المدرسة العمومية التونسية : أزمات تتعمق وإصرار على المعالجات الفاشلة

بقلم : علي الجلولي المستشار في الإعلام والتّوجيه المدرسي والجامعي - افتتح العام الدراسي الجديد أبوابه على صدى وضع يبدو أنه الأسوأ والأخطر لا من جهة المؤشرات الكمية والكيفية التي تشمل كل واجهات الحياة التربوية فحسب، بل أيضا وأساسا من جهة حجم الاحتقان الذي يشمل كل مكونات الفضاء التربوي. عودة مدرسية أقر جميع الفاعلين التربويين فشلها عدا وزارة الاشراف التي بات واضحا أنها تعيش في عالم منفصل غير العالم الذي نعيشه ونحياه.
ـ عودة هذا العام تحمل الجديد
لقد افتتح العام الدراسي باجتماعات احتجاجية دعت اليها جامعة التعليم الثانوي ونظمها الجمهور الواسع للأساتذة بتأطير من نقاباتهم الأساسية يوم 13 سبتمبر 2025 أي يوم استئناف العمل بعد العطلة الصيفية، وهو احتجاج تعودت عليه القواعد الاستاذية منذ سنوات وهو في حد ذاته مؤشر ذي دلالة ومعنى على حجم تدهور الوضع التربوي، علما وأن العودة تزامنت مع استمرار اعتصامات بمقر المندوبيات الجهوية للتربية بستة جهات استمر بعضها لمدة أسبوعين، كما شملت الوقفات أغلب المندوبيات بمشاركة كل نقابات الاسلاك التربوية .
الجديد هذا العام هو تنظيم وقفة احتجاجية في ثالث أيام العودة أي يوم 17 سبتمبر 2025 بدعوة و تأطير من كل نقابات التربية انتظمت داخل كل المؤسسات التعليمية مدارس واعداديات ومعاهد، وانتهت الى تنظيم وقفات غضب شاركت فيها كل الأسلاك المنتمية الى وزارة التربية.
كما نظم قطاع التعليم الأساسي الاضراب القطاعي الوطني يوم 7 أكتوبر 2025، كما أن نقابتي متفقدي التعليمين الأساسي والثانوي قد أصدرتا لائحة عن الأنشطة التربوية التي ستتم مقاطعتها وهي تقريبا تشمل كل الانشطة عدا ما يتعلق منها بتفقد المعلمين والأساتذة المباشرين والمشاركة في الامتحانات الوطنية. وقد نظمت نقابة القيمين والقيمين العامين هيئة ادارية قطاعية يوم 21 سبتمبر 2025 صاغت فيها لائحة المطالب المادية والمعنوية ملوحة باتخاذ اجراءات نضالية ان واصلت وزارة الاشراف صم اذانها أمام مطالبهم المتراكمة.
في أروقة المؤسسات التربوية وساحاتها تتواصل كل مظاهر التوتر والاحتقان التي باتت مألوفة في الفضاء التربوي مثل العنف بين التلاميذ (حادثة معهد سيدي حسين اذ اعتدى تلميذ على زميله بسكين(. لكن وفي اطار استثنائية هذا العام الذي اعتبر وزير التربية أن عودته ناجحة، تم تسجيل مجموعة أحداث لابد من تفكيك طلاسمهما حتى نعي حقيقة ما يحدث من تحولات عميقة صلب المؤسسة التربوية. الحادثة الأولى كان فضاءها معهد غار الدماء من ولاية جندوبة يوم 18 سبتمبر 2025 حين أقدمت مواطنة على حرق نفسها في ساحة المعهد بداعي رفض ادارة المعهد نقل منظورها من قسم الى اخر، وقد ماتت هذه المرأة بعد أيام قليلة.
فيما تمكن اداريو أحد اعدايات السبيخة يوم 25 سبتمبر 2025 من انقاذ تلميذة السنة التاسعة التي هددت برمي نفسها من الطابق الأول .
