بورقيبة الزعيم المغدور حيّا وميّتا من سجن الحزب الواحد، الى تغريبة النفى القسري وصولا إلى فتنة المستورثين
بقلم: خليفة شوشان
لم أكن بورقيبيّا بالأمس، ولن أكون اليوم ارضاء للذوق السياسي العام أو نكاية في أبشع ساسة ابتليت بهم تونس اليوم. لكنّي لا انكر على الرجل كونه زعيما فذا وأحد أبرز قادة حركة التحرّر الوطني العربي والافريقي والعالمي في القرن العشرين وأكثرهم دهاء وذكاء وان لم يكن أبلغهم نضالا وتضحية. بل لعلّي لا اخفي أنني عشت مثل عشرات الٱلاف من ابناء جيلي ومن سبقنا من المقدّمين في النضال الديمقراطي الاجتماعي المتأخرين الزاهدين في السلطة ومغانمها، عشت فترة شبابي أمقت التاريخ الرسمي البورقيبي الذي زيّنه وزيّفه مؤرخو السلطة وفقهاء التحريف أفتّش في التاريخ المنسي والمغيّب لرفاقه المغدورين المهّمشين لصالح سرديّة المجاهد الأكبر والأوحد والوحيد.
لكنّ رغم قناعتي هذه بليت بعقل نقدي قد يكون من مزايا وعصارة مدرسة الدولة الوطنيّة ومؤسسها الرائد محمود المسعدي والمئات من النخب التونسيّة الوطنيّة تفكيرا وقولا وفعلا ممّن شيدوا عمادها. فلم أكن أخفي اعجابي بشخصيّة بورقيبة الفذّة وفكره الاصلاحي وزعامته الفريدة التي طبعت تاريخ البلاد. الى درجة الانتصار له في معركة الاستقلال على حساب رفيقه المغدور الزعيم صالح بن يوسف. كما زاد تقديري لهذه الشخصيّة بعد الثورة عندما ضمرت الايديولوجيا حصننا الحصين ضدّ الاستبداد السياسي والقهر الاقتصادي وتغييب العدالة.
وتحررت عقولنا من اكرهات الانضباط الفكري والسياسي. حين أصبحت الدولة التونسيّة مهدّدة تتناهبتها غربان الظلاميّة الاخوانيّة ومستنسخاتها التكفيريّة وقطعان الانتهازيّة الزاحفة والشعبويّات الطامعة. لكن وقبل هذا التاريخ بعقد كامل وضعتني المصادفة وجها لوجه مع بورقيبة في لحظة فارقة وهو يغادر تونس التي أحبها بصدق روحا، بعد ان غادرها جسدا اثر انقلاب 87 وتغريبة الاخيرة في سجون النفي القسري. لحظة طرحت في ذهني أخطر سؤال حول بورقيبة.
لقد تصادف تاريخ نقل جثمان الزعيم إلى العاصمة لالقاء نظرة الوداع الأخير عليه أمام دار التجمّع يوم 07 أفريل 2000 مع تواصل قرار منعي مع العديد من الرفاق في الاتحاد العام لطلبة تونس من دخول كليّة 09 افريل بسبب نشاطنا النقابي والسياسي، وكان عنوان معركتنا اليومي الحقّ في الدراسة. يومها كان الحضور الامني على غير العادة في كل المداخل التي تؤدي إلى شارع 9 أفريل وفي محيط الكليّة.
وكانت كل محاولاتنا للدخول للكليّة مستحيلة. ومع انسحابنا وجدنا أنفسنا قبالة المقرّ المركزي للتجمّع (تحول الى محكمة اليوم كما تحوّل مقر الامن الجامعي بكلية 9 افريل إلى مقر للمكتب الفدرالي فاطمة البحري) انتبهنا إلى حضور المئات من المواطنين ولم نكن نعلم جلب جثمان الزعيم.. كانت صورة جثمانه المسجّى على الاسفلت الأمامي للمقر صادمة فعلا بالنسبة لي، لم أتوقعها ولم أتخيّل أن تصل وقاحة نظام بن علي إلى هذه الدرجة. مغطّى بعلم تونس تحت شمس حارة، وسط سكون غريب ومهين يخيّم على المكان، يقطعه صوت باهت للقرٱن الكريم ينبعث من داخل المقرّ، وحشرجة أصوات اللاسلكي التي يحملها الامنيين الذين كان عددهم أضعاف عدد المشيّعين، وصراخهم الهستيري على بعض المواطنين الذين حاولوا المجازفة بقطع الشارع لالقاء نظرة الوداع الأخير الذي لم يتمّ يدعونهم إلى التفرّق والمغادرة.
