ثقافي

" نظرية الموز" كتاب جديد لعامر بوعزة يكشف اصرار " العزوزة " على أن " العام صابة".

قدم الزميل عامر بوعزة للطبعة الجديدة من كتابه " نظرية الموز" بقوله : "عندما ظهر هذا الكتاب في طبعته الأولى، حصل لدى الكثير من القراء خلط بين عنوانه ومصطلح «جمهورية الموز» الشائع في المنابر السياسية. وكان عليّ أن أؤكد مرارا أن الأمر أبسط من ذلك بكثير، وأن النص يتحدث فعلا عن الموز الذي يأكله الناس، لأنه يحاول قراءة المجتمع في أبسط جزئياته والنفاذ منها إلى أغواره السحيقة لتأمله من الداخل.
وفي النادي الثقافي الطاهر الحداد بالمدينة العتيقة، ذات أمسية شتوية لا تنسى، همس في أذني الشاعر يوسف رزوقة الذي كان يدير نقاشا حول الكتاب مع مجموعة من الأصدقاء الرائعين بأنه لا حاجة إلى قول ذلك، فمن الأفضل مجاراة القراء في اعتبار الموز رمزا، لأن القارئ يمتلك النص الذي يقرأه، والرمزية تعني التعدد والانفتاح، وتمنح الكلمات حيوات أخرى لم نكن نتوقعها. ويوسف على حقّ، لكنه الموز حقا يا يوسف، ولا حيلة لي في ذلك!

حتى أنت يا شيخ
قبيل صدور الكتاب تحدث راشد الغنوشي زعيم الحركة الإسلامية عن غلاء الأسعار وتراجع قدرة المواطن الاستهلاكية، ودعا إلى التخلي عن المواد غير الأساسية، مستحضرا الموز مثالا. فقلت وأنا أفكر في أن هذا الكلام يدعم النظرية وينزلها في سياق الراهن: «حتى أنت يا شيخ!». لقد كان الموز منذ السبعينات مقياسا للرفاه الاجتماعي، وعندما أزالت اتفاقية التجارة العالمية الكثير من القيود الجمركية انتشر الموز في كل مكان. يومها كنا في بحبوحة التسعينات، وكانت تلك من ثمار العولمة. عن تلك المرحلة يتحدث عماد الطرابلسي وعلى وجهه ابتسامة ساخرة في شهادته أمام هيئة الحقيقة والكرامة، فيروي كيف كان أباطرة الموز يتصارعون لاحتواء السوق والسيطرة على الأسعار، وكيف كان من الممكن إرشاء بعض أعوان الجمارك لحجز بضاعة منافسة حتى تتعفّن في المخازن...
هذا الكتاب إذن وبرؤية أشمل يتحدث عن الإنسان في تونس، وعن الزمن المعكوس، يحكي ببساطة قصة الهبوط إلى الحضيض الذي يتطابق تماما مع نظام التفاهة، ويروي قصة الانتقال المريع من فكرة الإنسان المشروع الذي هو محور التنمية وعماد النهوض الاجتماعي والثقافي، إلى الإنسان الذي يواجه الجوع والذي يفرض عليه دائما أن يفاضل بين الكرامة والخبز وأن يتملق السلطة من أجل الكفاف.

الهجرة هروبا من الواقع
رحلة تغيرت فيها الأحلام وانهارت المثل وتبدلت القيم، حتى لم يعد ممكنا لهذا الجيل أن يحلم بتغيير العالم، وأصبحت الهجرة أيسر السبل أمامه للهروب من الواقع بدل مواجهته، ليست فقط معركة بين أنصار الحرية وأركان الاستبداد، بل هي مواجهة شرسة بين النبل والسفالة، بين الجمال والانحطاط. كل ما أكتبه يتعلق بهذه المعركة، وهكذا تشكلت في هذه النصوص، خلال ربع قرن، مقاربة نقدية للشأن العام، ومعاينة دقيقة لما طرأ على واقعنا من تحولات جذرية في مرحلة قلقة غير مستقرة لكنها حاسمة. 
ثم إن الكتاب من قبل ومن بعد مشروع أدبي أساسا، والاشتغال فيه على الكتابة بما تقتضيه من صنعة وجمال يضاهي الهمّ الاجتماعي والثقافي الذي يعبر عنه! من ثمة كان الاحتفاء فيه بالذاكرة، والرموز، والأمكنة، والتفاصيل. وعندما جلست إلى الدكتور محمد البدوي في أحد المقاهي البحرية بالمنستير للحديث عن إمكانية إصدار طبعة جديدة من هذا الكتاب ضمن منشورات بن عربي التي يديرها، بدأت تتكثف أمامنا بعض الأسئلة المتعلقة بالتوصيف الأجناسي، وبالشروط التقنية والممكن والمتاح في أعراف الكتابة والنشر، وانتصرنا معا للحرية...
صحيح أن مادة هذا الكتاب الأولى نشرت في عمود صحفي لكنها تشكل مجتمعة نصا واحدا، فلم تذيل بالتواريخ، ولم تتقيد بظرف زمني. إنها نصوص منفصلة ومتصلة في آن معا، تقرأ من البداية إلى النهاية كما تقرأ الرواية، والدكتور محمد البدوي القادم من أفق أكاديمي مفتوح ناشر يعرف أن النص أوسع من أن تحتويه الأجناس، فلم يشك معي لحظة في أن هذه النصوص لها قدرة على اختراق الزمن. وهو الذي انتصر للمشروع منذ البداية وأخرجه في طبعة أولى ضمن منشورات «دار البدوي» التي كان يديرها رفقة الشاعرة الراحلة نجاة المازني.

بل هو كتاب جديد
الحرية إذن، وأي شعور أجمل من أن تعيد النظر في هذا النص أو ذاك فتعكس لك مرآة اللغة كثافة الزمن وثقل التجربة وعمق المحنة، وما الذي يمنعك وأنت تعيش العصر الرقمي أن تعيد الكتابة وأن تدقق وتصحح وأن تضيف وتمحو وأن تشكل من طين الكتابة شيئا جديدا مختلفا وأن تتمرد على القوالب الجامدة والقيود المصطنعة.. إنها ليست طبعة جديدة، بل كتاب جديد 
يعلق صديقي محمد البدوي في معرض حديثنا عن علاقة هذا النص الأدبي بواقعنا اليوم وما يطرأ فيه من أحداث ومفارقات موجعة على مختلف الواجهات «العزوزة هازها الواد، وهي تقول العام صابة» فأؤكد له أنه لولا رغبتي في أن يظهر الكتاب بعنوانه الأصلي لكان هذا المثل السيار عنوانا مثاليا له. أقول ذلك وأنا شبه متأكد أن هذا المثل الشعبي يعنينا نحن قبل أي شخص آخر، فالحرص على الكتاب الورقي يبدو في هذه المرحلة أشبه بنداء استغاثة لثقافة تقليدية تحتضر ونحن نتحلّق حولها ونتمسك بها ونرجو ألا نفارقها أبدا، لذلك أظل على شغف بهذه النصوص وأعتقد أن إظهارها في ثوب جديد وإيصالها إلى أكبر عدد ممكن من القراء أمر يستحق الجهد والمغامرة. وها هي بين يديك الآن في حلة أخرى فلست أملك غيرها"