نقد النقد النقدي* "سمير أمين "و"حسن حمدان"(مهدي عامل) ومغامرتاهما النظرية
———————————————————————"حسني عبد الرحيم"
ربما لم يستحوذ ماركسي عربي إلا المصري "سمير أمين" مثل هذه الشهرة العالمية الإيديلوچية بينما "مهدي عامل"كان ومازال له مريدون في البحوث الجامعية ،كلاهما من إنتاج الأكاديمية الفرنسية بألأساس، وكلاهما ذو إرتباط عضوي بهذا المجتمع وثقافته عبر الدراسة ثم الزواج وكذلك طريقة التواصل والمرجعيات .
"مهدي عامل" لبناني جنوبي تلقى تعليمه الثانوي ببيروت فى مدرسة المقاصد وأنضم للحزب الشيوعي اللبناني الذي كان توجهه سوفياتيا يتغير حسب التغيرات في موسكو من ستالينية متشددة الى برچنيفية عجوز ،وصار عضوا ثم قياديا بأللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني عشية الحرب الأهلية الطائفية.
في "ليون" شرع بدراسة الفلسفة بدءآ من الليسانس، وبعد إتمام أطروحته عمل بعض الوقت بألجزائر وعاد ليعمل أستاذآ للفلسفة في الثانوي ثم بألجامعة اللبنانية ويناضل في صفوف الحزب، وقضى نحبه شهيدآ برصاصات يمينية على الأرجح !
"سمير أمين" ولد بألقاهرة من أب مصري وأم فرنسية وحصل على البكالوريا من ثانوية هنرى الرابع المرموقة بباريس في الرياضيات وأستكمل تعليمه بألأكاديميا الفرنسية وكانت أطروحته حول "التراكم على الصعيد العالمي" ونُشرت في كتاب في بداية ألسبعينات وبعد أن عمل لفترة قصيرة فى المؤسسة الإقتصادية لنظام 23 يوليو وكذلك إنخرط في عضوية قصيرة فى الحزب الشيوعي المصري(الراية)(إسماعيل صبري عبد الله وفؤاد مرسي) و ذهب للإقامة في فرنسا(1957) كفرنسي بُحكم المولد عشية حملة إعتقالات للشيوعيين المصريين التي أستمرت حتى إعلان الإشتراكية العربية وحل الحزب لينخرط مناضلوه في الإتحاد الإشتراكي العربي!
كان إصداره الأول بأسم حركي (حسن رياض) بألفرنسية (مصر الناصرية)، وصول سمير لفرنسا (الثاني) تزامن من المناظرة الصينية السوفياتية ومؤتمر باندونج و"حركة عدم الإنحياز "(شواين لاي- عبدالناصر -نهرو- تيتو)وكانت مواقفه تأييدآ للموقف الصيني المعروض في "المناظرة الصينية-السوفياتية" بما فيه من موضوعة الإمبريالية الإشتراكية! وكانت فرنسا آنذاك تشهد بدايات حركة ماوية متصاعدة على رأسها مصري آخر هو "إيلي ليفي" (اليسار البروليتاري) وبقى الأكاديمي أمين بعيدآ عنها فلقد طور مع الوقت ماويته الخاصة جدآ.
وكان اليسار المصري- الماوي الباريسي قد طور تحليله الخاص بخصوص طبيعة الناصرية ممهورة بتوقيع "محمود حسين " - الصراع الطبقي في مصر- ("بهجت النادي" و"عادل رفعت"("دانييل ليفي" شقيق إيلي) وهو الكتاب الذي سرعان ما ترجمته الحركة السرية المصرية آنذاك ولم يصدر علنيا في مصر لكن أطروحاته كان لها تأثير واضح على "تنظيم شيوعي مصري"والذي تحول ل"حزب العمال الشيوعي المصري" ذي القاعدة الطلابية المتينة!