أكثر ما جلب انتباهي وانطبع في ذاكرتي صور العشرات من الرجال والنساء المتقدمين والمتدّمات في السنّ، يظهر على ملامحهم الحزن ومن هيٱتهم وملابسهم المتواضعة والرثّة أنهم من سكّان الأحياء الشعبيّة المجاورة وخاصة حيّ الملّاسين. كانوا يذرفون الدموع بحرقة، تخنقهم عبرات مكتومة ممزوجة بالخوف والقهر. غادرت مكتئبا ورفاقي تحاصرنا أسئلة كثيرة قفزت إلى أذهاننا، هل يمكن لدولة ونظام يحترم نفسه أن يكرّم زعيمه بهذا الشكل ؟ لماذا غاب المستفيدون من حكم بورقيبة لعقود وحضر الفقراء الذين طحنتهم وسحقتهم سياسات نظامه لتوديعه بكل هذا الوفاء ؟ لماذا يخاف نظام بن علي بورقيبة المسجّى على الاسفلت وهو وريث حزبه ونظامه والمتحكم في رقاب العباد وفي ارزاقهم باسم شرعيّته التاريخيّة ؟ يومها زاد احتقاري لنظام بن علي ولطغمته الحاكمة ولدولته الجبانة الفاسدة التي تحقّر زعمائها، وتأكّدت قناعتي أنّه ساقط لا محالة.
اليوم عادت بي الذاكرة إلى اثنين وعشرين سنة مضت وأنا أستمع إلى وريثة التجمّع المقبور عبير موسي التي اكتشفت بورقيبة وارثه الفكري والسياسي بعد الثورة، وهي من كانت تحبّر التقارير في كلّ من ينبس باسمه أو يذكّر بمظلوميّته وهو القابع في المنفى الذي فرضه عليه زعيمها بن علي أسيرا محتقرا إلى درجة تفكيره في الانتحار. كانت منتفخة الأوداج تلقي خطابا من أمام قبره أقرب إلى فحيح الأفاعي يقطر كذبا وافتراء وادعاء وهي تعلن بكل وقاحة نفسها وحزبها الورثة الشرعيّين والوحيدين للزعيم، بل وللحركة الوطنيّة عموما. تساءلت في أي غرفة من بناية التجمّع المقبور ومن أي شبّاك كانت تحبّر التقارير يومها في كلّ من حضر الجنازة ومن حزن، ومن بكى الزعيم وسالت دموعه. تذكرت ذلك اليوم وتلك اللحظات بكلّ تفاصيلها ومفارقاتها، وبصقت على نفاقهم ووقاحتهم وقدرتهم على التلوّن وتغيير جلودهم..
رحم الله الزعيم الحبيب بورقيبة بانجازاته الكبيرة، وبأخطائه وخطاياه، في حق الوطن والشعب والمناضلين الشرفاء الذين أكلتهم المشانق والسجون وأنهكهم التجويع وقطع الارزاق. لقد أنصفه التاريخ قبل أن تشهره موسي ومن سبقها من لصوص السطو على التاريخ الوطني المشترك عنوانا وشعارا للوصول الى غنيمة السلطة. كما انصفه شعب تونس وهو يستدعيه رمزا لوحدة الدولة في لياليه الظلماء كما استدعى الشعب المصري الزعيم جمال عبد الناصر عندما كاد ليل الاخوان أن يرخي سدوله على أرض مصر المحروسة، وكما تستحضر الشعوب الحيّة زعمائها في لحظات الفرز الوطني الحقيقي.