آخر ساعة

غسّان كنفاني في ذكرى استشهاده شهيد "أرض البرتقال الحزين".

كتب الطايع الهراغي: السّبت08 جويلية 1972/ الثّامنة صباحا في بيروت العاصمة الاستثنائية التي أرادت أن تكابر لتكون رمزا لعصمة ما،  غسّان يودّع بيروت الفلسطينيّة، يودّع فلسطين دون سابق إنذار.

حملها وشما في الذّاكرة ورحل صحبة ابنة أخته  لميس  ابنة السّبع عشرة سنة.  فرّق بينهما المكان والمحنة، هي في الكويت وخالها وصديقها وحبيبها -الذي أهدى إليها باكورة إنتاجه الأدبيّ- في لبنان، ووحّد بينهما الاستشهاد . 
استكثر عليه الأعداء فرصة اختيار شكل موته وحجم قبره ولون مرثيّته وتراتيب استقبال المعزّين.    
أن تكون فلسطينيّا معناه أن تخاتل الموت، أن تسترق لحظات لإشاعة فرحك وحلمك وهواجسك بين النّاس، لعلّ الموت  يستبقك ويباغتك في غفلة منك ومن الصّدفة التي أبقتك حيّا.

عليك أن تنجز  في حيّز زمنيّ قياسيّ تسترقه من مخالب الزّمن  بعد أن تراوغ من يراودك على حلم هو ليس حلمك وحدك - ما يغيظ العدى ويغبطك عليه  العدوّ قبل الصّديق. عليك أن تنبِــت ما به تكتسب حقّ الانبعاث حيّا يوم يجتمع الشّهداء في ساحة التّحرير يتذاكرون إسما وفعلا وحلما وشجنا ورغبة جنونيّة في الالتحام بالأرض والانغراس فيها.  
سلامي إليك /سلامي عليك 
 إلى أن يتدبّر الوليد فراشة يتوسّدها في العراء  يستدلّ بها على الأفق.
 إلى أن يستكمل الشّهيد نزوته في اختلاس الأحلام.
سلامي عليك، وحنيني إليك، وخوفي  عليّ وخوفي عليك ما ظلّت القدّيسة 
  فيروز ترتّل بذلك الصّوت الملائكيّ -هياما بأسطورة العشق الفلسطينيّ- "سنرجع يوما إلى حيّنا". 
السّلام عليك ما دمت متيقّنا أنّ موتا عن موت يفرق، وأنّ خيمة اللاّجئ لا تشبه في شيء خيمة الفدائيّ. سلام إليك انت الذي لم يصدّق أنّ الخيانة قد تصبح يوما وجهة نظر.
عليك السّلام، وإليك السّلام طالما أخوك الذي ولدته أمّك "فلسطين" سكنه اليقين أنّ الشّهداء أبدا لا يموتون وأنّهم لا بدّ يوما ما عائدون. 
سلام هو السّلام ما ظلّ شاعركم   مدينا بحياته لمحظ الصّدفة  "مازلت حيّا/ ألف شكر للمصادفة السّعيدة".( محمود درويش).    

 
حزني عليك / وأكثر حزني عليّ ما ظللنا نحصي مآسينا مع ملك على عرشه انطوى، وطاووس منه المُلك ارتعب، وشاويش على سيّده انقلبا، وخيانة من قصر إلى قصر تتسرّب تعلن في القبائل أنْ حيّا على السّلام .تراود من يريد أن يتسلّل إلى بيت الطّاعة  في غفلة ليخاتل  من  قد يتّهمه  بانحباس التّفكير وتعطّل عمل الحوّاس مادامت التّوبة قد تأخّرت كثيرا كثيرا.       
سلامي إليك ما دامت العروس يوم ودّعها حبيبها وداعا كانت تدرك بالحدس أنّه ربّما يكون الوداع الأخير كتمت حزنا، حبست دمعا، اعتصرت ابتسامة  وشردت تبحث عمّا به يلبس الحزن جبّة الفرح. ويوم زفّوا إليها خبر استشهاده لم تنزو في ثياب الحداد  وما انتبذت مكانا قصيّا .     
 حزني عليك شقيّ. . عجزت عن تخيّل حجم الحزن الذي لبس عكا ويافا  والوجوم الذي اعتلى وجه بيروت والحنين الذي هـزّ أرض البرتقال الحزين  ولون الهلع الذي سيّج  المخيّم  ساعة تشييعك من ديار أحبّة إلى حفل رفاق ينتظرونك بكثير من الشّبق. فأقمت لك بين أضلعي  ما إليه آوي وأداري فيه حزَني وشجني وولهي وهلعي. خيمة فيها يتسامر اليتامى والحيارى وعشّاق البلد يتذاكرون ما يبدّد النّسيان .
جزعي عليك. فأنا لا أحبّك  إلاّ بقدر ما أذوب فيك كرها لألتاع بحبّك أكثر. 


