عناوين الاستقواء بالتدخل الأجنبي لم تتغيّر، لكن الشعب من تغيّر بعد عشريّة "التحيّل الديمقراطي" ولن يلدغ بالتدويل مرتين...
بقلم خليفة شوشان
بعد تصريح القاضي مراد المسعودي رئيس الجمعية التونسيّة للقضاة الشبّان إثر لقائه بوفد من الديبلوماسيين من دول أجنبية اعتزامهم تقديم شكايات دوليّة ضد مجموعة من المسؤولين من بينهم وزير الشؤون الخارجية ورئيس الجمهوريّة إلى المقرر الخاص للأمم المتحدة، في سابقة خطيرة في تاريخ البلاد ومن السلطة القضيّة المحمولة على التحفّظ والحياد والاستقلاليّة. توضّح أنّ العديد من الأطراف السياسيّة والمنظمات المدنيّة حسمت أمرها بالمضيّ قدما في تدويل الأزمة السياسيّة التونسيّة ووضعها على طاولة المنتظم الدولي..
نبدأ بقصّة السيناتور الأمريكي "كريس مورفي" الذي أصبح اسمه مقترنا في ذهني مباشرة برئيس الإدارة المدنيّة الذي عينّه "جورج بوش" حاكما بأمره على العراق "بول بريمر" قبل تفكيك دولته و"اعادته إلى العصر الحجري" كما سبق أن توعّد "جيمس بيكر" عام 1991 خلال لقاء عاصف مع وزير الخارجيّة العراقي طارق عزيز في جينيف، قبل ساعات من الحرب على العراق، وكيف رفض استلام رسالة جورج بوش التي وجهها الى الرئيس صدّام حسين، ليطلق جملته الشهيرة "الولايات المتحدة ستعيد العراق الى العصر الحجري". تماما كما أصبحت بيانات المتحدث باسم وزارة الخارجيّة الأمريكيّة "نيد برايس" السافرة والممعنة في التدخل في الشأن الداخلي السياسي التونسي في تواترها ووقاحتها تذكرني بتدخلات وزير الخارجية "كولن باول" تمهيدا لتخريب العراق. التهديد الذي استقبلته المعارضة العراقيّة العميلة باعتباره فتحا عظيما وبشرى للديمقراطيين. بطبيعة الحال السلالات المعارضة التونسيّة المستنسخة من المخابر نفسها التي هجّنت المعارضة العراقيّة فشلت في دخول البلاد على ظهور الدبّابات الأمريكيّة رغم استعدادها وتحمّس بعضها لذلك، ولعلّ ذاكرتنا ما زالت تحتفظ بتصريحات الطرطور المنصف المرزوقي وصديقة بريمر سهير بلحسن والسفيه الغنّوشي وهم يتوسّلون التدخل الأمريكي والفرنسي لإسقاط بن علي لولا أنّ الشعب التونسي والوطنيين الصامدين في الداخل حسموا المعركة مع بن علي ومنحوهم فرصة حفظ بعض ماء وجوههم وغفروا لهم خياناتهم. لكنْ للأسف هذه السلالات التي رضعت ذلّ العمالة و"البيزنس" الديمقراطي والحقوقي وراكمت الثروات لم تتب وبقيت وفيّة لعاداتها، ومع أوّل فرصة وجدوا فيها أنفسهم خارج "مغانم الحكم"، ومصالحهم وامتيازاتهم التي راكموها في عشريّة "التعكعيك" مهدّدة نزعوا أقنعة الوطنيّة الزائفة والسيادية الكاذبة ونفضوا الغبار عن وجوههم القديمة القبيحة وسارعوا إلى استنساخ نفس تجربة توسّل التدخّلات ضدّ خصمهم قيس سعيّد واقناع رعاتهم و"أسيادهم" بأنّه نسخة كربونيّة لبن علي.
المفارقة أنّ وجوه المعارضة الصدئة نفسها التي طالما أشعرتنا سنوات الجمر ونحن المحشورون في خنادق النضال الميداني الحقيقي بالاشمئزاز والحرج بمواقفها وانبطاحها للسفارات الأجنبيّة ومراكز القوى الدوليّة وتبشيرها "بالاحتلال الديمقراطي" الناعم وسعيها إلى تدويل النضال الديمقراطي الحقوقي التونسي وتجريده من عمقه الوطني السيادي (العناوين والوجوه والأسماء القديمة نفسها تقريبا زائد احتياطي الانتهازيين ومراكز القوى الاقتصادية والمالية والاعلامية المستفيدة من تذرّر السلطة وضعف الدولة). اليوم توحّدت هذه الضباع موضوعيا بعد 25 جويلية بكبسة زرّ وقسّمت الأدوار بينها وكأنّ خططها معدّة سلفا وتنتظر فقط اللحظة المناسبة، وعلّقت فجأة كلّ خلافاتها وان أبقت على تعدد تخندقاتها ظاهريا للتمويه وخلط الأوراق، وعاودت دون خجل تشغيل خطوط امدادها وارتباطاتها القديمة الأمريكية منها والبريطانية والفرنسيّة إلى درجة بتنا لا تستغرب أن تتشابك أذرع الإرهابيين من محامي انصار الشريعة وبقايا ميليشيات تخريب الثورة مع سواعد حواريي العلمانيّة وحرّاس النمط من النخب الأكاديميّة المخمليّة الحداثيّة ايتام الباجي ونداء تونس في محفل احتجاجي دفاعا عن الدستور والديمقراطية وحقوق الإنسان واستقلالية القضاء أمام المجلس الأعلى للقضاء والتعبير عن "القلق الوجودي" الذي ينتابهم من التوظيف السياسي لقضيّة الشهيدين" خدمة "للانقلاب"..
