العهد الجمهوري، أول وثيقة للمواطنة، صادقت عليها الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة في شهر أوت 2011
بقلم سالم الحداد
أقدّم لرئيس الجمهورية وللرأي العام نص "العهد الجمهوري" التي صادقت عليه الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي في شهر أوت 2011 وهو أول وثيقة للمواطنة في تونس بعد الثورة والظروف الحافة بظهورها مصحوبة بقراءة في مضمونها علّها تساعد على بلورة الإشكالات المطروحة في الدستور.
تمهيد ــ الاحتجاج بداية التآخي :
بعد الاحتجاجات التي شهدتها الهيئة حول تشكيل اللجنة المكلفة بصياغة العهد الجمهوري وقع توسيعها من 3 إلى11عضوا وهم الإخوة:عبد المجيد الشرفي، هادية جراد، الدكتور سامي بن ساسي، حياة حمدي، عبد الحميد الأرقش ،عدنان منصر، المهدي المبروك، المنصف وناس،أنور القوسري،فرج معتوق وسالم الحداد.كان هؤلاء مختلفين سياسيا بل وحضاريا إلى درجة التناقض، لكنهم كانوا يحترمون بعضهم إلى درجة المحبة.
Iـــ العهد الجمهوري :تعدد المبادرات وتماثل المحتوى
ظهرت عدة ورقات سواء من داخل الهيئة أو من خارجها وأغلبها مبادرات جدية تنم عن إرادة صادقة لإخراج تونس من عهد الوصاية إلى عهد المواطنة ، من مجتمع الدولة إلى دولة المجتمع ويمكن أن أذكر ثلاثة منها:
أولاـ مبادرة المواطنة التي أعدتها في أفريل 20011 نخبة من المفكرين الذين ينتمون لتيار الحداثة ، قدمها السيد فاضل موسى على أنها ميثاق " له صبغة معنوية وأدبية هامة وإنه قد يجد فيه معظم الشعب التونسي هواجسه وطموحاته " باعتبار أنه يربط بين مبادئ المواطنة والديمقراطية.وأشار إلى أن الآلاف من الأشخاص قد وقّعوا بعدُ على هذا الميثاق مبينا أن توقيع الأحزاب السياسية(12) على هذا الميثاق يعني التزامها به ". وقد وقع الاتفاق على وضع وثيقة سميت ب"مبادرة المواطنة " تضمنت 16 بندا تؤكد على : الهوية العربية الإسلامية ،مدنية الدولة ،الفصل بين السلطات ،التداول على السلطة ،استقلالية القضاء ،نبذ العنف ،إقرار المساواة بين المرأة والرجل وحياد المؤسسة الدينية.
ثانيا ــ مبادرة نداء من أجل التزام وطني
ظهرت هذه الوثيقة يوم 15 افريل 2011 قدمتها للهيئة العليا مجموعة من الحقوقيين ونشطاء في المجتمع المدني وإعلاميون وشخصيات مستقلة،لم يكن أصحابها في علاقة بمكونات المجلس ،لذا لم تأخذ نصيبها من النقاش كما أن مضمونها لم يكن بعيدا عن الوثيقة السابقة والإضافة اللافتة هي مطالبة الأحزاب بالالتزام والذي يعكس تخوف هؤلاء على الثورة من الانتكاسات لكنه لا يعني شيئا بالنسبة لهيئة وقتية ليس لها صبغة تقريرية وينحصر دورها في رسم ملامح المستقبل وليس بإمكانها أن تُلزم أو أن تلتزم.
ثالثا ـــ مبادرة العهد الجمهوري
بعد إدخال تعديلات بالإضافة أوالحذف تم الاتفاق على النص التالي :<<وفاء لدماء شهدائنا واعترافا بما قدمته أجيال متعاقبة من نضالات وتضحيات من أجل بناء الدولة الديمقراطية والتزاما بتحقيق أهداف ثورة 14جانفي 2011 بما هي لحظة فارقة في تاريخ تونس المعاصر ومنارة لحركة التحرّر العربي وتجسيما لمبادئها في الحرية والكرامة والعدالة والمساواة وقطعا مع الفساد والاستبداد والتبعية واقتناعا بأن الشعب يطمح إلى بناء مجتمع مدني يكرّس أسس المواطنة وقيم الجمهورية،تعلن الأطراف الممضية على هذا العهد إيمانها والتزامها بالمبادئ التالية:
1ـ تونس دولة ديمقراطية حرة مستقلة ذات سيادة، الإسلام دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها.
