ثقافي

صيف المحنة أوالامتحان

بقلم محمد جابلّي

في التقويم الفلاحي كما في الوجدان السياسي هناك مواسم وأشهر لها سيمات وعلامات، من ذلك أن أن اكتوبر في ذاكرتنا هو شهر العودة وأن جانفي هو شهر الثورة والاحتجاج وأن جوان وجويلية هما شهرا الامتحان حيث يكرم المرء أو يهان...
محنة الامتحان أو الامتحان والمحنة...من منا لم يُرهبه الامتحان ومن منا لم يفرحه الامتحان...حصاد الجهد والمثابرة فيه ما فيه من منطق العقل وذاكرة التعلم والتدبر وفيه ما فيه كذلك من ارباك اللحظة وخلجات الدواخل...جهد وذكاء من جهة وصبر وعزم من جهة ثانية ...
تلك الدوائر باجتماعها تمثل لحظتنا اليوم، كمواطنين فينا الصالح ومنا الطالح... فينا الخبيث ومنا البريء...فينا الإمعة ومنا الحكيم المتدبر...فينا المتواضع ومنا الجبري المتكبر...
نحن هنا نواجه لحظتنا بما في الذاكرة من طبقات وما في الحلم من ارهاصات وومضات...ساقنا الأمل وكف عندنا العمل...تذكرنا تضحيات الجدود لكننا قابلناها بالقعود بل بالجحود...
بدا لنا أن الدكتاتور الراحل كان يخبيء عنا المرايا ويحجب عنا ذواتنا بما فيها من براءة أو مكر من فكر ووجدان وحلم وشعر وطاقة وعمل ومن مكائد الحيل وكأنه يقول في ذاته: "أنتم صبية لا تعلمون من صالحكم شيئا وأنا كفيل بكم في سرائكم وذرائكم" خبأ المرايا كما يفعل كل مستبدّ وبدا لنا في ثورتنا المزعومة أننا استعدنا تلك المرايا العجيبة ...مرايا الحقيقة...حقيقتنا كأفراد وجماعات...فانبهرنا بصورتنا الواهمة الأولى بحثنا عن الجمال المنشود...لكن لما توضحت الرؤية بدت لنا تعرجات وتشوهات هي غير بعيدة عن حقائق وجودنا...
"الصيف ضيعت اللبن" يقال لمن يطلب شيئا في غير موعده...لمن فوت أمرا عبر رعونة سابقة...كلنا كنا شركاء في فشل مرحلة منا الفاعلون ومنا المصفقون ومنا الحالمون ومنا المنتظرون والمنظرون... شتتنا الفعل ووحدنا الخذلان بدرجات ...
التنظيرات الساذجة قد تلائم أوضاعا أخرى لكنها لا تلائم ما نحن فيه...النظر لوضعنا المربك في سياقه التاريخي الخاص وفي التجربة التي شهدنا وفي امتداد زمني فيه بدايات ونهايات وأحداث ووقائع ...
رحلة الشتاء والصيف...بين ديسمبر وجانفي و جويلية رحلة الأحلام المدخولة بالكوابيس...تذكرت بوتلّيس وأسطورة اختناق النائمين...بين البذر والحصاد مسافة ...
تذكرت أحد العناوين "حصاد الهشيم "
ها نحن هنا أو هناك...بعضنا يمسك بحلم ضبابي وبعضنا يصر على القعود والردّة...
25 جويلية استفتاء وامتحان ...وفي الامتحان محنة ربط المقدمات بالنتائج...المعرفية والنفسية...الناجح بتميز والناجح بدعم وتأجيل...وهناك أيضا الراسب والساقط...ولا ننسى كذلك المقصي المعاقب الذي زيف وزور وكذا المتغيب المنقطع...
كلنا هنا وهناك...صوت النخب المنظرة، صوت الشاشات...كل ذلك لا دور له...هناك اصرار غامض وغير مرئي هو الذي سيكون فاعلا في الإرادة العامة...ذلك الصوت المهان وغير المسموع في مراحل سابقة ...صوت الآفاق البعيدة والعميقة...ما قبل الايديولوجيا وما بعدها...صوت غير معني بالدساتير والفصول... غير معني بالحداثة وما بعدها ولا بالعقيدة ومقاصدها لكنه معني بالغايات...معني بالمعاش والمعاد ... صوت فيه ردة فعل على حلم مغدور وزمن يتصاعب بعبارة صديقي حبيب الحمدوني...
امتحان جويلية يراد منه الخروج من النفق ...لكن الامتحان الأكبر هو امتحان البناء والوحدة الوطنية وترميم ما تشظى بدل" البكاء على اللبن المسفوح" كما يقول أهلنا المصريون ...
المواطنة الحرة ستنتصر ولا حكم إلا للصدق إن تخلينا عن الأنانيات ومحدودية الأفق...أصحاب راية "لا" لهم مبرراتهم المعلومة والتي لا تخفى على ذوي بصيرة وأصحاب راية "نعم" لهم مبررات وحلم وأفق لكنه أفق مشروط بالعمل وتغيير العقليات وانفتاحها ...وحراسة مقدرات الوطن...
اعتمدت منذ زمن استعارة "القشة" تلك التي قصمت ظهر البعير من جهة أم تلك التي علق بها الغريق قصد النجاة...وذكرت قول الشاعر: "ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل" والأمل معقود ليس بالمنظرين الذين يلوكون المصطلحات العامة وليس بالسياسيين الذين يلوكون الشعارات الجوفاء بل بالإرادة الصادقة وممكنات الخير والعمل وهي كثيرة ... تلك الارادة التي لا تحققها الدساتير طويلة أم قصيرة تقدمية أم رجعية بل تتحقق بصلاح المواطنة ووضوح النوايا وصدق المساعي وجماعية الوجهة...
يحققها ذلك الصوت المهمش والمغيب وغير المسموع صوت الجموع بعموم همها وشقائها وخيبات انتظارها...انتظار حلم جماعي في التنمية والعدالة الناجزة بعيدا عن التبلعيط والتلهويث تحت اللافتات والاضواء... 

(يتبع)

نشر في عدد شهر جويلية 2022 من ملحق منارات الفكري