتضيات الشفافية والمساءلة ومن هنا تتنزل ضرورة التحرك لتقديم مقترحات على غرار إرساء هيئة وطنية مستقلة لتنظيم العمل الجمعياتي ومراجعة الإجراءات الإدارية بما يضمن احترام القضاء واستقلاليته وتفعيل فصول المرسوم 88 كما وُضعت سنة 2011: لحماية الجمعيات وتأمين دورها ومساهمتها في البناء الديمقراطي.
إنّ المرسوم 88 على غرار عديد النصوص والمراسيم الأخرى يكيفها الإستعمال والتأويل الدي قد يحيد بها عن جوهرها التنظيمي والقانوني وكما قال الاتحاد العام التونسي للشغل في ختام بيانه: «المساس بحرية الجمعيات ليس مسألة قانونية فحسب، بل هو مسّ بجوهر الديمقراطية نفسها،فحين يُصادر صوت المجتمع المدني، تُصادر معه القدرة الجماعية على الحلم والإصلاح والمحاسبة.»
- من مقاله الصادر بعدد جريدة الشعب المؤرخ في 30 أكتوبر 2025 ص4