2 ـ هوية الشعب التونسي عربية إسلامية ، وهو يستمد من عمق التاريخ ثراء شخصيته وتنوع مكوناتها بما يجعله في تفاعل خلاّق مع قيم الحداثة والتقدم.
3 ـ السيادة للشعب يمارسها عبر انتخابات حرة ديمقراطية تعددية وشفافة بما يحفظ التداول السلمي على السلطة وإقرار الفصل الفعلي بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وتحقيق التوازن بينها وضمان استقلال القضاء وحياد الإدارة.
4 ـ تتكفل الدولة بضمان حرية المعتقد وحرية ممارسة الشعائر الدينية واستبعاد التنافي والإكراه والعداوة في التنافس القائم بين مختلف الأطراف والفصل بين المجال الديني والمجال السياسي .
5 ـ إقرار مبدأ المساواة بين المواطنين أمام القانون وفي سائر الحقوق والواجبات دون تمييز على أساس الجنس أو العرق أو المعتقد أو الرأي مع ضمان كافة الحقوق الأساسية للمواطنين والمواطنات وعلى وجه الخصوص حرية التفكير والتعبير والمعتقد والضمير والإعلام والتنظّم والاجتماع والتظاهر. كما تتعهد الدولة بضمان الحرمة الجسدية لكافة الأفراد وحفظ كرامتهم وأعراضهم وتجريم التعذيب ورفض العنف أيّا كان مصدره.
6 ـ حماية مكاسب المرأة التي نصّت عليها مجلة الأحوال الشخصية ومجمل النصوص التشريعية وتطويرها بتكريس المساواة الكاملة بين الجنسين وفسح المجال أمام الشباب للإسهام الفاعل في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحماية حقوق الطفل وتدعيمها وفقا للمواثيق والمعاهدات الدولية ذات الصلة واعتبار التونسيين المقيمين بالخارج جزءا لا يتجزأ من الشعب
7 ـ إرساء منوال تنموي قوامه التوزيع العادل للثروات والتوازن الفعلي بين الجهات وضمان الحقوق الأساسية في الشغل والصحة والتعليم وحماية الملكية وتشجيع المبادرات الفردية وإرساء نظام جبائي عادل وضمان الحق النقابي بما في ذلك الحق في الإضراب والنهوض بالعلاقات الشغلية ومأسسة التفاوض الجماعي والحوار الاجتماعي وضمان حق الأجيال في الثروة ومقومات الحياة الكريمة وحماية البيئة.
8 ـ تكريس اللغة العربية لغة وطنية رسمية في كافة أوجه النشاط مع الانفتاح على اللغات والثقافات الأخرى وتشجيع البحث العلمي واحترام الحريات الأكاديمية وحماية الملكية الفكرية وإقرار حرية الإبداع والنشر وتوفير الشروط المادية للثقافة والاعتراف بدورها الحيوي في النهوض بالفرد والمجتمع.