كان الحزب الشيوعي الفرنسي تحت النفوذ الإيديولوچي السوفياتي و لمفكره ذلك الحين "روچيه جارودي "لكن أستاذ الفلسفة فى "الإيكول نورمال" بشارع أولم "لويس التوسير" ،وتحت تأثير ما يجري بألصين -القفزة الكبرى للأمام ثم الثورة الثقافية - بدأت تظهر عليه أعراض ماوية ثم بنيوية بفعل الأثر العام الذي تركته بحوث الأنثربولچي "كلود ليفي شتراوس "حول الثقافات البدائية، سرعان ما تحولت حلقة ألتوسير بشارع" أولما" لقطب نظري بعد صدور "قراءة رأس المال" و"الدولة وأجهزة الدولة الأيدلوچية"!مايميزها هو تطبيق التحليل البنيوي والبحث عن علم ماركسي في رأس المال الذي تعتبره أحدث قطعآ Rupture مع ماسبقه من أعمال ماركس.
"سمير أمين "عمل مستشارآ لحكومات عديدة منها حكومة الصين وكينيا وعلى الأخص كمبوديا بقيادة الخمير الحمر ،وتبوأ مناصب رفيعة فى منظمات دوليه حتى كمساعد للأمين العام للأمم المتحدة بينما كان طوال الوقت أستاذآ بجامعة بواتييه، فيما "حسن حمدان" لم يرتبط أسمه بأى تعاون حكومي هو فقط عمل بألتدريس للفلسفة فى المعاهد الثانوية والكليات الجامعية فى الجزائر ولبنان!
لأمر في نفس يعقوب نضع المؤلفين المعروفين في مصفوفة واحدة ذلك بأننا ندعي أنهما أيديلوچيآ ينتميان لنفس المدرسة الفكرية الجامعية ! نحن بألأحري لانتناقش مع تيار فكري في المجتمع بل تيار ضمن الدراسات الجامعية كان المرحوم "بيري أندرسون" قد وصفها بألماركسية الجامعية ولأن الماركسية حمالة أوجه ولايمكن تعريفها إلا بألسالب.."ليست إقتصاد وضعي ولا فلسفة تأملية ولا علم إجتماع تصنيفي"(دانييل بن سعيد في "ماركس المتجاوز للزمن") فكيف نخلي ذمتنا من التقليل من شأن كاتبين كلاهما كان يدعي بأنه مطور ومنظر لما كتبه كاتب من القرن التاسع عشر(كارل ماركس )وتكونت على ضفاف تحليلاته حركة عالمية تحولت لقطب في الصراع الدولي(الكتلة الإشتراكية) وكذلك حركة عمالية هائلة منظمة تصارع الوارثين الرأسماليين لإمبراطوريات القرن التاسع عشر على الهيمنة العالمية ،ثم تحقق الإنتصار في بلد واحد وتتوسع لكتلة أوربية بعد الإنتصار في حرب عالمية ثانية ضمن تحالف دولي أنتصر فيها الحلفاء على محور الفاشية والنازية،وأعقبها مؤتمر يالطا لتقاسم النفوذ بين المنتصرين اللذين أضحوا خلال سنوات معسكرين.
كان هذا هو المناخ الدولي الذي أُنتجت خلاله أطروحات الكاتبين المشهورين ، وعلى المستوى العربي كانت هزيمة 1967 وبزوغ المقاومة الفلسطينية المسلحة والمعارضات الطلابية للسلطات الشمولية والتى كانت في مأزق أيدلوچي عميق بعد تبني يسراوية سطحية لم تمكنها من الخروج من المجال الطلابي!
"سمير أمين "كان من أغزر كتاب عصره فله على الأقل أربعين مُصنف غير الأوراق الجامعية وعلى الرغم من هذا كله يمكننا دون تردد إختصار حصيلته الفكرية في موضوعين هما "التراكم على الصعيد العالمي" ونظريته "للمركز والمحيط"! والإستنتاجات السياسية المترتبة عليهما مثل التحالف الديموقراطي الثوري وفك الإرتباط بألسوق الرأسمالية الدولية كمعبر وحيد لتحقيق التراكم الأولي ضمن أفق إشتراكي!
