اضطهاد وبؤس في "أسعد بلد بالعالم": الدانمارك سرقت أبناء السكان الأصليين وعقرت نساءهم
الشعب نيوز / كعب . لا تكاد صفحات التاريخ الاستعماري لأي من قوى الغرب التي تتبجح في أيامنا هذه بأنظمتها الديمقراطية و"احترامها" لحقوق الإنسان، تخلو من فصول قاتمة امتهنت كرامة وآدمية الشعوب المستعمَرة.
يشهد على ذلك مثلا ماضي فرنسا الاستعماري في الجزائر، وإبادة شبه كاملة للهنود الحمر على يد الرجل الأميركي الأبيض، وصولا لمقابر العار الجماعية للأطفال التي كشفت مؤخرا سوءة الكنديين وماضيهم المخجل.
لكن أمثلة هذا الاضطهاد والمس بكرامة الشعوب الأصلية تكاد لا تنتهي، إذ أظهرت تقارير حديثة ممارسات استعمارية يندى لها الجبين في الدانمارك، البلد الإسكندنافي الذي غالبا ما تقترن صورته برغد العيش ويتبوأ صدارة بلدان العالم في مؤشرات "السعادة".
بيد أن سعادة الدانماركيين بُنيت على ما يبدو على أنقاض تعاسة وبؤس شعوب أخرى، حيث اتفقت حكومة هذا البلد مؤخرا وبشكل رسمي مع السكان الأصليين لغرينلاند (شعب الإنويت أو الإسكيمو) على بدء التحقيق في فصل مأساوي من تاريخ البلد الاستعماري، شهد ممارسات قسرية لتحديد النسل خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي على آلاف من بنات ونساء الإنويت.
وتعتبر غرينلاند، وهي الجزيرة الأكبر مساحة في العالم، تقسيما إداريا يحظى بحكم ذاتي داخل مملكة الدانمارك منذ عام 1979، وتقع بين المحيط المتجمد الشمالي والمحيط الأطلسي، شرق أرخبيل القطب الشمالي الكندي.
- ألم جسدي وعاطفي
وتشير الوقائع التي كشفت عنها في بادئ الأمر مواقع إعلامية دانماركية، إلى أنه جرى في تلك الفترة تركيب جهاز داخل الرحم، "آي يو دي" (IUD) المعروف باسم اللولب، للآلاف من نساء وفتيات الإنويت دون دراية منهن بوظيفته أو جدواه، من أجل حرمانهن من القدرة على الإنجاب.
وستفحص لجنة مختصة ممارسات منع الحمل القسري هذه التي نفذتها السلطات الصحية الدانماركية في غرينلاند، وفي مدارس في الدانمارك كانت بها طالبات من قومية الإنويت.
ووفقا لمجلس حقوق الإنسان في غرينلاند، فقد تم انتهاك الاتفاقيات المتعلقة بالحياة الأسرية والخصوصية من خلال هذه الممارسات.
وقد أظهر تسجيل صوتي "بودكاست" (Podcast) صدر حديثا في إطار حملة اصطلح عليها اسم "سبيرالكامغنن" (Spiralkampagnen)، أي "حملة اللولب" باللغة الدانماركية، سجلات تشير إلى أن ما يبلغ 4500 امرأة وفتاة، أي حوالي نصف جميع الإناث في مرحلة الخصوبة حينئذ في غرينلاند، زرع لهن لولب بين عامي 1966 و1970، لكن هذا الإجراء القسري استمر بعدها حتى منتصف السبعينيات.
ومن بين المتضررات، وفق ما ذكر تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" (BBC)، فتيات لا تتجاوز أعمارهن 12 عاما، وصرح العديد منهن علنا بأنه لم يتم إبلاغهن بشكل صحيح بالأمر، كما تشك بعض النساء اللائي أصبن بالعقم في أن اللوم يقع على اللولب.
- تبرير رسمي
وقد بررت السلطات الدانماركية حملة تحديد النسل القسرية هذه بأنها كانت قلقة بشأن الزيادة في عدد السكان في غرينلاند، وزيادة العبء الصحي والتربوي لتنشئة أعداد أكبر من الأطفال، الأمر الذي كان ليُمثل عقبة أمام تحسين وضع الجزيرة.