9ـ حماية الاستقلال الوطني والوقوف ضد الهيمنة والعمل على إرساء مبادئ السلم والحرية لكل الشعوب وحقها في تقرير المصير وفي مقاومة الاحتلال والعنصرية وتعميق الوعي بالمصير العربي المشترك والتفاعل المتكافئ مع المحيط المغاربي والإفريقي والدولي ومناصرة كل القضايا العادلة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية ومناهضة الصهيونية والتصدي إلى كل شكل من أشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني
II ـــ قراءة في العهد الجمهوري والثورة 31 أوت2011
أولا ـــ حفر في الذاكرة
لم يكن من السهل على الفعاليات الوطنية في بلادنا أن تتمثّل معنى الوفاق الذي ينهض أساسا على التعايش بين المتناقضين بل حتى بين المختلفين ، فهي لم تعرفه منذ الاستقلال في عهد بورقيبة ، رغم الضربات الموجعة المتلاحقة التي تلقتها وبقيت متشرذمة ولم تستطع أن تتوحد حتى على الحد الأدنى. ومع 7 نوفمبر وقّعت ــ بمبادرة من ابن علي ـــ ما عُرف بالميثاق الوطني ، وكان هو أول من انتهكه بعد أن تمكّن من إحكام قبضته على السلطة فانفرط العقد وتحوّل الموقّعون إلى ضحايا الواحد تلو الآخر.وفي لحظة من الوعي ــ لم تستمر طويلا ــ شكلت بعض الفعاليـــات الوطنية تحالفا ــــ رغم تناقضاتها ـــ كان أقرب إلى مفهوم الكتلة التاريخية لغرامشي جمعت بينهم الرغبة في محاصرة النظام، وهو ما عرف باتفاق 18 أكتوبر2005 الذي لم تنخرط فيه سوى بعض الفصائل مثل الحزب الديمقراطي التقدمي وحزب العمال الشيوعي والإسلاميين والقوميين وبعض المستقلين ، وامتنعت بقية الفصائل عن التوقيع عليه بتعلة تواجد الإسلاميين في هذا الاتفاق.وقد حاولت هذه الفعاليات أن تتجاوز خلافاتها الثانوية لتجعل من تناقضها مع النظام، التناقض الرئيسي الحاسم الذي يوحّد بينها ،وتمكنت من أن تُشكّل جبهة صمود استطاعت أن تقنع الرأي العام الوطني والعالمي بخطورة النظام الذي أجبر المتناقضين على التوحّد.
بعد الثورة تنادت القوى الوطنية تحت مظلة الهيئة العليا إلى صياغة عهد جمهوري تضمن مبادئ تتعلق بأسس المواطنة وقيم الجمهورية التي ستنهض عليها العلاقات الأفقية بين المواطنين والعلاقات العمودية بين الدولة والمواطنين. فأين يتجلى ذلك؟
ثانيا ــ الولادة العسيرة للعهد
جاء الميثاق الجديد بعد ولادة عسيرة وجهد دؤوب على مرحلتين:
مرحلة أولى : وُضعت فيها أسس العهد واستمرت أياما بذلت فيها العديد من الأطراف جهودا مضنية من الحركات السياسية أو من المجتمع المدني التي التقت في حلقات متتالية ودرست العديد من الأوراق المقدمة كمشاريع، تخللها جدل ساخن، حول قضايا حارقة ومصيرية،وبحرية لا مجال فيها للخوف والمجاملة.
مرحلة ثانية : استغرقت ما لا يقل عن مائة ساعة تركز فيها النقاش على الأسس التي تقوم عليها المواطنة واستقلالية القرار الوطني، فلا مجال لمواطن حرّ في وطن تابع. كان الساهرون على إعادة صياغة الوثيقة مسكونين بهاجس الوحدة في الاختلاف والتعدد، وكانوا فعلا مختلفين لدرجة التناقض لكنهم التزموا بتحقيق الحد الأدنى من الوفاق الوطني الذي تنتظره جماهير الشعب التونسي الذي صودرت إرادته طيلة خمسة عقود واختزلها النظام في مقولة."الشعب يختزل الأمة والحزب الواحد يختزل الشعب،والزعيم الأوحد يختزل الحزب الواحد.فلأول مرة في تاريخ تونس تعود الكلمة للشعب فيقول:لا لأنصاف الآلهة ولمن يقف وراءها من القوى العظمى.
ثالثا ــ مضامين العهد الجديد
في اعتقادي إن الحوارات الفكرية التي دارت داخل لجنة العهد الجمهوري أو داخل الهيئة العليا تعتبر الأولى من نوعها التي تحدث في تونس منذ الحوارات التي وقعت في صفوف حركة أفاق أو مجموعة الدراسات والعمل الاشتراكي، غير أنها كانت حوارات ديمقراطية ودية أدارتها الأخت حياة بحنكة متناسية انتماءها القومي والحزبي ،حوارات قد تعلو وقد تنخفض درجة حرارتها كلما اقترب من الثوابت.
ومن أهم القضايا التي كانت مثارا للنقاش : التراث بين القطيعة والتواصل ، حقوق المرأة بين المنح والافتكاك،الأمة العربية بين الوحدة والتعاون،المنوال التنموي بين دور الدولة ودور الخواص، بل بين العجلة والجمل كوسيلتين لتحقيق التواصل بين بني البشر.وقد أمكن الوصول إلى صيغ وفاقية في كل هذه المسائل باستثناء مسألتين لم نستطع التوصل فيهما إلى وفاق:تجريم التطبيع والمشروع المتوسطي.