والحادثة الثالثة دخول تلاميذ في معهد محمد بوذينة بالحمامات من ولاية نابل في تحركات من أجل فرض التمتع بمصلى في فضاء المعهد ودخلوا في “ نزاع قوة ” (bras de fer) مع ادارة المعهد بتنظيم صلاة جماعية في ملعب المعهد.
ماذا يعني هذا؟
ـ العودة المدرسية ليست ناجحة والاحتقان يتزايد
هذا يعني أن سلطة الاشراف لا ترى المعطيات والوقائع كما نراها وكما يراها كل عاقل. فأن يصل الأمر بمواطنة حد سكب البنزين على جسدها في ساحة المعهد واشعال عود الثقاب، فهذه حالة قصوى في مختلف دلالاتها واحالاتها ومتغيراتها بما فيها التي تهم النوع الاجتماعي، فالحالات “التقليدية” لحرق النفس ارتبطت بالذكور أساسا. لقد “تعودنا” على هذا المشهد في فضاءات الاحتجاج التي تشمل كل مؤسسات الدولة باعتبارها الجهة التي يتجه اليها الناس بالغضب، يستثنى من هذه الفضاءات الفضاء التربوي الذي ظل في التمثل الاجتماعي احالة على مؤسسة خاصة ذات اعتبار معنوي ورمزي. هذا الاعتبار أصبح اليوم موضوع تفكك و تراجع طالما أن هذا الفضاء ذاته قد تحول الى فضاء لا يختلف عن بقية الفضاءات الاجتماعية، فالمدرسة اليوم تضم بين أسوارها كل الظواهر الاجتماعية من عنف واستهلاك مواد مخدرة وتحرش وأيضا ممارسة العنف الأقصى تجاه الذات وهو ما عكسته حادثة غار الدماء، أو التهديد به مثلما حدث في السبيخة من ولاية القيروان حيث أقدمت تلميذة بالسنة التاسعة على التهديد برمي نفسها من الطابق الاول بعد حجز هاتفها الجوال من قبل الادارة، وهو موضوع يستحق الدرس باعتباره أحد اشكاليات مدرسة اليوم وتحولات السلوك التي تهم الجيل الحالي للتمدرس . فبقطع النظر عن الاسباب التي تقف وراء هذه الأحداث فان الفاعل التربوي العاقل عليه التقاط الرسائل وتفكيك الشيفرات من وراء هذه الأحداث التي لا يجب البتة التعاطي معها باعتبارها أحداثا عارضة أو معزولة أو غير ذات معنى، وهي في كل الحالات أحداث تؤشر لتحولات عميقة تشمل موقع المدرسة ووظيفتها. وأن يتم التعاطي من قبل وزارة الاشراف والدولة مع هذه المعطيات باعتبارها “أمرا عاديا”، فهذا هو ال”غير عادي”. فالدولة تؤكد يوميا بقاطع الأدلة والبراهين أنها مستقيلة من دورها ومهماتها في صيانة وحماية المرفق التربوي ولا أدل على ذلك تعاطيها مع مطلب تلاميذ من معهد محمد بوذينة الذين “تحركوا” للمطالبة بمصلى في المعهد. لقد أدلى أغلب الفاعلين الاجتماعيين بالرأي في الموضوع الا الفاعل التربوي الأساسي وهو وزارة الاشراف ومن ورائها هياكل الدولة التي تعامت كليا ولم تخرج للرأي العام الذي أصبح يتمول بالمعطيات حول ما يجري في بلده من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، هذه الوسائل التي لم تكن في يوم مصدرا موضوعيا ولا نزيها علما وأن هذه الوسائل تستعرض مختلف المقاربات الا المقاربة الرسمية والادارية التي تخير عدم الافصاح وعدم التكلم حتى في وسائل الاعلام الرسمية.
