آراء حرة

الثورة التونسية المؤجلة

بقلم: صبري الرابحي 
لم تكن جراح هذا الوطن بحاجة إلى أكثر من التقطيب بأنامل الصادقين ساعة أتيح لنا الخلاص بواسطة المغامرة و الدم. لقد كان الشارع منذ ذات 17 ديسمبر هو ذلك الفضاء الذي تتبعثر السلطة فوق طرقاته وأرصفته لتستمع عنوة لهتافات الحناجر"شغل، حرية، كرامة وطنية" و غيرها من الشعارات المختزلة لمطالب شعبنا و التي أبدع في صياغتها بكل وضوح دون مواربة و دون ترتيب للأولويات.

كل شيء كان عفويا موغلا في طيبة العجائز منتشيا برومنطيقية الثورة حالما بربيع تأخر كثيرا، حتى سرقت الثورة  في غفلة منا وسط مراهقتنا السياسية و إنشغالنا بصراعات كشفت كم العنف المستبطن فضلاً عن بحثنا المرضي عن ما لا يمكن إصلاحه من خلافاتنا.

و هنا باغتت منظومة الحكم الخامدة كل أحلامنا بكثير من العنف الإجتماعي و الإقتصادي بواسطة طبقة سياسية حاكمة تخفي "ميزانتروبيا" قديمة لهذه الأرض و ساكنيها و كثيرا ما جاهرت بها.. فتأخرنا في تلقف الرسالة كما وردت.
لم يكن عموم التونسيين مهتمين بالشأن السياسي عدا سخطهم الدائم من تردي أوضاعهم الإجتماعية و التضييق على حقوقهم الإقتصادية بسبب رأس النظام أنذاك زين العابدين بن علي حتى إستطاع بعض المغامرين من الخارج فتح أعينهم على ممارسات عائلة زوجته وأصهاره. عندها تبين التونسيون أن لا خلاص لهم إلا بأن يغرب هؤلاء عن سماء قوتهم المحرم. لقد منح تسارع الأحداث و هروب بن علي و إعتقال أصهاره لحظة سحرية كان يظن التونسيون أنها لن تتحقق أبدا حتى دفعوا ضريبة الدم و ألهبوا أيام شهري ديسمبر و جانفي و كتبوا صفحات الثورة الأولى.

كان الحراك برمته عفويا إرادياً غير فئوي و غير منفصل عن ما راكمه التونسيون من تجرأ  على غطرسة النظام. فخلال فترة حكم بن علي على الأقل عرفت تونس عديد الإحتجاجات و كانت أشدها أحداث الحوض المنجمي سنة 2008 التي أسقطت وهم النظام المتماسك و الشعب الخانع الذي إستقر على الخوف من النظام الفاشستي البوليسي الذي بناه بن علي بنفسه منذ أن كان مديرا للأمن في أواخر الثمانينات. كان الشارع متحركا ديناميكيا لا يهدأ و إنبنت هذه الحركية على الوعي السياسي المتنامي لدى النخب من قواعد الأحزاب و النقابيين و الطلبة و إنتشر هذا الوعي بدخول وسائل التواصل الإجتماعي و إكتساح التونسيين لشتى المنابر بما فيها التي طالها الحجب الإلكتروني لنظام بن علي.

لقد كانت صبيحة 15 جانفي مختلفة عن صباحات التونسيين لأكثر من 23 سنة على الأقل. لم تكن نشرات الأخبار تعدد نجاحات عهد التحول و لم يرالتونسيون كل شيء مرتبا على أهواء ذلك العسكري القديم الذي فرض الإنضباط حتى على معارضيه بأن قام بتسقيف مطالبهم بمجرد الحصول على تأشيرات العمل القانوني و العلني داخل مربع الديكور السياسي طبعا، لذلك كان العمل السياسي الطلائعي سريا مطاردا من النظام.

لقد أمضت المعارضة الجدية لبن علي خاصة من الأوساط اليسارية عديد السنوات في مشاكسة النظام بكل الطرق المتاحة و كان الإتحاد العام التونسي للشغل منبرا جماهيريا و حاضنا متينا لهذه التحركات غير أن تسارع الأحداث و "صدمة" هروب بن علي أربكت هذه التجارب بالرغم من نضجها و جعلتها تخسر أفضلية الزمن السياسي أمام الأحزاب اليمينية و خاصة اليمين الديني كحزب النهضة. هذا الحزب الذي خرج للنشاط العلني بعد أقل من شهر عن هروب بن علي كان آداؤه يكشف إستعداده الكبير لخوض تجربة الحكم على جميع الأصعدة و أستطاع إلتهام الفضاء العام وسط دهشة بقية الأطراف. و الحقيقة أن حزب النهضة كان يتغذى من تأجيج القضايا الخلافية للتونسين و التي لم يكونوا يستعجلون الخوض فيها أمام أهمية الرهان الإجتماعي الذي أسس للثورة و تغيير رأس النظام.

لقد إستطاعت النهضة تقسيم التونسيين إلى متدينين و لا دينيين في مرحلة أولى ثم فرضت عليهم الإختلاف حول تحصين الثورة أو التطبيع مع أركان نظام بن علي ثم إستفادت من الإستقطاب الثنائي مع حزب الباجي قائد السبسي الذي إفتك لخاصة نفسه كامل الأصل التجاري للفكر الحداثي و التقدمي داخل اليمين الليبرالي مما أنتج بلا شك توافق اليمين على تأجيل الإستحقاقات الإجتماعية و الإقتصادية حتى سنة 2019 موعد الإنتخابات التشريعية و الرئاسية والتي سبقتها بأشهر قليلة وفاة الباجي قائد السبسي دون أن يترك وريثا شرعيا لحزبه ولا إرثا ماديا لنهجه السياسي في تحويل الصراع حول المنوال المجتمعي إلى مجرد خطاب إنتخابي شعبوي.