فعلا هي مرحلة لا حول ولا قوّة بالله التي بشّر بها وهندسها الراحل الباجي قائد السبسي. "يا بوقلب"... لقد بلغ بهم البؤس والارتباك الى حدّ التعرّي السافر وكشف كلّ اوراقهم دون خجل. فكلّما دخلت صفحاتهم "السبونسوري" وما أكثرها يطلعلك خبر أو مقال "قال، صرّح، أكّد، استنكر، عبّر عن قلقه، تخوفه، خشيته، عدم ارتياحه سيدهم "مورفي" أو "نيد برايس"، إلى درجة تشعرك بأنّ هذا الثنائي قد حصل على تفرّغ للشأن التونسي فتصريحاتهما حول الوضع السياسي الداخلي وتفاعلهما السريع مع كلّ قرار رئاسي جديد أسرع حتّى من بيانات صناعهم في تونس حركة النهضة وكودها الحركي مواطنون ضدّ الانقلاب وبقيّة "أرامل منظومة الريع السياسي والاقتصادي والحقوقي
والإعلامي ما قبل 25 جويلية" وعبارة "الأرامل" للأرملة الصافي سعيد، وكأنّ هذا الثنائي تحولا إلا الناطق الرسمي باسم المعارضة والمفاوض المباشر لقيس سعيّد. الأدهى والأمرّ والباعث على التقزّز حالة الانتشاء الجَماعي لجمهور وفيراجات الإخوان وقطيعهم و"باراشوكاتهم" ومن اتبعهم من الانتهازيين ومن تحالف معهم من "أثرياء الثورة" أو "العكعاكيّون الجدد" بتصريحات هذا الثنائي الوقحة وتدخلهم السّافر في الشأن الوطني والتي تفوق في بؤسها نشوة هزّة الجِماع الجماعي للمجرمين "بريمر" و"باول" التي عاشتها المعارضة العراقيّة وهما بصدد هتك عرض السيادة العراقيّة. بعد كلّ ذلك يخرج علينا الجماعة "بعينين صحيحتين" ويقدمون لنا دروسا في الوطنيّة والديمقراطيّة والاستقلاليّة والسيادة الوطنيّة وفي مفاسد الدكتاتوريّة والفاشيّة القيسيّة.
لنكن على قدر من الوضوح بعيدا عن ربوة الحياد لأن القضيّة أصبحت قضيّة مستقبل وطن، قيس سعيّد على قلّة خبرته السياسيّة والاتصاليّة وتهافت حلقاته الاستشاريّة وارتباكها ورغم تردّده وضعف حكومته وقلّة حيلتها أمام ارث الكوارث والخراب التي خلّفتها حكوماتكم، والضغوطات الخارجيّة للابتزاز، عرّى جرائمهم وكشف خياناتهم وأسقط اقنعتهم وهدّد عروشهم ومصالحهم، وهو بصدقه ووطنيّته ومهما اختلفنا مع مشروعه وأسلوب ادارته للمرحلة الحرجة التي تمرّ بها البلاد أشرف من أشرفهم، وهو أبعد ما يكون عن مستنقعهم، وإن كان لا بدّ من مصارعته فسيكون ذلك تحت سقف هذا الوطن ولو كانت أرواحنا ثمنا لذلك مثلما صارعنا بن علي وهزمناه بظهور عارية وبوجوه مكشوفة ولا سند لنا إلا وعي شعبنا الذي لم نكفر بقيامته يوما..
يتهمون سعيّد بالدكتاتوريّة والاستبداد والفاشيّة لإقناع رعاتهم بأنهم ضحايا ومظلومون ولو صدق ما يدّعون فعلا لخرست ألسنتهم ولاذوا بالصمت واختاروا سبل الهرب والنجاة بأنفسهم وبما غنمت أياديهم كما فعلوا زمن بن علي، فللساحات والميادين نساؤها ورجالها، بل لعلّ بعضهم وتحوطا من المحسبة قد خيّروا التسلل فعلا والهرب إلى ملاذات ٱمنة.