لقد كثر اللغط حول المطالبة بمصلى في المؤسسة التربوية بين “مرحب” بالدعوة التي تعكس “صحوة” عند الأجيال الجديدة التي ترى في ممارسة الشعائر تمسكا بالهوية الثقافية والحضارية وأن المدرسة لم تكن في يوم بمنأى عن هاجس تشكيل وصيانة هذه الهوية، وفي كل الحالات فان اقامة الصلاة في فضاء المعهد لن تعطل المرفق التربوي فضلا عن كون ذلك سيشكل معينا للشباب في التصدي لكل مظاهر الانحراف والانحلال القيمي والأخلاقي. وبين مشكك في خلفيات وسياق وأهداف هذا الطلب الذي غالبا ما ارتبط بتيارات سياسية تتغلف بالدين وهو ما تؤكده تجربة التيار الاخواني بمختلف فروعه لا في تونس فحسب بل في كل العالم، ويصبح الغطاء الحقوقي أي حق الفرد والأفراد في حرية ممارسة الشعائر الدينية دون قيد ولا منع هو الاطار الذي من خلاله يقع الضغط لفرض هذا المطلب الذي يتحول تدريجيا الى حامل لمشروع حركي مخفي في البداية ومعلن بعد تحقيق عملية التحشيد التي تنمو وتتعزز مما يعيشه الشباب التلمذي من استلاب رهيب كنتيجة حتمية لعملية تفقير ممنهج للفضاء التربوي الذي أصبح عنوانا لحالة فراغ معنوي وفكري وروحي متزامن مع تردي واسع للأوضاع المادية والاجتماعية لأغلب منتسبي المدرسة العمومية مما حول الفضاء التربوي الى فضاء منفر ومقرف مما عزز الأرضية المادية والذهنية لكل الظواهر غير السوية مثل العنف باشكاله وتعاطي المواد المخدرة والانخراط في حياة موازية للحياة المدرسية التي تحولت العلاقة معها الى نوع من العداء والمقاطعة من قبل عدد غير قليل من التلاميذ وهو ما يعكسه حجم الغياب عن الدروس وحجم التسرب المدرسي والهدر واسناد العقوبات وتنظيم مجالس التأديب والتربية لاصدار عقوبات تصل حد الطرد.
ان استعراضنا للأمثلة والأحداث لا يعني البتة انكارا لباقي ما جد في الفضاء التربوي طيلة هذه المدة القصيرة منذ انطلاق الموسم الدراسي الجديد، فقناعتنا عميقة أنه ما من مؤسسة تربوية من الابتدائي والأساسي والثانوي تخلو من كم من المشاكل أصبحت في عرفنا مشاكل تقليدية وعادية مثل الحالة المزرية للبنية الأساسية و الاكتظاظ والنقص الفادح في الموارد البشرية لمختلف الأسلاك و غياب النقل المدرسي والاعاشة في عديد المناطق خاصة المفقرة والريفية، فضلا عن التراجع الرهيب للوضعية المعاشية للمربين.
ـ أزمة المدرسة العمومية متواصلة ومستمرة
يقر أغلب الفاعلين التربويين أن وضع المؤسسة التربوية لا يحمل الجديد، بل هو استمرار لوضع ساد منذ عقود، وما يجري اليوم هو مجرد حلقة من حلقات التدهور الممنهج للمرفق العام في بلادنا. الأسباب الحقيقية لهذا التدهور في تقديرنا تتعلق بالخيارات الاساسية للدولة التي هي خيارات نيوليبرالية تتجه نحو تصفية القطاع العمومي بما فيها المرافق الحيوية الاستراتيجية مثل الصحة والتعليم والنقل، وهي جميعها تعاني أزمة بنيوية عميقة تجد ترجمتها في حجم التدهور لهذه الخدمات الحياتية للطبقات والفئات الشعبية. وتتجلى خيارات الدولة من خلال ميزانيتها التي تعكس بالضبط حقيقة توجهاتها، فميزانية وزارة التربية لا تكاد تتجاوز سبع ميزانية الدولة، وهي تعرف التراجع والتخفيض في السنوات الستة الأخيرة عوض الترفيع، وهو ما يعكسه الجدول التالي:
|
2020 |
2021 |
2022 |
2023 |
2024 |
2025 |
|
6،16% |
7،16% |
8،14% |
14% |
2،13% |
4،13% |
كما أن نسبة الاستثمار في القطاع التربوي من جملة نفقات الاستثمار للدولة ظلت ضعيفة جدا كما يبينها الجدول التالي:
|
2020 |
2021 |
2022 |
2023 |
2024 |
2025 |
|
6،8% |
8% |
8،7% |
7،11% |
4،12% |
8،8% |
علما وأن وزارة التربية هي المشغل الأول للاطارات والموظفين والعمال الذين يصل عددهم الى204,574عونا وهو ما يمثل الثلث تقريبا )من أصل 663,757 موظفا وعونا سنة 2025 ( . وهذا العدد “الضخم” من الأعوان والموظفين يستهلك أكثر من 90% من ميزانية الوزارة كأجور، بما يعني أن نسبة ضئيلة فقط تبقى لتمويل كل أوجه الحياة التربوية من بنية أساسية الى معاليم السير اليومي للمؤسسات. ان لهذه الأرقام انعكاسا مدمرا على واقع المرفق التربوي وهو أمر نتعاطى معه يوميا سواء كمواطنين أو كفاعلين تربويين، وما صور الهشاشة والبؤس في البنايات وفي ظروف العمل الا نزرا قليلا من أوضاع تعيسة لم تعد حكرا على مؤسسات الهوامش في الارياف والجبال، بل طالت كل المؤسسات بما فيها المتربعة في قلب المدن والضواحي. ومقابل بؤس المدرسة العمومية تنتصب هنا وهناك مباني ومؤسسات تربوية خاصة غاية في الجمال والكمال تحتكم لكل المعايير التربوية الدولية من غياب الاكتظاظ الى التمتع بقاعات آدمية محترمة يوجد بها المكيف والسخان ووسائل العمل العصرية والموارد البشرية المختصة، كل ذلك مقابل مبالغ طائلة تدفع مسبقا من قبل الطبقات والفئات القادرة على الدفع، أو التي فرض عليها اختلال أوضاع التعليم الى التضحية القصوى من أجل “الاستثمار” في الأبناء وتدبر المال اللازم لتدريسهم في القطاع الموازي من الطور الابتدائي الى العالي الذي كثيرا ما يكون في الكليات الغربية.
ـ أزمة أم تأزيم أو في التساؤل عن المخفي في أوضاع المرفق التربوي
لئن كانت القناعة واسعة سواء داخل الفضاء التربوي أو الاجتماعي أن مدرستنا تعيش أزمة حادة تشمل كل أوجه الحياة فيها، فان توجيه التفكير في أفق التساؤل عن ماهية وحقيقة هذه الأزمة ان كانت “طبيعية” بمعنى أنها نتاج لبلوغ السياسة التربوية حدودها بما يفرض موضوعيا عملية تغيير أو اصلاح، أو أن الأمر يتعلق بعملية تأزيم تقف وراءه جهات متنفذة. ان قناعتنا الحاصلة بحكم علاقتنا بالمرفق التربوي تؤكد لنا أن الوضع مركب ويتعلق بازمة حقيقية تعود أصولها وجذورها الى عقود خلت، وهي جزء من أزمة خيارات الدولة على مختلف الصعد والمستويات، وفي ذات الوقت فان هذا الوضع هو نتاج لعملية تأزيم ترتبط عضويا بمصالح الجهات والدوائر ذات النفوذ الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وأيضا التربوي. جهات ذات مصلحة مباشرة في دهورة أوضاع التعليم الى أقصى حد ممكن حتى يستفيد من ذلك القطاع الموازي والطفيلي الذي يدر الأرباح على جيوب اصحاب الأعمال، وهو ذات الأمر الذي يمس القطاع الصحي الذي تحول بفعل التوجهات والتشريعات الليبرالية المتوحشة الى قطاع ربحي تتنامى فيه الثروة بقدر انتشار الأمراض وبقدر عجز القطاع العمومي على استيعاب المرضى الذين يضطر جزء كبير منهم تحت ضغط الحاجة الى العلاج والتدخل الطبي الى التوجه الى القطاع الموازي الذي يتطلب قدرات مالية عالية حتى تتم الاستفادة من خدماته. ان وضع التعليم والصحة في بلادنا متشابه، فالامر يتعلق بمرفقين حيويين لا غنى عنهما، والقطاعان يعيشان أزمة حادة من جهة القدرات والامكانيات ومن جهة التوجهات الرسمية التي تنخرط في تفليس هذه القطاعات بما حول خدماتها الى خدمات بائسة ودون المأمول. لقد تحول