1 ـــ الثورة لحظة فارقة
أكدت المقدمة أن ثورة 14 جانفي هي لحظة فارقة بين عهدين:
أ ـ عهد الرعية : عهد الاستبداد والفساد في الداخل والارتهان للخارج . فكانت المقايضة تنهض على دعم القوى الاستعمارية للنظام مقابل التبعية بما فيها من تطبيع والمشاركة في مقاومة الإرهاب والانخراط في العولمة .
ب ـ عهد المواطنة الذي استرجعت فيه الجماهير استقلالية الوطن وحرية المواطن فأحست بأنها حرة ، موجودة وفاعلة وبدأت ترسم معالم الطريق وتقيم المؤسسات وتصوغ المنظومات التشريعية حماية لراهنها ومستقبلها.
2 ـ ماهية الدولة
نصّ العهد على أن تونس دولة مستقلة ذات سيادة ، الجمهورية نظامها ،والديمقراطية آلية لحكمها، ينهض النظام على توازن السلطات الثلاث والتداول على الحكم بطريقة سلمية. ورغم ما يباعد بين صانعي العهد، فقد عملوا على ملامسة وجدان الشعب الذي تصدى للاغتراب والاستنساخ والتبعية ،فكان التأكيد على هوية المجتمع العربية الإسلامية التي لم تزدها نفحات الحداثة إلا تجذرا وانفتاحا.فهوية المجتمع لا تستمد أهميتها من الماضي إلا بقدر ما يساعدها ذلك على صنع المصير المشترك.وبالتالي فالهوية العربية الإسلامية ليست فولكلورية بل لها وظيفة نضالية فاعلة في المستقبل.
3 ـ وظيفة الدولة داخليا: العمل على :
أـ إرساء منوال تنموي ينهض على تقاسم الثروة وعدالة التوزيع بين الأفراد والجماعات والجهات تتولى فيه الدولة ـ بكل أجهزتها ومؤسساتها ـ المهمة الأولى للتنمية فتقيم البنية التحتية وتسترجع القطاعات الحيوية الإنتاجية والخدماتية المؤثرة في حياة المواطن.
بـ ضمان الحريات العامة والخاصة: حرية التفكير والتعبير والمعتقد والتنظّم .
غير أن هذه الوظيفة لا تعفيها من السهر على دور العبادة وتحييدها والحيلولة دون توظيفها لأغراض حزبية.
ج ـ إرساء آلية ديمقراطية للحكم
إقامة نظام ديمقراطي ينهض على الفصل بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية ويقع فيها التداول على الحكم مرجعتها انتخابات حرة ديمقراطية شفافة حتى تتجنب بلادنا تجارب الحكم الاستبدادية التي صودرت فيه إرادة الشعب
د ـــ المرور بالمواطن من مرحلة الرعية إلى مرحلة المواطنة
Œ ـــ توفير الحقوق الأساسية للمواطن : الحق في التعليم ، الصحة ،الشغل والسكن والتي بدونها ينتفي الإحساس بالمواطنة
ـ حماية الأطفال والحيلولة دون استغلال أجسادهم الناعمة والتلاعب ببراءتهم
ŽŽـ المساواة في الحقوق والواجبات بين كل المواطنين والمواطنات دون اعتبار للجنس واللون واللغة والدين.
هــ ـ حماية مكاسب المرأة وتطويرها
مع ظهور الإسلاميين كقوة جماهيرية كان هناك تخوف من التراجع عن المكاسب التي حققتها المرأة في مجلة الأحوال الشخصية، لذا أكد العهد ـ ليس على ضرورة التمسك بها ـ بل على ضرورة العمل على تطويرها في اتجاه تحقيق المساواة التامة.
وــ إنعاش اللغة العربية
إن اللغة ليست أداة تواصل فحسب بل هي حاملة لتراث وحضارة وفكر، لكنها اليوم تعاني حالة من التهميش والتلوث في العديد من المؤسسات التربوية والإدارية والإعلامية ،.ومن هنا أتى العهد الجمهوري ليوليها أهمية خاصة فدعا لتحويلها إلى لغة وظيفية في مختلف مجالات الحياة وفي مقدماتها مستويات التعليم الثلاثة ، فالأمم لا تنهض إلا بلغاتها، والإبداع لا يكون إلا باللغة الأم. وكل ما يقدمه المبدعون بلغات أخرى هو إضافة للآخر وللغته ولحضارته .