قلّة هم الذين  لمّا عنهم تكتب  فإنّما عن بعض منك ومن هواجسك تتحدّث. حملوا وزر قضيّة هي في الأصل قضيّتك ، خلّدوها فخلّدت فعلهم   وهمّهم  وهواجسهم . تدثّروا بها من غوائل الزّمان فتدثّرت بهم من غدر بني عربان. 
غسّان كنفاني  أحد هؤلاء المتيّمين بقضيّة: فلسطين تسكنه أو يفنى دونها. منحته أمومة فلسطينيّة بمأساة فلسطينيّة ذات يوم في عكّا وأبى الوافدون من الأزمنة الغابرة وبعض من بني ملّتنا من العربان العاربة إلاّ تهجيره فحملها معه دمّلا يذكّره دوما بأنّ الجرح  للجرح بلسما. فمتى يندمل؟ وليس له أن لا يندمل. كيف يتحوّل الجرح إلى وسام؟ كيف تكون عذابات التّشريد  ووخز الحلّ  والتّرحال  إيذانا بعودة قد تطول رحلتها. ولكنّ السّبيل إليها مرصود ومعلوم. ف"الطّريق إلى فلسطين  ليست بالبعيدة ولا بالقريبة. إنّها بمسافة الثورة."  (ناجي العليّ). 
كيف تصبح الكلمة  للوطن تضاريس؟ كيف يكون الجرح قلادة؟ كيف يتحوّل الدّمّل من وخز ضمير إلى ضمير يصحو؟. كيف تحتضن الكتابة الذّاكرة، تتوسّدها وترتاح على راحتها وتشيد وطنا في انتظار تحرير الوطن؟.  ذلك هو غسّان كنفاني. وذلك ما أدركته غولدا مائير رئيسة وزراء حكومة العدوّ الصّهيونيّ يوم احتفلت على طريقتها باغتيال الكتيبة الفكريّة المتنقّلة "اليوم تخلّصنا من لواء فكريّ مسلّح".  
تناثرت الدّماء وتناثرت الأشلاء، وما خبت الفكرة.  
طوبى للفلسطينيّين بعدد شهدائهم، وويل لهم  يوم يتوافدون لتشييد النّصب التّذكاريّ للشّهيد المجهول. وكلّ شهدائهم معلومون بالإسم والعلامة وما تبقّى من رائحة دماء  توحّدت بالأرض لتدلّك على هويّة الشّهيد .        

أين سيوارون جثامين شهدائهم -إن عثروا على بقاياها - وكلّ قبر في كلّ شبر مقدّس من أرض مقدّسة ؟؟.أيـــن؟؟                                                

 "آه مـن يرثـي بركانـا" 
هكذا قال  شاعر يوميّات الحزن العاديّ في حضرة الغائب للحظة الحاضر دائما منذ فجّر أوّل عمليّة فدائيّة، الإعلان عن وجود أدب مقاوم في الدّاخل  لمّا كانت المقاومة الفلسطينيّة تتلمّس الولادة العسيرة لتتخلّص من لعنة الاتّكال على خارج يتمرّغ هو الآخر في مآسيه التي لا تنتهي.

غسّان الذي بشّر فلسطينيّي الشّتات بأنّ إخوة لهم هناك  في أراضي1948  يكتبون شعرا مقاوما  لا يعيش الداخل إلاّ من خلال ما تراكم في الذّاكرة عن  محنة النّحس الأوّل والهجرة القسريّة وعذابات اللّجوء والتّشرّد في عالم كلّما اتّسعت دائرته وصحاريه ضاقت آفاقه. فمن لا وطن له لا منفى يليق به، ولا بحر يسع مداه ويداعب رؤية تموت شبقا لكي تتحوّل إلى رؤيا،  ولا بـرّ يقيم فيه قبرا يشكّله على هواه ويزوره متى حـــنّ إلى طفولة  لن ييأس من استعادتها حلما جميلا . 
" لنزرع شهداءنا في رحم هذا التّراب المثخن بالنّزيف/فدائما يوجد في الأرض متّسع لشهيد آخر   (غسّان  كنفاني)


 ونسأل غسّان " ما اسمك الآن؟
--"لا شيء / تبعثر إسمي مع أشلائي/  
حين تعثرون على أشلائي تعثرون على إسمي"