فضاء المدرسة الى فضاء منفر، وتعرف نتائجها التدهور المستمر ولا أدل على ذلك حجم عدد المنقطعين سنويا الذي استقر منذ أكثر من عقد ونصف في حدود 100 ألف سنويا، وهو رقم كارثي بكل المقاييس ومن كل الزوايا، وهو فقط كاف لاعتباره دليلا قطعيا على خلل منظومتنا التربوية وفشلها. كما أن حجم الغيابات اليومية في المؤسسة التربية هو حجم مفزع ويحمل كل الدلالات والمعاني، وان لا توجد حسب علمنا معطيات كمية دقيقة حول ظاهرة الغياب عن الدروس، فان المعطيات الشحيحة التي تهم مؤسسات بعينها من جهات مختلفة تؤكد أن الغيابات تطال أكثر من نصف التلاميذ في بعض المستويات وفي بعض الفترات من العام الدراسي، وتتجاوز 90% في مستويات وفي مواد وفي أوقات معينة، علما وأن أغلب المؤسسات تعاني اليوم مشكل الزمن المدرسي الخاص بها والمرتبط بارتفاع عدد التلاميذ ونقص عدد القاعات والمدرسين مما دفع عديد المؤسسات أولا لاختصار فترة الراحة من ساعتين الى ساعة واحدة في اليوم، والى التدريس طيلة الوقت مساء الجمعة والسبت، وهو وضع منهك ومنفر ومدمر لعملية التمدرس. ان هذا المناخ اللاتربوي لن يعزز الا الظواهر الانحرافية والاجرامية التي بلغت مستويات عالية جدا والتي تهم استهلاك مواد مخدرة أو الانخراط في ممارسات عنفية ضد كل المكونات التربوية ، لذلك أصبحت المؤسسة التربوية فضاء يتصاعد فيه العنف بكل اشكاله وأساليبه في كل الاتجاهات، ويتنامى سنويا تحول المدرسة الى مكان يمارس فيه العنف الشديد باستعمال الالات الحادة ضد المدرس أو ضد تلميذ من طرف زميله.
ان حالة الاختناق التي أصبحت تؤشر لها المدرسة هي بصدد تغذية كل ما هو سلبي وكل ماهو عنيف في العلاقات بين مختلف الأطراف التي أصبحت تعيش الضغط والتوتر الدائم، وتتجه المؤسة تحت ضغط ضعف الامكانيات وانعدامها الى الاتجاه الى المعالجة الأسهل والأفشل وهي المعالجة الزجرية التي تستعيد كل أشكال العنف والتعسف والاكراه بما ينمي مظاهر النفور وردود الأفعال السلبية.
كما أن اعتماد المقاربة الأمنية بتكثيف الدوريات الأمنية أمام الاعداديات والمعاهد لم ولن يحل اشكالات السلوك والاتجاهات الانحرافية لدى التلاميذ، وهي في كل الحالات معالجة جزئية جدا و في الغالب غير مجدية ان لم تترافق، بل تُسْبَق باجراءات عميقة تستهدف وضع المدرسة ومنزلة التلاميذ فيها، فضلا عن مجابهة الأسباب المادية والمعنوية التي تدفع المراهقين واليافعين الى كل الممارسات غير السوية.
ـ حتى لا نبقى نتفرج، مهمات الفاعلين التربويين
ان قناعتنا عميقة أن المدرسة التونسية لن تقوم لها قائمة طالما لم تتخذ اجراءات جذرية وعميقة تتجه نحو توفير كل الشروط المادية التي ترتقي بالمدرسة وبالمدرس وبكل المنتسبين للفضاء التربوي وفي القلب منهم التلميذ ذاته ضمن مقاربة تنتصر للمدرسة العمومية وتجرم خوصصة التعليم، ودون مراجعة كلية للسياسة التربوية تنطلق من الربط العضوي لمختلف حلقات التربية تعليما وتكوينا وبحثا، وتراجع المناهج والبرامج والزمن المدرسي وعلاقة المدرسة بالمحيط من الأسرة الى مختلف فعاليات المجتمع المدني الى مؤسسات التكوين و الانتاج . وفي انتظار ذلك وحتى لا نبقى متفرجين وأقرب الى شهود الزور، نحن نرى أن الأوضاع الكارثية التي وصلتها مؤسستنا التربوية تتطلب تدخلا عاجلا لمعالجة بعض الاشكالات وصياغة بعض المداخل التي يمكن أن تخفف من وطأة ما يجد داخل جدران المدرسة وحولها.