تلك هي وظيفة الدولة داخليا التي كانت محل اتفاق فإن وظيفتها خارجيا كانت تترواح بين الاتفاق والاختلاف .أين يبدو ذلك؟
4 ــ وظيفة الدولة خارجيا
كانت الوظيفة الخارجية للدولة مجالا لنقاش جاد ومعمق محوره كيف نخرج من ارتهانات دولة الاستبداد للمنظومة الاستعمارية التقليدية؟كيف نوسع علاقاتنا؟ كيف ننوعها؟ كيف نحررها من الضغوط السياسية والاقتصادية؟
أ ــ مجالات الوفاق
Œـ استقلالية القرار الوطني الذي يفترض التخلص من التبعية للقوى الاستعمارية التي عاشت تونس تحت مظلتها طيلة خمسة عقود
ــ التعاون الإقليمي
أكد العهد على ضرورة تعميق الوعي على مستوى المغرب العربي.فتونس لها امتداد إقليمي جغرافي وتاريخي تواصلت معه عبر ألاف السنين وهو مجال حيوي للتعاون الاقتصادي والاجتماعي والتربوي والثقافي.وهي في حاجة إلى تمتين نسيج علاقاتها مع هذه الفضاءات ، ولن يتيسر ذلك إلا بالتواصل مع فضائها الإقليمي.
Žـــ تعميق الوعي بالمصير العربي المشترك
إن مستقبل الوطن العربي تتحكم فيه ـ إلى حد بعيد ـ عوامل الجغرافيا والتاريخ وهو مرتبط بعودة الوعي إليها بمصيرها المشترك وبقدرة الجماهير العربية على امتلاك ثرواتها والعمل على توظيفها في تطورها .عندها تستطيع بناء كيان عربي موحد قادرعلى تحقيق طموحاتها في الحرية والعدالة والمساواة.
ــ توسيع شبكة التعاون الدولي
كان الاتفاق على ضرورة توسيع تونس لعلاقتها مع مختلف دول العالم والانفتاح على الأسواق الدولية، عليها أن تبحث على شراكات جديدة تحررها من الارتهان للقوى الاستعمارية النافذة التي تريد أن تبقي عليها مصدرا لاستنزاف لثرواتها وسوقا لترويج بضاعتها فتونس الثورة يحب أن تكون متحررة سياسيا واقتصاديا
ب مجالات الاختلاف
دار جدل عميق وواسع حول إشكالين حادين: ما موقف تونس /الثورة من الكيان الصهيوني؟ كيف يجب أن تكون علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع المحور الأطلسي هل تحافظ عليه أم تعمل على التحرر من ضغوطه؟
Œـــ الكيان الصهيوني :هل ندين سياسته أم لا نعترف بوجوده؟
كان هناك شبه اتفاق على اعتبار الحركة الصهيونية حركة استعمارية توسعية كبقية الحركات العنصرية : النازية والفاشية.لكننا اختلفنا حول كيفية التعامل معها :هل نكتفي بإدانة سياسة الكيان الصهيوني التوسعية وفي ذلك اعتراف ضمني بوجوده ؟ أم نرفض وجوده ونجرم التطبيع معه ؟
ـــ المشروع المتوسطي
شكل البحر الأبيض المتوسط عبر ثلاثة ألاف سنة فضاء للتواصل وعلى أمواجه حاربنا وحوربنا وتواصلنا وتثاقفنا مع الضفة الشمالية فهو فضاؤنا جميعا سلما حربا لكن هذا الفضاء تحول لمشروع استعماري صهيوني من خلال مبادرتين:
+ـــ مشروع الاتحاد من أجل المتوسط
وهو المشروع الذي أطلقه الرئيس الفرنسي ساركوزي في إطار مزايدة فرنسا على أمريكيا التي أرادت فرض مشروع الشرق الأوسط الكبير وتفكيك الدول الوطنية ،طرح مشروعه13جويلية 2008 يشمل الدول المطلة على المتوسط شمالا وجنوبا ويضم 43 دولة منها27 دولة أوروبية ودول شمال إفريقيا بالإضافة إلى تركيا والكيان الصهيوني واعتبرها منظومة حضارية وسياسية واقتصادية وأمنية وثقافية إلا أن المشروع بقي متعثرا بسبب خلافات أوروبية وتحفظات عربية على تواجد الكيان الصهيوني.