ومن أجل تبرير هذه الممارسات التي ترقى بنظر البعض لمستوى "الجريمة" بحق شعب الإنويت، نشرت مجلة "الجمعية الطبية الدانماركية" وهي المجلة العلمية الرئيسية في الدانمارك في المجالات الصحية والطبية دراسة تبرر حملة تحديد النسل بأنها جاءت نتيجة لزيادة معدل المواليد، وانخفاض كبير في الوفيات الناجمة عن مرض السل خلال عام 1971، مما ينبئ بانفجار سكاني.
وافترضت الدراسة وجود وسيلتين لمنع الحمل لحل الأزمة، وهما: الواقي الذكري واللولب الرحمي، واستبعد الباحثون الواقي الذكري بسبب "ظروف معيشة الغريلانديين المحدودة التي تجعل من الصعب عليهم الالتزام بالنظافة الشخصية الضرورية لاستخدام الواقي الذكري".
- فراق الأهل
فصل آخر من فصول اضطهاد أبناء الإنويت في الدانمارك، بدأ خلال الفترة الاستعمارية لغرينلاند، حيث كان المستعمر الجديد يمارس سياسة قاسية بحق السكان الأصليين، تخللتها تجربة أثبتت فشلها لاحقا وتقضي بفصل أبناء هذه القبائل عن عائلاتهم بغرض تعلم اللغة والثقافة الدانماركيتين.
واعتقد المستعمر الدانماركي مع بدء هذه التجربة خلال فترة الخمسينيات أن أفضل طريقة لتطوير الجزيرة هي عبر سرقة أطفالها، فأرسلت برقيات إلى الكهنة ومديري المدارس تطلب منهم تحديد الأطفال الأذكياء الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و10 سنوات في الجزيرة.
قامت التجربة الاجتماعية في بدايتها على فكرة أخذ 22 طفلا قسرا من أحضان والديهم، وإرسالهم إلى أسر حاضنة في الدانمارك، وبالفعل تم فصل الأطفال عن عائلاتهم ونسوا لغتهم الأم.
وقد تم وضعهم في دور رعاية للتأكد من خلوهم من الأمراض ثم عاشوا بعدها مع أسر دانماركية بالتبني، وبعد عام ونصف العام عاد 16 طفلًا منهم إلى غرينلاند، لكن لم يُجمع شملهم مع أسرهم الأصلية، بل أقاموا في دار للأيتام وارتادوا مدرسة دانماركية بصفتهم "نخبة" لا يتحدثون اللغة المحلية، مما جعلهم مهمشين في وطنهم الأم، فلم يتمكن من التقى منهم والديه بعد ذلك من التواصل الشفهي معهم.
ورغم بوادر فشل التجربة، فإن السلطات الدانماركية استمرت في خطتها في الفترة بين الخمسينيات والسبعينيات؛ فأرسلت آلاف الأطفال من غرينلاند إلى المدارس الداخلية الدانماركية، وشاعت حالات التبني، وتم الحديث عن بعضها في الصحافة المحلية على أنها "مشروعات خيرية".
- ندبات عميقة
ولم تنته هذه التجربة الأليمة دون أن تترك ندبات عميقة على ملامح حياة أبناء الإنويت، حيث أوردت "بي بي سي" في نتائج تقرير صادر عام 2020 بتكليف من الحكومة الدانماركية السابقة أن نصف أطفال التجربة عانوا لاحقا من مشكلات نفسية وأدمنوا على تعاطي الكحول، وتشرد منهم البعض أو ماتوا مبكرا أو انتحروا، في حين عاش البقية حالة اغتراب في وطنهم.
كما لا يزال لهذه التجربة الاستعمارية تأثير في العلاقة بين غرينلاند والدانمارك، حيث ما زال سكان الجزيرة يشعرون بأنهم مواطنون من درجة ثانية، ومما زاد هذه العلاقة تعقيدا وغذى مشاعر الغضب في نفوس الإنويت مجادلة الحكومات الدانماركية المتعاقبة بشأن مآلات التجربة، والرفض المتكرر لدعوات الساسة الغريلانديين لتقديم اعتذار رسمي عنها، بحجة أن التجربة كانت لها "آثار إيجابية" أو أنها جزء من الماضي.
ويبقى الاستثناء الوحيد من مسار التعنت الرسمي هذا، اعتذار رئيسة الوزراء الدانماركية مته فريدريكسن في ديسمبر 2020 بشكل شخصي إلى 6 من ضحايا التجربة، وموافقة كوبنهاغن على صرف تعويضات لهم لاحقا في مارس 2022.