ان نزعة تحميل المسؤولية الى ادارة المؤسسة وعلى رأسها مديرها، هي نزعة هروب الى الامام وتفصي من تحمل المسؤولية سواء من قبل هياكل الوزارة التي كثيرا ما تتجه الى تحميل المديرين والاداريين عموما عقبات ما يجد داخل مؤسسة لم توفر لها الوزارة أي شرط من شروط حسن التدبير، فكثر هم المديرون الذين لا يسلم لهم لأداء مهامهم الا مجموعة مفاتيح ويطلب منهم تسيير المؤسسة دون ارتكاب أي خطأ. أما التعاطي الجاهز مع الطلبات اليومية التي يتوجه بها المدير الى مندوبية التربية والتي تهم كل شيئ تقريبا من كراسي وطاولات وحواسيب ومواد تنظيف... وصولا الى اضافة أعوان و مدرسين بحكم النقص الفادح في الموارد البشرية التي تهم كل الأسلاك، فيكون من خلال اجابة واحدة موحدة: “ سيد المدير، تصرف “. وقد شبهها أحد المديرين بقوله : “ الوزارة/المندوبية تعطيك مفاتيح المؤسسة وتقلك: تعلم عوم”، وهو توصيف بليغ يعكس كم الضغط الذي يعيشه هؤلاء مما دفع العديد منهم الى تقديم الاستقالة. ان هذه الظروف التي يعيشها المديرون تفسر الى حد كبير اشكالات التواصل وأخطائه التي يقع فيها العديد منهم كما من القيمين والاداريين والمدرسين سواء في علاقتهم مع التلاميذ أو مع الأولياء أو فيما بينهم. وهي أخطاء تكون جسيمة في عديد الحالات وتصل حد التعامل اللاتربوي مع التلاميذ غالبا، ومع الأولياء أيضا، وفيما بين الفاعلين التربويين ذاتهم. طبعا هذا لا يعني البتة تغافلا عن الاخطاء بل والاخلالات وأحيانا الجرائم التي مارسها تلاميذ وأولياء.
ان أبرز خطأ يسم الممارسة التربوية اليوم هو الذي يتعلق بقدرات التواصل، وتبين الاشكالات الحاصلة في الفضاء التربوي أهمية هذا الجانب في تخفيف وطأة التوتر بما يساعد على حل بعض المشاكل وفي كل الحالات معالجتها معالجة عاقلة ومعقولة. لقد أظهرت الفيديوهات المنشورة على شبكات التواصل الاجتماعي، وهي بالطبع لا تصلح أن تكون مرجعا موثوقا وموضوعيا بحكم الاخلالات التي تتصف بها هذه التسجيلات الغير قانونية والتي غالبا ما تكون مجتزأة وأحادية من خلال تركيزها على الطرف الذي تريد “ادانته” وهو على العموم مدير المؤسسة أو أحد مسؤوليها. لكن وفي مطلق الحالات فان يمارس فاعل تربوي العنف المادي، أو بأكثر دقة أن يبادر بممارسة أي شكل من أشكال العنف فهذا مرفوض ومدان في كل الحالات وهو أمر لا يمكن البتة تبريره حتى بحجة “الدفاع عن النفس”، كما تعكس حالات الصياح على التلميذ ووليه، واتخاذ اجراءات تأديبية في رواق الادارة، تعكس أزمة تواصل وعجز عن حسن التدبير خاصة في ظل أوضاع هي على العموم متشنجة. وجبت الاشارة هنا أن مقابلة الولي خارج المكتب وخارج الشروط الأساسية للمقابلة هي خطأ في الممارسة المهنية للمربي مهما كانت صفته، في تقديرنا.