كانت أشهر ديسمبر و جانفي من كل سنة تشهد عديد التحركات الإحتجاجية في علاقة مباشرة بدخول قانون المالية حيز النفاذ و الذي كان يذكر التونسيون بعدم نجاحهم في تحقيق الشغل و الحرية و الكرامة و التي كانت هي الشعارات المركزية لثورتهم، لم ينجح التونسيون في إسقاط جلاديهم رغم تغير الأزياء و المسميات و كانت لسنوات عدة عصابة السراق تتلون سياسيا و حزبيا حتى تفلت من تنامي المطلبية في ظل تأجيل الإستحقاقات.. كان اليمين متمترسا وراء أغلبيته البرلمانية و إمتداده داخل مفاصل الدولة و كان اليسار منشغلا بمراجعات تأخرت كثيرا أضعفت أداءه في المعارضة رغم حجمه الجماهيري المتصاعد إلى حدود سنة 2019 حيث  دخل على الخط الرئيس قيس سعيد الذي لم تعرف له حد تلك الساعة أي هوية سياسية كلاسيكية و لا حتى أي تعريف مبتدع لفكره السياسي.

كان الرئيس يتحدث كثيرا عن الثورة و سرقتها وإستردادها و كثيراً ما كان يستعمل المعجم الديني و الذي إستفاد منه اليمين الديني كثيراً عندما إنتبه إلى ضرورة عدم الإنفصال إتصاليا عن هوية التونسيين وجذورهم. كان الرئيس يرسم لنفسه مع كل ظهور إعلامي صورة الزعيم القوي المطلع على لصوصية النخب السياسية الحاكمة مع إغفاله لأي ردة فعل إجرائية حتى صار خطابه إستعراضيا مستهلكا لا يستهوي التونسيين.

ثم جائت لحظة 25 جويلية التي إستبشر بها التونسيون وخرج الآلاف بعد خطاب الرئيس للهتاف بمساندتهم له رغم تخلف الكثيرين منهم عن التحركات الإحتجاجية في نفس اليوم. لقد مثلت إجراءات 25 جويلية لدى الكثيرين تصحيحا للمسار الثوري المشوه على طريقة زعماء أمريكا اللاتينية وهي الطريقة التي إستطاع من خلالها قيس سعيد حشد الآلاف من التونسيين حول خياره السياسي بالمضي في تفكيك المؤسسات السياسية التي عطلت الإستحقاقات الإجتماعية والإقتصادية للتونسيين وأرهقت قدرتهم الشرائية و كرست الفساد والإفلات من العقاب.

بدأ إنتظار التونسيين للحكومة التي ستنفذ هذا البرنامج والتي تأخرت كثيرا إلى أن بعثت أولى رسائلها بأن قطعت مع النوع الإجتماعي الكلاسيكي في تكليف رجل برئاستها و توالت رسائلها بأن الإصلاح سيستغرق الكثير من الجهد والوقت. لكن الغريب في الأمر هو تمسك الرئيس بتخوين كل الأطراف والقوى الفاعلة في المشهد حتى تلك التي لم تشارك في الحكم ولم يثبت تورطها في إفساد الحياة السياسية للتونسين. وهو ما تأكد من خلال الأمر الرئاسي الذي إتخذه قيس سعيد كتنظيم مؤقت للسلطات والذي جعل من خلاله نفسه المسؤول الأول عن كل شيء مما وسع دائرة المطلبية حوله دون رؤية واضحة. وكان أهم إختبار للرئيس هو مسألة التعاطي مع مطالب المعطلين عن العمل في تنفيذ تعهدات الدولة بتشغيلهم. فوجد قيس سعيد نفسه في مواجهة الطبقة الإجتماعية الأكثر تأثيرا في المشهد بل هي الطبقة الإجتماعية المحددة لأي أفق سياسي للنظام الذي يبشر به قيس سعيد.

عندها كان موقف الرئيس مخيبا لآمال المعطلين ورسالة واضحة حول إمكانية التراجع عن إلتزامات الدولة و التراخي في الإلتزام بإستمراريتها. لقد شكل آداء الرئيس المنفصل عن كل القوى المؤثرة في المشهد فرصة لمزيد عزله عن المحيط الطبيعي لأي عملية إصلاح موضوعية كما شكل إنفراده بالرأي تحذيرا جديا حول مستقبل البلد بما يكتنفه من غموض يصرعليه الرئيس. حتى قيس سعيد نفسه و الذي حمل لواء تخليص الثورة من براثن معطليها أصبح بدوره أحد عوامل تأجيلها ما دام ينكب على برنامج سياسي مبتدع و يهمل الجانب الإجتماعي و الإقتصادي و ينخرط بدوره في تحويل الثورة الإجتماعية بالأساس إلى المطالبة بتغيير النظام السياسي كما يصر على تحويل وجهة الحوار الإجتماعي إلى حوار أكاديمي نخبوي حول من يحكم و كيف يحكم دون أن يحقق كل هذا المؤجل طيلة عشر سنوات.
(يتبع)