الأزمة الإقتصادية و السياسية في تونس : جياع في خنادق السياسة
بقلم: صبري الرابحي
لم تكن زيادة أسعار المواد الأساسية في وارد مشاغلنا اليومية، لقد إنشغلنا مطولا بالإصطفاف وراء الرؤساء من رئيس كل تونس و رئيس بعض تونس و رئيس تونس الأخرى التي لا نعرف، حتى إستفقنا على أسعار لم تكن تمت لتونس بأي صلة، إنبنت بدون شك على دخل أغنياء سويسرا أو اللكسمبورغ هناك غير بعيد حيث ترقد أموالنا المنهوبة. "إنه الإقتصاد يا غبي" و بلا شك كما أطاحت هذه العبارة ببوش الأب أمام كلينتون اليافع، خوفي كل خوفي أن تطيح بكل تونس التي نحب.
تحول إهتمامنا لبرهة عن قطيعة رأسي الدولة في تونس و تراشقهما بالتأويل القانوني لمجمل متغيرات الساحة السياسية من تعيينات في المناصب المدنية العليا وصولا إلى إرساء المؤسسات و مأسسة الحياة السياسية الجامحة و الغير متوازنة في غياب المحكمة الدستورية حتى تحول المشهد إلى أحد عروض رسالات ختم الدروس لدى الأكاديميين الفرقاء. هذه المعارك الدانكيشوتية التي أقحمت التونسيين في خنادق السياسة ليس بالمعنى الغرامشي و إنما بمعنى الإصطفاف أو الزبونية المستحدثة و التي اصبحت تحكم المشهد برمته، جعلتهم يستفيقون بعد الزيارة الرسمية لوزير المالية لواشنطن مركز التداين العالمي على حزمة من الزيادات المشطة التي أيقظتهم من غفلة صراعات ساكني قرطاج و القصبة وانشغال الشيخ بتأمل المشهد من فوق ربوة باردو العتيقة.
هذه الزيادات و إن شكلت أكبر تعد على الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية للتونسيين الذين تدهورت مقدرتهم الشرائية فإنها شكلت دليلا آخر على تحطم وهم السيادة الوطنية و المرور بأقصى سرعة إلى الإملاءات الخارجية و التي حذر منها أحرار كثر و تم إتهامهم بتبني نظرية المؤامرة في غير محلها تجاه البلد الذي صفق الكونغرس مطولا لثورته الاجتماعية بالأساس. و بالتالي لم يعد خافيا على أحد أن هذه الزيادات التي شملت بعض المواد الأساسية و المحروقات و بعض الخدمات و بالتالي جوانب كثيرة من عيش التونسيين هي تعبيرة قاتمة على وضع إقتصادي هش موغل في الركود أصبح المحرك الوحيد له هو التداين الخارجي في غياب الإستثمار بما هو محرك كلاسيكي لإنتاج الثروة.
شكلت إذن الأزمات السياسية المتعاقبة و التي لم تتوقف منذ سنة 2011 الدافع الواقعي للأزمة الإقتصادية. و شكل تواصل التعامل معها بطريقة تحميل الطبقات الشعبية لضريبة فشل النهضة الإقتصادية المنشودة و الموعود بها في جل برامج الأحزاب السياسية و التي يبدو أن أغلبها تعيش قطيعة كبرى مع حراك الشارع التونسي حيث لم تصدر عنها المواقف المفترضة في هذا الظرف، شكل دليلا آخر على إفلاس الطبقة السياسية الحاكمة من أي حلول مجدية في مستوى إنتظارات مناصريها المجندين في جبهات خصوماتها الصبيانية.
يبدو أن الجميع يستثمر في الأزمة بمزيد ربح الوقت لشحذ سكاكين المعارك السياسية و حشد أنصاره من الجياع في خنادقه، حيث يواصل الفرقاء نهج نفس السبل التي أدت للأزمة بنفس الغباء السياسي كما نفس النعرة و الأنانية أمام أزمة "وطن" برمته.
فهل من الراديكالية في شيء أن نعود ليوم اصطبغت أصابع التونسيين بحبر ازرق إستقدم بأنانيتهم المفرطة هذا "الحوت الأزرق" الذي إبتلع البلد، بل و ببدائل لاوطنية مستعدة لكل السيناريوهات التي خبرناها تاريخيا من الأرجنتين إلى اليونان؟ هل من الراديكالية في شيء أن نجزم بأن خوض التجربة الديمقراطية يفترض بطونا خاوية لا تتخندق و لا تصطف لمن يصر و يعكف على تجويعها أكثر.
من المؤكد أن البرامج السياسية التي تستميل الناخبين بعيدة كل البعد عن البراكسيس المنشود لذلك و غير بعيد عن المخاتلة و الوعي السياسي المتعثر و غياب الإختيار و الفرز الحقيقي على قاعدة الواقعية يتواصل التجويع الممنهج بعد شبع ظرفي في ولائم يوم الإنتخابات...
حقيقة يبدو أن المال قد أفسد كل شيء في هذا البلد!!