لقد تكررت في السنوات الأخيرة مظاهر اقتحام المؤسسة من قبل أولياء والوصول حد قاعات الدرس، واستهداف المدير وأعوان المؤسسة ومدرسيها لاهانتهم وحتى الاعتداء عليهم بالعنف المادي، فضلا عن التشنيع بهم وتشويههم في وسائل التواصل الاجتماعي. انها مظاهر تعكس أزمة المدرسة وتراجع موقعها الاعتباري بما يشرع لضرورة سن قانون لتجريم الاعتداء على المؤسسة التربوية ومنتسبيها، مع الوعي الكامل أن هذا القانون لن يحل إشكال العنف ازاء المدرسة، لكن أهميته ستكون أساسا معنوية بمحاولة ابراز موقع المدرسة كمرفق يؤشر لمدى تمدن وتحضر وتقدم المجتمع، مرفق يجب أن يحتل موقع الصدارة، بل موقع القلب في جسد المجتمع، إن دينامية المجتمع تنبع من المدرسة سلبا وايجابا، فان كانت المدرسة ذات اعتبار، فالمجتمع سيكون حيا ونشيطا، وان تم تهميش المدرسة فكل أزمات المجتمع ستتعمق وتتوسع.
ان الفاعلين التربويين اليوم بحكم ارتباطهم العضوي واليومي بالمدرسة بموقع الوظيفة وحكم الدور مطالبون بالتمسك بالدفاع عن المدرسة العمومية التي تتعرض الى الاستهداف من قبل الدولة وجزء من المجتمع. وهذا التمسك لا معنى له خارج القيام بالالتزامات المستوجبة قانونيا ومعنويا وأخلاقيا. ان توحيد الجهود بين مختلف الفاعلين هو أكثر من ضروري اليوم تيسيرا للتدخل وضمانا لأقصى درجات النجاعة فيه. ان الفعل الجماعي يعمق لدينا أهمية ومحورية المعالجة الحوارية للاشكالات بعيدا أكثر ما أمكن عن المعالجة الزجرية كجزء من التعاطي القهري مع الأفراد والمجموعات وهو ما تعكسه المعالجات الأمنية/ القضائية السائدة في العالم اليوم. ان حسن ادارة الحوار بين كل الفاعلين وفي مقدمتهم التلميذ والولي وما يقتضيه من تطوير وتعميق القدرات التواصلية كمهارة تربوية من شأنها امتصاص بعض مظاهر التشنج ومحاصرتها وهو ما تؤكده عديد التجارب الناجحة هنا وهناك.
لقد كان من المجدي لو تم التعاطي مع ولية تلميذ معهد غار الدماء بطريقة تواصلية تعطي لهذه المرأة اعتبارها وامتصاص جزء من حنقها عبر الحوار والاقناع بجرعة ايجابية تمس انسانية العلاقة، أما اعدام التواصل والاتجاه الى الخطاب الخشبي والجاف من قبل المؤسسة بدواعي قانوناوية يعلم المواطن/ة أكثر من غيره أنها دواعي لا تطبق الا عليه وعلى أمثاله من “المحقورين” فهذا ما عزز لدى هذه الولية قرارا مسبقا بالموت وليس مجرد التهديد به في ساحة المعهد، وهو ما تم اعداد كل شروطه المادية من حمل البنزين والكبريت وتنفيذه دون تردد بما يعكس حالة احتقان بلغت أقصى درجاتها واتجهت الى الحل/ الوضعية القصوى.