السؤال البسيط ماهي الإشتراكية الأمينية؟ هي بطبيعة الحال إشتراكية فلاحية ولم تجد تصوراته تطبيقآ لها سوى في حكم "الخمير الحُمْر" بكمبوديا والذي مارس الإرهاب المُعمم الديكتاتوري ضد الفلاحين بألذات لتجميعهم في مشروع ديسيوتوبيا مرعبة راح ضحية له عدة ملايين من الفلاحين وأستمر أمين يؤيده في مواجهة ما سماه محاولات الهيمنة الفيتنامية!
نُشرت غالبية أعمال" أمين" بعد ترجمتها للعربية سواء في بيروت ثم القاهرة والرباط ولم تشكل أساسا لأى تجمعات سياسية وخاصة في الحركة اليسارية والعمالية المنظمة في موطنة الأصلي(مصر)!ولكنه حاز على شهرة كبيرة في الأوساط الجامعية ،وهذا منطقي فمصر كانت ومازالت مسكونة بأللحاق بألتقدم الحديث، ولم تكن حتى في ظل الناصرية ترى مستقبلها في الشرق السوڤياتي على الرغم من التشابه في المجالين الإقتصادي والسياسي(قطاع عام صناعي -حزب دولة واحد- ديماغوجيا قومية و إجتماعية)!
خارج بعض الدوائر الأكاديمية لم يكن هناك أى جماعة سياسية منظمة تتبنى مقولات "أمين"فقط بعض البحوث الجامعية! حتى في المحيط العربي هناك إحترام بالغ لأمين(وهو يستحقه!) لكنه لم يتجاوز معوقات تكوينه خارج الحركة العمالية المنظمة! ووفق تقاليد التيار الأيدلوچي الأعمق في فرنسا بعد الحرب العالمية والإحتلال النازي ثم التحرير بواسطة الجيوش الأمريكية وهذا التيار هو الكاثوليكية الإجتماعية بغطاء وشعارات ماوية -فلاحية في جذرها العميق -أو حتى فوضوية الحرفيين الصغار ("چيل مارتينية "في كتابه "غزو السلطة"1970)
المعطى الرئيس ل"أمين" و"مهدي" هو فيما يخص نمط الإنتاج فبحسب ماركس هناك أنماط إنتاج عُرفت عبر التاريخ من المشاعية البدائية مرورا بالعبودية ثم الإقطاع واخيرا ألرأسماليه وأستثني بلاد الشرق فيما يسميه نمط الإنتاج الآسيوي "حيث انتفت الملكية الخاصة للأرض!الجوهري في عُرف ماركس هو الطريقة التى يتحقق بها الفائض الإجتماعي والرأسمالية فى جوهرها العمل المأجور والرأسمال اللذان يتخلق في ظلهما علاقات الإنتاج الرأسمالية الحديثة! لأسباب مركبة لم يرتض المفكران تفسير التاريخ الاجتماعي الشرقي وفق هذا المفهوم الذي إرتبط احيانا بتفسيرات" استشراقية-إستعمارية"وكذلك بظلال تروتسكية عمالوية متطرفة ذات نزعات مركزية أوربية! بينما على الجانب الآخر أرتبط مخطط المراحل الخمس بألستالينية العقائدية.
الحيلة التي خرج بها" أمين" من المأزق هي في إختراع مفهوم جديد هو"نمط الإنتاج الريعي' بينما خرج مهدي بحيلة مختلفة شكليا هي "نمط الإنتاج الكولونيالي"(مقدمات نظرية:لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني)..بالنسبة ل"سمير" الجوهري هو تحقيق الفائض عبر ريع الأرض وليس عبر العمل المأجور !وبألنسبة للكولونيالي أرتكز لدى "مهدي"فقط بألتبادل الغير متكافئ في ظل إرتباط بنيوي بألمركز الإمبريالي!
هناك تداعيات منطقية في حالة "أمين"هي العودة لإقتصاد فلاحي غير مُصنع لفك الإرتباط وهو ماحدث بألضبط في كمبوديا التى رعاها "أمين" ودافع عن جبروت جماعة الخمير الحمر !ومن الناحية السياسية فألحل في تحالف ديموقراطي ثوري مُبهم ولكنه صدى لأطروحة "ديموقراطية الطبقات الأربع" العزيزة على ماوتسي-تونج والتى كان مآلها الوحيد الممكن هو شبه رأسمالية متوحشة بدون نقابات ولا تمثيل !
