لا فرق لدي بين نشرات الأخبار و إن تغير المقدمون و المضمون و الزمن
عندما كنت طفلا كنت أكره نشرة الأخبار، كان والدي يجبر العائلة على مشاهدتها قسرا في تلفازنا الوحيد. كل مساء كانت تطل علينا السيدة فتحية عدالة خنشة بتسريحة شعرها الملتوية كطريقة النظام في إيهامنا بأن كل شيء على ما يرام. كانت إفتتاحية النشرة مخصصة لنشاط الرئيس، ذلك الطيب الإجتماعي المستنير المحفز للحريات و المتقبل للمعارضة حسب تلفازنا الذي كان يكذب في كل شيء حتى في أخبار الطقس. كان الوزير الأول وفقا لدستور 59 موظفا بسيطا لدى الرئيس فبعد حامد القروي أتى محمد الغنوشي لترسيخ ذلك في ذهني و أنا إبن أواخر الثمانينات. كان يتم تصويره كموظف كادح يدخل مسرعا للقصر يتجاوز سياف القصر و هو موظف بروتوكولي يتبع طاقم التشريفات يظهر عليه دائما الإرهاق، يدخل الوزير حاملا حقيبته ليطلع الرئيس-الملك على حصيلة نجاحاته الفردية و يتم تصوير حركات الرئيس و هو يسدي تعليماته بالمزيد، فيستفيق التونسيون على مزيد من الفقر و اللاعدالة الإجتماعية و ضرب حرياتهم. كانت بقية فقرات النشرة مهمة أيضاً، كانت تصور مجازر روندا و البوسنة و الهرسك فكنا نحمد الله على الأمن و الأمان و تونس المصطبغة بالإستقرار السياسي كشعر صوفية صادق. كان كل شيء لصالح النظام و كان الإعلام العمومي في طريق مفتوح لتلميع النظام حتى إذا ما لم يجد ما يلمع إنبرى يشوه المعارضة. كان أبي المعارض السياسي حازما في تصنيف النظام كاذبا و مضللا و هو ما جعل الوعي السياسي لدي يجنح إلى سوء النية متى تعلق الأمر بالروايات الرسمية في حقل السياسة الغير قابل للأخلقة. هذه المشاهد العالقة بذاكرتي أصبحت تطفو بشدة هذه الأيام عندما أتصفح النشاط الرئاسي و النشاط الحكومي. فالرئيس منشغل بصلاته و قنوته في محراب خصومته مع المشيشي فصار يؤذن في كل مكان و يقيم صلاته، صلاة الغرباء، و كأنما ينازعه أحدهم عن قبلته. هذا الرئيس هو متقاعد ينبغي لمن بلغ سنه في التقليد التونسي إظهار ورعه و تقواه كلما دعت الحاجة كإظهاره لبعض الحزم و البذاءة أحيانا كي لا يحس بالتقليل من شأنه لأسباب فيزيولوجية بحتة..لقد صار المنبر الإعلامي لمؤسسة الرئاسة مكرسا لورع الرئيس و علاقته بربه و كأنها شأن قومي قد يعني التونسيين على إختلافهم و الذين أجمعوا على ضرورة تحييد الدين عن السياسة بوعي سنوات الإستقطاب و صراع الهوية المصادرة من سنوات البناء. الرئيس الطيب و المستنير و الملتزم و رئيس كل القوات كما يحلو له و للقائمين على صورته الإعلامية إخراجه قد يضطر يوماً إلى طلب الغفران من شعبه لتأخره عن خدمة مشاغله الدنيوية التي إنتخبه من أجلها قبل أن يصلي عليه صلاة الغائب!! رئيس الحكومة بدوره يظهر من حين إلى آخر في صورة موظف الدولة النشيط فيحرص على إكثار تنقلاته في اليوم الواحد شمالا جنوبا مظهرا حيويته و نشاطه كحرصه على إظهار الحزم المبالغ فيه ما يخفي خجله و تخبطه في أخذ القرار و هي السمة المسيطرة على خريجي العلوم الإنسانية و أنا أحدهم. المشيشي يحاول إستحضار صورة يوسف الشاهد في كل شيء، في إندفاعه، في مراهقته السياسية و حتى في إدارة خصومته مع ساكن قرطاج و يحرص المشتغلون على صورته و آخرهم مفدي المسدي على تصوير إنتصاره على الرئيس بواقع الحيوية و النشاط و تضخيم الإنجازات البطيئة. كان لا بد كي ننجز أي مقارنة بين صور العهدين أن نلتزم بالموضوعية و أن نحدد موقعنا منها من حيث إلتزامنا بالمعارضة لعدة أسباب... لقد شكل الأشخاص هنا ديكورا مشهديا ليس أكثر مع فارق أزمات الوطن وفقا لسيرورة التاريخ المنفلتة. اليوم و أكثر من أي وقت مضى أصبح الإعلام الرسمي عائقا أمام تونس المتصالحة مع نفسها و القادرة على تشخيص مكمن الداء دون إصطفاف وراء أحد المحاور لذلك سوف يتأخر فهم التونسيين لعمق معركة التعيينات على رأس المؤسسات الإعلامية العمومية و آخرها وكالة تونس إفريقيا للأنباء. من المؤكد أننا سوف نضطر لخسارة أكثر من هذا الزمن المهدور من معركة البناء ما دام المشهد يصطبغ بألوان من يحكم و ليس بواقع الحكم نفسه. حتى ذلك الحين لا فرق لدي بين نشرات الأخبار و إن تغير المقدمون و المضمون و الزمن السياسي أيضاً. صبري الرابحي ملاحظة هامة : الاراء الواردة في هذا الركن لا تلزم الا اصحابها ولا تعبرفي شيء عن موقف "الشعب نيوز" من المسائل المطروحة
|