أما حالة تلاميذ معهد محمد بوذينة واحتجاجهم من أجل “الحصول على مصلى”، فلا يجب التباهي مطلقا أن “المشكل وقع حله” من خلال الالتجاء و/أو التهديد بالمعالجة التأديبية/الأمنية. ان المشكل في تقديرنا أعمق من مطالبة بفضاء لممارسة شعائر دينية، بل هو مؤشر لأزمة الهوية التي يعيشها الشباب والمراهقون واليافعون والتي يعبرون عنها بأشكال مختلتفة ومتنوعة وأحيانا متناقضة أو هكذا تبدو. ان شباب المعاهد يعيش أزمة عميقة تتمثل في اغتراب عميق يسود المؤسسة التربوية التي تغذي هذا الاغتراب كما تغذي التعبيرات الخاصة عنه بما فيها التعبيرات الغير تربوية مثل الارتماء في عالم المخدرات والعنف والجريمة بشكل عام، كما يتجه جزء من الشباب الى التعبير عن أزمة تشمل الذات وبنائها الى الخطاب والممارسات الدينية الفردية والجماعية، والذي يمكن أن يصل حد الارتماء في توجهات تكفيرية وارهابية وهو ما عاشته بلادنا ومؤسستنا التربوية قبل الثورة وبعدها وخاصة سنوات 2012/2015 حين انخرط عدد كبير من شباب المعاهد والجامعات في العصابات الارهابية الناشطة في تونس أو في أقطار عربية وخاصة ليبيا وسوريا. ان الفيديو الذي تم تداوله لتحرك تلاميذ المعهد النموذجي بالقصرين حول الاعاشة وظروف التمدرس بالمؤسسة، وخاصة خطاب التلميذ الذي صاغه بلكنة شرقية وبمحتوى يتماهى مع الخطابات التكفيرية، هي تأشير لظاهرة تتنامى وتتوسع عموديا وأفقيا في المجتمع عموما وصلب الشباب التلمذي خصوصا، وهي أحد مظاهر التدليل على عمق أزمة المجتمع التي يجب التعاطي معها من خلال معالجات سليمة لا معالجات قاصرة ثبت فشلها وثبت أنها تغذي الظواهر وردود الافعال الأكثر تطرفا ومغالاة. ان الاتجاه للتعامل الزجري رد عليه التلاميذ بسرعة قياسية بتنظيم “صلاة جماعية” في ملعب المعهد بمشاركة واسعة هي في الأصل مشاركة تضامنية وليست مشاركة منخرطة ضرورة في رفع المطلب، وواضح من الصور والفيدوات المتداولة ما يؤكد ذلك، فعديد ااتلاميذ أقاموا الصلاة وهم حاملون لأحذيتهم، علما وأن تزامن ذلك مع تداول خبر اغتيال القائد الفلسطيني “أبو عبيدة” الناطقة باسم “كتائب عزالدين القسام،الذراع العسكري لحركة حماس الفلسطينية، يمكن أن يفسر جزئيا ما حدث بحكم درجة التعاطف والتأثر الفائقين لدى كل الأوساط مع هذا الناطق المفوه في الخطاب في جانبيه الديني والنضالي. ان الاتجاه للمعالجة القمعية هو قصور، كما أن توجيه التحليل نحو الفهم الجزئي والأحادي لأفعال التلاميذ وردود أفعالهم، هو انخراط في رؤية سادت منذ عقود و لم تحل أزمة المدرسة واشكالاتها بل أبدتها ووسعتها بما يعسر اليوم معالجتها.
ـ خاتمة
ان المدرسة التونسية في خطر، وخط الدفاع الأول عليها هم أبناؤها وبناتها من الفاعلين التربوييين من مختلف الأسلاك، لذلك لا خيار أمامنا الا التمسك بها والعمل بكل قوة من أجل تحصينها ما أمكن من الانعكاسات المدمرة لما يجد في المجتمع من ظواهر كانعكاس لأزمة الخيارات المتبعة على كل الصعد.
ان الجيل التلمذي اليوم في حاجة الى الاصغاء والحوار والمرافقة، في حاجة الى فضاء مدرسي مستقطب وغير منفر، في حاجة الى زمن مدرسي فيه الدروس والفنون والرياضة. في حاجة الى علاقات أبعد ما أمكن عن التسلط والأبوية والعمودية صلب العائلة وصلب المدرسة وصلب المجتمع. دونا عن ذلك سنبقى سجيني مقاربات تقليدية عاجزة وفاشلة و عفا عليها الزمن.