دستور قيس سعيد أم دستور تونس ؟
كتب صبري الرابحي : أثارت مسودة الدستور التي نشرت في الرائد الرسمي و هي الجريدة الرسمية للنصوص القانونية التونسية ردود أفعال متباينة. نص الدستور المقترح كان في مرمى النقد المبني على الموقف السياسي و القراءات المتعددة لسياق "منح" الدستور تأصيلا لما حصل في تونس بعد 25 جويلية من السنة الفارطة و الذي مثل زلزالاً سياسيا غير مسبوق في تونس.حيث يعتبر مناصرو قيس سعيد أن مسودة الدستور هي تأسيس لجمهورية جديدة لم يألفها التونسيون من قبل، تقطع حسب توطئتها مع المنظومة السابقة و الأسبق و تنتصر للثورة.
يعتبر أيضا أنصار الرئيس أنه يسير نحو الطريق الجديد المؤسس لدولة محاربة الفساد و القطع مع الماضي السياسي لتونس و تحميل المسؤولية لنص دستور 2014 على أنه ساهم في تعفن الحياة السياسية و إدخالها في أزمات الحكم المتعاقبة و التي أنتجت بدورها هذه الأزمة الإقتصادية التي جعلت تونس ترتهن لصندوق النقد الدولي و تقبع على أعتاب نادي باريس.
الملاحظ في هذه القراءة فضلاً عن إنتصارها سياسيا للرئيس قيس سعيد على قاعدة التضادد في كل شيء مع خصومه السياسيين الذين توسعت دائرتهم لتتجاوز أحزاب الإسلام السياسي و تستقطب العديد من الأحزاب التقدمية، أنها أيضا تمثل قراءة سطحية لنص الدستور و إغفالا عاطفياً لعديد الإستحقاقات التي إنتظرها التونسيون من الدستور الجديد المقترح حتى من طرف الرافضين لهذا المسار من أساسه.
فمسودة الدستور أعادت الجدل الكلاسيكي في تونس حول مواضيع ظن التونسيون أنهم حسموا إختلافاتهم حولها و دفعوا ضريبة مؤلمة جداً خلال مسار التأسيس الأول لما بعد الثورة و التي عرفت الكثير من العنف السياسي و نزعة الكثيرين لتقسيم التونسيين و إذكاء التفرقة في علاقة بمسائل الهوية و مدنية الدولة و التناصف و رعاية الدولة للحريات و مسافتها من الدين.كما أعادت نسخة الدستور المقترح الجدل حول طبيعة نظام الحكم الذي يستشف منه النزعة الفردانية لمؤسسة رئيس الجمهورية و إهماله لدور مجلس نواب الشعب و إنشاء غرفة ثانية لإدارة السلطة التشريعية و أعتبار القضاء "وظيفة" و حذفه كسلطة في ما يعرف بنظرية التفريق بين السلط لمونتسكيو و خاصة مصادرة حق القضاة في الإضراب.
الملاحظ أيضا هو غياب التنصيص على دور الدولة في تأسيس عدالة إجتماعية حقيقية بعيدا عن شعبوية "التوزيع العادل للثروات" التي طالما مثلت طرحا شعبويا يراد به إستثارة رغبة التونسيون في تأميم ثرواتهم التي تتداخل الروايات حولها.
لماذا دستور سعيد؟
لم تكن مسألة إقرار دستور جديد لتونس مطروحة من الأساس عندما أقدم الرئيس قيس سعيد على إتخاذ إجراءات 25 جويلية و إنما طرح هذا السؤال في علاقة بالتنظيم المؤقت للسلطات الذي أقره قيس سعيد بواسطة مرسومه الرئاسي الشهير منتصف شهر سبتمبر الفارط و بدا منذ ذلك الحين أنه يتجه نحو إقرار دستور جديد للبلاد يتضمن رؤيته السياسية لنظام الحكم و تصوره للنص القانوني الأسمى الذي يليق بتونس.
كما إتصل نص الدستور بقيس سعيد نفسه منذ أن قام بتعيين اللجنة الإستشارية المكلفة بكتابة الدستور و التي أوكل إليها مهمة إدارة النقاشات و صياغة التصورات و ترك لنفسه هامش التعديل والمراجعة والتدقيق و إصدار النسخة النهائية بالرائد الرسمي.
و ما يؤكد فرضية أن النص المقترح هو نص الرئيس قيس سعيد بإمتياز هو تصريح الأستاذ الصادق بلعيد الذي لم يكتفي بإنكار ما تضمنته النسخة المنشورة و التبرأ منها، بل قدم النسخة المقترحة على الرئيس لتنشر في كبرى الصحف التونسية ليستنتج التونسيون أن النص الذي بين ايديهم هو دستور الرئيس و ليس دستور اللجنة و أن دورها كان إستشاريا صرفا و أن المقرر الحقيقي للدستور هو قيس سعيد لذلك ليس من الموضوعية في شيء إنكار أنه حقاً دستور قيس سعيد.
أي دستور لتونس؟
منذ إندلاع أحداث الثورة التونسية أفضى تشخيص التونسيين لخصومتهم مع منظومة الحكم إلى أن دستور البلاد هو العائق الحقيقي أمام تحقيق تطلعاتهم، و بالرغم من أن مطالب الثوار كانت إجتماعية بإمتياز إلا أن الإنحراف بها نحو المطلبية السياسية تم بطريقة إحترافية من قبل الفاعلين السياسيين الذين إنشغلوا بكيفية الوصول إلى الحكم و أهملوا طريقة إدارته بما يضمن تحقق الأهداف الحقيقية للثورة.
كما لم يصطبغ دستور الثورة كثيراً بما أعتبر خلال أيام الثورة بثوابت تونس الجديدة ضمن مسار متعثر للإنتقال الديمقراطي فلم تفلح دسترة الحق في التشغيل و الكرامة في تغيير واقع التونسيين و إنما أعتبرت هذه المسائل ذرا للرماد و وسيلة إضافية للمزايدة السياسية.
يمثل الدستور بالنسبة للتونسيين قاطرتهم نحو وضع سياسي مستقر قادر على إستتباعه بوضع إقتصادي و إجتماعي يكفل لهم كرامتهم و حقهم في العيش الكريم لكن هذا الطرح أدى إلى التعسف على نصوص الدساتير و محاولة إثقالها بشتى الإلتزامات المحمولة على الدولة و التي لم تتورع في عديد المناسبات عن الإخلال بها و التنصيص عليها لمجرد التنصيص فقط.
لكن الشارع التونسي و إن رفع سقف إنتظاراته فإنه لا يمكن التغاضي عن حقه في دستور يلزم السلطة ببناء الجمهورية الديمقراطية الإجتماعية المنشودة و أن تتعهد بتحقيق العدالة الإجتماعية و أن تكرس مساواة حقيقية في تحمل الأعباء و الحقوق و خاصة أن تحسم موقفها من مسألة التطبيع تماهيا مع ضمير الشعب التونسي الذي و إن طال أمد تطلعاته فإنه "لا بد أن يستجيب القدر".