بألنسبة ل"حمدان" لم تر مقترحاته النور سواء في حزبه الخاص الذي ظل يتأرجح بين الستالينية ثم الديموقراطية الإجتماعية والبرچنيفية في طورها الأخير قبل الموت، وكانت الحرب الأهلية اللبنانية مؤذنة بخروجه من المشهد السياسي اللبناني الفضائحي!بعد إغتيال "حمدان" وأيقنته بدأت مجلة "الطريق"( ندوة القاهرة-محمد دكروب)بمحاولة ترويجه في المحروسة، وهو أمر كان صعب للغاية. هناك بعض الأصوات المحيطية في تونس تردد مقولاته في مناسبات ربما لتشابه فى التكوين الإجتماعي وللثقافة السياسية ولكنها أصوات في الهامش السياسي فقد أحتل هذه المساحة "ماوية-خوجية"مشابهة ماعدا في الزي .
تبقى موضوعة "ماركس" حول الأسيوي قابلة للتطبيق الخلاق كما قام'بذلك "أحمد صادق سعد"في كتابه العمدة "تاريخ مصر الإقتصادي الإجتماعي في ظل نمط الإنتاج الأسيوي" هو المتتبع الفعلي لنزح الفائض من الفلاحيين في بلد معين، وعلاقات الملكية والركود المتكرر في نمط الإنتاج والإستبداد السياسي والعودة المتكررة للتنظيم القديم بشكل متوسع! مافات "سعد" هو أن نفس المخطط يمكن أن يقدم تفسيرآ للنمو السوڤياتي فيما بعد والصيني اللاحق بإعتباره نمط أسيوي مُصنع و مرتكز على العمل الإجباري!
ليس في نيتنا في هذه العجالة الدفاع عن ماركسية أصلية ولا حقيقية لم توجد قط ولا عن علم العلوم بألتاريخ (حمدان) !
كان" كارل ماركس "يتعارك مع ظله (دانييل بن سعيد) الماركسية تتكيف مع التكوين الإجتماعي الذي تحلله للتدخل في صراعاته ،وكان كتاب "رأس المال" هو نتاج عمل ماركس على الإقتصاد الرأسمالي الصناعى الأول في التاريخ في إنجلترا حيث أُنتجت المفاهيم الأولى للإقتصاد السياسي(آدم شميث )!
بينما من سوء حظ الشهيد"حمدان" أن يتواجد في ظل بنيان إجتماعي غريب عن كل أنماط الإنتاج المعروفة وطفيلي طائفي ويستمد وجوده فقط من التوسطية المافيوزية في التعاملات العربية والدولية بما لايسمح بتكون طبقات إجتماعية بألشكل والمضمون المتعارف عليهما.
أما "أمين "والذي كان يتمتع بثقافة إقتصادية وماركسية نادرة فقد منعه التواجد الدائم في شرق أفريقيا ومحبته المنطقية للماوية كتعبير أيديلوچي عن الفلاحين و للخمير الحُمْر بعد طبعهما(ماركسيته وماويته) بنزعة أخلاقوية كاثوليكية-إجتماعية( سادت في أوساط اليسار الفرنسي الستيني) منعه هذا من الإطلال على تطور رأسمالي حديث شمل بلاد ككوريا الجنوبية والهند وماليزيا والبرازيل دون أن تقطع الحبل السري مع السوق والرأسمالية العالميه!
رحم الله الجميع وأسكنهم فسيح جناته.
——————————————————————————————————————
*العنوان مأخوذ من كتاب شهير ل"كارل ماركس" في نقد اليسار الهيجلي (أوتو باور وآخرين) وهى أمور متشابهة والأوضاع تسمح لنا بإستعارته
*نشر المقال في عدد سبتمبر 2022 من الملحق الفكري لجريدة الشعب " منارات "