اختلفت مواقفنا حول علاقة تونس الثورة بالمشروع المتوسطي الذي تروّج له فرنسا التي عملت على ضرب الثورة. أين نُنزّل هذه العلاقة هل ضمن إطار دولي كبقية دول العالم أم ضمن علاقات خاصة كما يريد الساسة الفرنسيون الذين يعتبرون تونس حديقتهم الخلفية ؟
+ـــ المشروع الصهيوني
يحيلنا المشروع المتوسطي على المحاولات التي تبذلها الدوائر الاستعمارية لفرض الكيان الصهيوني كطرف شريك في الفضاء الإقليمي، فبلادنا في أمسّ الحاجة لتحرير إرادتها وتأكيد استقلالية قرارها حتى تتحرر من القفص الذي وضعتها فيه القوى الاستعمارية قديما وحديثا.
كنا نعتقد أن التأكيد على استبعاد المشروع المتوسطي وتجريم التطبيع في هذه المحطة المفصلية الثورية من تاريخنا، يقدم الوجه الحقيقي لتونس الذي طالما حاولت طمسه سياسة التبعية طيلة خمسة عقود، لذا أتى النص مثقلا بحمولة سياسية إضافية، لكنها ضرورية حتى تقطع الطريق على الذين انزلقوا عن وعي أو غير وعي في إستراتيجية القوى الاستعمارية والصهيونية التي تختفي تحت شعارات الحرية والسلام والتعاون الدولي لتستولي على عقل المواطن العربي وتتوغل في وجدانه. وهذا ما سعت إليه منذ القرن19 عبر عدة مشاريع تاريخية منها:الظهير البربري والتنصير( المؤتمرالافخارستي ) والتجنيس والفرنسة ومشروع الشرق الأوسط الكبير واتفاقية برشلونة.
ج ــ العودة للهيئة العامة: ـ لا للتطبيع ... لا للمشروع المتوسطي.
هاتان المسألتان كانتا محلّ جدل ساخن بين الحاضرين ولم نتوصل إلى اتفاق، فرحّلنا نصّين إلى الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة فصادقت بالأغلبية على النص الذي يرفض إدراج تونس في المشروع" المتوسطي " ويدعو " للتصدي لكل شكل من أشكال الكيان الصهيوني، فمن مهام الدولة "<<حماية الاستقلال الوطني والوقوف ضد الهيمنة والعمل على إرساء مبادئ السلم والحرية لكل الشعوب وحقها في تقرير المصير وفي مقاومة الاحتلال والعنصرية وتعميق الوعي بالمصير العربي المشترك والتفاعل المتكافئ مع المحيط المغاربي والإفريقي والدولي ومناصرة كل القضايا العادلة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية ومناهضة الصهيونية والتصدي إلى كل شكل من أشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني >> وهي الفقرة التاسعة من العهد. فهذا النص أكد على ثلاثة مبادئ أساسية
Œ ـــ المصير العربي المشترك
ـــ تنزيل علاقة تونس بفرنسا ضمن علاقاتها المتكافئة ببقية دول العالم
Žـــ التصدي لكل شكل من أشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني
هكذا جاء العهد الجمهوري ـ كما أراده صانعوه وكما تطمح إليه الجماهيرـ رؤية شمولية للعلاقات الأفقية والعمودية وللسيرورة التاريخية لتونس ماضيا وحاضرا ومستقبلا ولتواصلها الجغرافي مع محيطها القريب والبعيد، فكان بحق بوصلة يمكن أن يهتدي بها الفاعلون قي الساحة الوطنية في انتظار ما سينجزه المجلس الوطني التأسيسي الممثل الشرعي للشعب والمكلف بصياغة الدستور.هكذا كنا نفكّر في السنة الأولى من الثورة وبالتحديد في شهر أوت من سنة2011 فإلى أي مدى ستكون هذه الأفكار أو بعضها صالحة بعد أكثر من عقد من الثورة، وتونس تُعدّ دستورا جديدا بعد تجربة مؤلمة مع دستور 2014؟
سالم الحداد/ زرمدين/ المنستير/24 جوان 2022