جانفي المختلف: جانفي الكشف والمُكاشفة والانكشاف ؟؟؟
بقلم محمد الجابلّي
جانفي الخميس الأسود...جانفي انتفاضة الخبز الخبر...جانفي الثورة أو وهم الثورة...كل جانفي فيه استحقاقات ومراجعات...جانفي هذا يبدو مختلفا فيه غربال حقيقي لا حيادية فيه...فيه خيبات وانتظارات...
انتهى رصيد النخب السياسية ...ليس بمنظور إيديولوجي بل بمنظور واقعي، كل من تطلع أو تطوع للحكم نال نصيبه من التجربة في عشرية انبنت على الخداع والزيف باسم الانتخاب والصندوق والشعارات الخادعة...الشعب ينظر وينتظر، وهو كما يقول المثل العامي "رقاد في الخط ودوّار في الحلّة" عشرية أفرغ فيها الفاعلون السياسيون يمينا ويسارا ما في جعبتهم من فنون القول والحيل والأحابيل ...عشرية أفرغ فيها السياسيون بالمفهوم الشارعي الشبابي "القرينته" السياسية...لكن حساب الحقل يختلف عن حساب البيدر كما يقال...
النخب السياسية تحمل إعاقات كثيرة من مراحل سابقة ...فيها جوع وفيها حقد وفيها "جحوية" تدعي الذكاء والذكاء يعوزها...
تذكرت عنوان كتاب لأستاذي صالح خليفة درسني بمعهد 18 جانفي بجبنيانة... كنا يافعين وكان هو شابا متألقا أهدانا كتابه البكر "la ronde des affamés " عشرية مضت مع احترامي لبعض النوايا الطيبة مثلت "حلقة الجوعى او الجائعين" الذين لم يفكروا في الوطن بقدر تفكيرهم في ذواتهم أو أحزابهم أو في دوائر قرباهم...عشرية الوفاق تحت قناع النفاق والسكوت عن الأهم وهو ذلك المنسي من انتظارات الشعب وما أسميناه زمن حلمنا "باستحقاقات الثورة" ...
جانفي هذا هو غربال تصفية الحساب مع نخب لم ترتق إلى مستوى اللحظة التاريخية...نخب فوتت موعدها مع التاريخ وركنت في الزوايا المعتمة لتقاسم الغنائم القليلة ...
في الشعوب السليمة نجد النخب في مقدمة الاصلاح أو الثورة ...وفي لحظتنا الحرجة نجد النخب المربكة ترتدي عباءة سلفية وتتلفع بعباءة الدساتير والقوانين والحقوق التي لم تنجز ولم تحترم...نخب الورق تدافع عن الورق ولا شيء غير الورق...
جانفي هذا هو جانفي جرد الحساب القديم والجديد...
الشعب له انتظارات وترتيبات وهي معلومة بحساب الواقع ومنطق الزمن...وبعض النخب لهم مصالح وترتيبات وهي منظورة ومفضوحة بحكم شبكة المصالح التي نشأت تحت ستارات وأقنعة ...
ولا بدّ من مراجعة التوصيفات العامة والتدقيق في المصطلحات مثل مصطلح "النخبة" عندنا ...والقصد هي النخبة المسيسة إذ نبتت شخصيات كالفقاقيع جاءت بهم ظروف والتباسات بعضها معلوم وبعضها غامض...عشرات بل مئات نعدهم من النخبة هم صنيعة توجيه دعائي برعاية اعلام موجه...
أما النخب "الوطنية" كالمفكرين والمبدعين والكتاب وسائر المثقفين من الذين تسلحوا بعقل نقدي...فقد تمّ إقصاؤهم بمكر مدروس لأنهم لم ينخرطوا في لعبة الوفاق والنفاق ولا يمكن أن يكونوا شهاد زور على مرحلة سادت فيها الأقنعة والزيف والمصالح...
غربال جديد يذكر بغربال "ميخائيل نعيمة" في النقد الأدبي...غربال سيفصل البر عن الزؤام...هناك صف وطني مواطني لا دخل للإيديولوجيا فيه ...هو صف الاصلاح والممكنات الخيرة الجماعية...وهناك صف محكوم عليه بالفناء وهو صف التهريج صف "سلفي" تقنع بلبوس البهرج المجلوب من مقاسات أخرى لا صلة لها بالواقع ...
الحدث الأبرز في جانفي العام هو فك الارتباط بين الشعب ونخبه المعلنة، تلك التي ساقها أو سوقها القدر لتحتل الواجهة البلورية الهشة...نخب الاعلام والشركات العابرة للقارات...نخب التبلعيط و"دقان الحنك" ...هاهو الشعب الكريم يرصد ويترصّد بين الحقائق والأراجيف بعين مُغمضة وأخرى مفتوحة...سوق الدعاية السوداء زمن الحروب: " الشهاري ما ثماش...الدولة أفلست...الخزينة فارغة...الجيش غاضب ...الشركات والمستثمرون هربوا...الخبز ما ثماش...الطحين بأنواعه "الأزرق أو الأصفر" مقطوع..."
أما اليقين فلا يقين كما قال أبو العلاء في لزومياته ...اليفين الأوحد هو سقوط النخب في مستنقع فك الارتباط بينها وبين "العامة والدهماء " حتى بات المواطن يستعيذ بالله كلما سمع "نخبا أو نخبة " تتكلم...
جانفي الكشف والانكشاف والمُكاشفة ...جانفي العري الفاضح لنخب "هاربة بيها فرس"...جانفي الغضب لكنه غضب من نوع جديد ...ذلك الغضب الكظيم وهو من أشد الأنواع ومن أكثرها خطرا...
يقول بن حزم الأندلسي "مادخل عسيرا لم يخرج يسيرا" لأن الحمل الكاذب يخلف لوثة عقلية ونفسية...عشرية بيع الأوهام لم يبق منها غير لوثة إلى زوال...
آن الأوان ونحن على حافة "الهوة" أن نخرج من إيديولوجيا المصالح والفئات إلى إيديولوجيا المواطنة الجامعة...إيديولوجيا "أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك" أن نؤسس لديمقراطية حقيقية تبدأ من المفقرين الباحثين عن شربة ماء وعن رغيف بسيط ونظيف لم تلوثه الولاءات...
جانفي هذا يعبر مُختلفا ...دون ضجيج...فيه صخب لكنه صخب داخلي مكظوم ...صخب الحقائق المغيبة في تهريجنا العمومي ... جانفي الصبر والقدرة على التحمل...لكنه صبر الجمال على أثقالها...صبر الوزر المحمول لكنه حمّال ممكنات...